ســعــاده والــفــنــون الــجــمــيـلــة
" إنّ فلسفة سعاده تتكشّف عن قضايا ومفاهيم جديدة سامية. وهي تحتاج إلى دراسات عديدة. إنّها تفتح إمكانيات إنتاج فكري جديد، يخطو بالمجتمع خطوة خطيرة نحو ذروة القوّة وغلبة الموت"، سعاده، (راجع نظرة سعاده إلى الإنسان) .
" آمنت أنّ الأمة السورية فن وإبداع لا مادة يتصرف بها فنان مبدع، آمنت أنها أمة فن، أمة خلق، أمة تنظر إلى الكون نظرة فاهمة، واعية، مدركة، فيها قوة التسلط على الكون، قوة التسلط على ما يقدمه الكون، فتستخدمه في فنها للسمو والجمال والخير. ابتدأ الإبداع بالوعي والإدراك والفن، فلا إبداع إلا بوعي وفن وإدراك"، ســعــاده.
بالرغم من مشاغله الحزبية المتعدّدة، فقد أولى سعاده الفن، بشكل عام، والفنون الجميلة، بشكل خاص إهتماماً ملحوظاً؛ فهو، اولا، اعتبر الفن ركناً أساسياً في بناء نظرته الشاملة إلى الحياة والكون والفن(1)، ومن جهة أخرى رسّخ المفاهيم الواضحة لمختلف الفنون الجميلة، من خلال ثقافته ومطالعاته وأبحاثه، ومتابعاته الدؤوبة لمعظم النشاطات الفنية .
سأحاول في هذه الحلقة إيراد بعض النصوص التي وردت في كتابات سعاده، وتتناول ما له علاقة بالفنون الجميلة في إطار الثقافة الأدبية والفنية التي حدّدها سعاده في كتاب "نشؤ الأمم" على النحو التالي: " الثقافة هنا بمعنى (CULTURE) وهي مجمل العلوم والفلسفات التي تتناول الحياة، وما له علاقة بها، وما يحصل من ذلك من مستوى عقلي واتجاهات فكرية واعتقادات مناقبية وإدراك للشؤون النفسية والمادية"(2). مؤكدا في ما أشار إليه، على قدرة الفنان والفيلسوف في تخطيط الحياة الجديدة للأمة: فــ " الفنّان المبدع والفيلسوف هما اللّذان لهما القدرة على الإنفلات من الزمان والمكان، وتخطيط حياة جديدة، ورسم مثل عليا بديعة لأمّة بأسرها(3)"..
الفن، بوجه عام، هو عبارة عن مجموعة متنوعة من الأنشطة البشرية في إنشاء اعمال بصرية او سمعية او حرية (أداء) للتعبير عن افكار المؤلف الإبداعية او المهارة الفنية والمقصود ان يكون موضع تقدير لجمالها او قوتها العاطفية. وهي تشمل، أيضا، الأنشطة الأخرى المتعلقة بإنتاج الاعمال الفنية كنقد الفن ودراسة تاريخه والنشر الجمالي له(4). ومن المتعارف عليه في الدراسات الفنية، أنّ الفنون الجميلة، تشمل الأدب، الشعر، الموسيقى، الرقص، المسرح، السينما، التصوير، النحت، الرسم، الحفر، العمارة، والرسوم المتحركة وفن الصورة، إضافة إلى الأدب والشعر. ومن التعاريف المتداولة لــ للفنون الجميلة، أنّها سبعة فنون عامة رئيسية تحوي كلّ منها مجموعة متدرجة من الفنون ضمن تسميات متنوعة حسب تصنيف إيتيان سوريو وهي: الموسيقى، السينما، المسرح (رقص، غناء، تمثيل)، السينما، العمارة، النحت والحفر، الرسم (الفنون البصرية).
تأسست نظرة سعاده إلى الفنّ، من ضمن فلسفته الشاملة، من إيمانه المطلق بأنّ الأمة السورية هي أمة فنّ وخلق، فيها قوّة التسلّط على ما يقدمه الكون، فتستخدمه في فنّها للسمو والجمال والخير.
من هنا قوله: نحن سلبيون في الحياة: " نحن بنظرنا سلبيون في الحياة، أي أنّنا لا نقبل بكلّ أمر مفعول يفرض، وبكلّ حالة تقرّر لنا من الخارج"(5). وقد تجسّدت هذه النظرة في النهضة القومية الإجتماعيةــ جوهر الأمة في الخلق والإبداع والإنتاج والتفوّق وبلوغ الغاية العظمى وآيات الخلود للأمة السورية .
قال سعاده في إحدى لقاءاته الثقافية: " يشهد هذا الاجتماع على أنني قد آمنت حقاً، وأنني عملت حقاً بإيمان. آمنت أنّ الأمة السورية فن وإبداع لا مادة يتصرف بها فنان مبدع، آمنت أنها أمة فن، أمة خلق، أمة تنظر إلى الكون نظرة فاهمة، واعية، مدركة، فيها قوة التسلط على الكون، قوة التسلط على ما يقدمه الكون، فتستخدمه في فنها للسمو والجمال والخير. ابتدأ الإبداع بالوعي والإدراك والفن، فلا إبداع إلا بوعي وفن وإدراك. وهذا الوعي الذي يسير بنا من حضيض سقطت إليه هذه الأمة، متجرّدة عن حقيقتها وضاع فيه وجودها، إلى مرتبة تستعيد فيها حقيقتها وقوّتها، ونظرها الفاهم، وإمكانياتها العظيمة، متحررة من قيود الظلم والانحطاط، فتنهض قوة عظيمة تريد أن تقبض على ما حواليها، وأن تحارب كل قوة تحاول اعتراض طريقها وصدّها. إنّ هذه النهضة تمثّل انتصاراً على اللاوعي، تمثّل انتصاراً على الجمود، إنها نهضة تعيد الذات إلى حقيقتها، تعيدها لتكون قوة فاعلة لا مادة يُفعل فيها، فهي، من هذه الناحية تمثّل انتصاراً روحياً عظيماً هو الشرط الأول في سبيل الانتصار المادي. إننا بهذه النهضة قد انتصرنا على اللاوعي لأننا حركة لا عدم، فالعدم ليس معناه انعدام المادة الجامدة بل معناه انعدام الحركة. والحركة نشاط وتقدم، وشرط الحركة في الانسانية أن تكون حركة ذات قصد. وإننا، نحن وحدنا، هذه القوة الجديدة في هذه الأمة الفتية، بعد شيخوخة، قد نهضنا حركة ذات قصد. ومن حيث أننا حركة ذات قصد، نحن نفس إنسانية حرة متحركة وقوة ذاتية فاعلة، لذلك نحن نسير ونتغلب على ما يعترض حركتنا من صعوبات. إنّ فينا جوهر الأمة، وجوهر الأمة هو الخلق والإبداع والتفوق، وقد وصلنا إلى هذا الانتصار بعد المعارك التي مضت، لأننا نسير إلى ما هو أعظم من هذا الانتصار، إننا قد وصلنا إلى هنا في مرحلة من مراحلنا لا إلى الغاية التي ننشدها، نحن في الطريق إلى غاية عظمى لهذه الأمة، نسير إليها مؤمنين واثقين ببلوغها ليس لأن كل من سار على الدرب وصل، بل لأن من يصل إلى الغاية هو الذي يعرف الغاية ويعرف الدرب. نحن قد نهضنا وارتفعنا فوق الجزئيات الحقيرة لأننا نعرف هذه الأمة خلوداً في آيات خالدة، فنحن نسير إلى هذا الخلود، إلى هذه الغايات الخالدة. هذه هي حقيقة هذه النهضة المؤمنة بشخصيتها. هذه هي حقيقتها، فإذا قلت، لو شئنا، أن نفرّ من النجاح لما وجدنا مفرا، قلت حقيقة بسيطة، فعلية، خالية من كلّ تبجح(6)".
إنّ ثقافة سعاده الفنية الملتزمة بقضية الأمة ورسالتها الإنسانية، تجدّ أساسها العملي في اتقانه لغات متعدّدة، ومواكبته الشخصية للنشاطات الفنية وفي مقدمتها الموسيقى والغناء والرقص والرسم، إضافة إلى الأدب والشعر. وفي ما يأتي لمحة عن أبرز الفنون الجميلة، التي تشكّل المنطلقات أو الأسس في نظرة سعاده إلى الفنّون الجميلة:
أولا: في الموسيقى
يقول المؤلف الموسيقي الكبير د. وليد غلميه، الذي أهدى سمفونيته السادسة "سمفونية الفجر" إلى روح أنطون سعاده، في الذكرى المئوية لولادته (1904-2004)، يقول: " أنا مقتنع تماما أنّنا في هذه البقعة من العالم، في أشدّ الحاجة إلى الثقافة والمعرفة. لقد جمعني بـ أنطون سعاده فكره النير ورؤيته المستقبلية، وثقافته الواسعة، ودعوته السوريين من الباب الثقافي المعرفي. عدا على أنّه كان من روّاد الإستيعاب الموسيقي العظيم. الإنسان بدون موسيقى، وفق سعاده، هو إنسان ناقص، ومن الممكن إيجاده أينما كان. إنّ أنطون سعاده هو الوحيد الذي حكى عن موضوع الموسيقى، وكتب عن الموسيقى.
يضيف غلميه: إنّ "سيمفونية الفجر"، قد استلزمت مني نحو الأربعة أشهر، قبل كتابتها، بعدما تعمّقت في قراءة فكر أنطون سعاده. وعندما أهديت السمفونية السادسة إلى أنطون سعاده، ساهمت في تأكيد كونه فجر الإنطلاق .. والفجر الثقافي ".
أن تقرأ سعاده، وتكتب عن سعاده، وتحيا سعاده، مهمة شبه مستحيلة.. فأنا وأنت إمكانية إجتماعية محدودة، لا تتمكن أن تحيط بهذا المحيط الزاخر بالمعرفة، الهادر بوقفات العزّ، القادر على قهر المستحيل، فــ سعاده بذاته وحدّ ذاته، نبع متدفق بالمعرفة، لا ينضب، ومنارة مشعة بالحق والخير والجمال، وقمّة القمم في الهداية والقيادة والريادة لأمة معلمة ومرضعة حضارية للأمم. نعم، سعاده فجر إنطلاق أمّة أبت أن يكون قبر التاريخ مقرّا لها، وفجر ثقافي هو فخر لإنبعاث أمّة كلّ ما فيها جميل، شعبها حيّ عظيم(7).
وما سندوّنه في هذه الدراسة: "سعاده والفنون الجميلة" ما هو إلا محاولة متواضعة لاستكشاف بعض المعالم التي تعرّفنا على هذه الفنون، من خلال بعض النصوص التي وضعها سعاده، كأسس تحتاج إلى دراسات متخصصّة، هادفة خير المجتمع ورقيه.
عندما كتب سعاده عن عباقرة الموسيقى أمثال "بيتهوفن وباخ وموسرفسكي و ويبر وبروكنر وتشايكوفسكي و بردين و رمسكي ويوهان شتراوس وشوفين وبرليوز و سباليوس و دورياك و شوبرت وغيرهم..."(8)، لم يكن له الأمر مجرّد الإطلاع من أجل تعداد أسماء هؤلاء الموسيقيين للمعرفة فقط، "فالمعرفة التي لا تنفع جهالة لا تضر، وكلاهما مضر بالمجتمع"، فسعاده رفض منذ البداية التكلم المبعثر على المدارس الفكرية المختلفة من علمية وفنية وفلسفية، وعلى طروحات المفكرين المتعددة، وطالب أن يكون له رأي صريح وموقف واضح من هؤلاء، ليصحّ أن يكون لنا نهضة، وأهداف واضحة في الحياة(9).
والسؤال البديهي، في مثل هذا الحال، متى يمكننا القول أنّ لنا نهضة وأهدافا؟ .
يجيب سعاده:
" إنّ التكلم فيما نعرفه عن بعض الفلاسفة الغربيين أو المفكرين السياسيين الغربيين أو الذين اكتشفوا اكتشافات علمية لا يكفي ليكون نهضة منا نحن.
إنّ النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو: خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد، إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبّر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية. إلى نظرة جلية، قوية، إلى الحياة والعالم.
إذا وصلنا إلى الاقتناع بأننا أصبحنا ننظر إلى الحياة وإلى الكون الماثل أمامنا وإلى الخلق الذي ينبثق منا بالنسبة إلى الإمكانيات كلها في العالم ونستعرض مظاهرها ونفهم كل ذلك فهماً داخلياً، بنظر أصلي ينبثق منا نحن بالنظر لحقيقتنا، فحينئذٍ يمكننا القول إنّ لنا نهضة، إنّ لنا أهدافاً.
أما التكلم المبعثر على فولتير وموليير ولنكلن وهيغل ووليم جايمس وكانت وشوبنهور... إلخ. وعلى مختلف المدارس الفكرية بدون أن يكون لنا رأي وموقف واضح في تلك الأفكار وأولئك المفكرين، فلا يعني أنّ لنا نهضة. إنّ ذلك لا يعني إلا بلبلة وزيادة تخبط. إنّ الفكر البعيد عن هذه القضايا هو أفضل من الفكر المضطرب المتراوح الذي لا يقدر أن ينحاز أو أن يتجه، لأنه متخبط وليس له نظرة أصلية، ولا يدرك ماذا يريد.
الفكر المضطرب يبتدىء بالتأثر بأحد المفكرين ثم ينتقل إلى آخر، ثم يحصر نفسه ضمن نطاق بعض الأفكار ولا يعود يخرج. ويبدأ بمناقضة كل من له رأي آخر فتنشأ حالة الفسيفساء التي تتقارب قطعها ولكنها لا تتحد.
إنّ مثل هذا الفكر لا يمكنه أن يحقق شيئاً. الإنسان الذي لا يزال على سذاجة الفطرة له شخصية واستقلال نفسي وجوهر أعظم من شخص وضع نفسه أداة تسير بأفكار بعيدة عن حقيقته. وإنّ الأفكار المعتنقة اقتباساً من الخارج لا تحرك عوامل النفسية الصحيحة.
النهضة، إذاً، هي الخروج من التفسخ والتضارب والشك إلى الوضوح والجلاء والثقة واليقين والإيمان والعمل بإرادة واضحة وعزيمة صادقة. هذا هو معنى النهضة لنا(10) .
*
خلاصة نظرية سعاده العصرية الراقية في الموسيقى
إنّ أنطون سعاده هو الوحيد الذي حكى عن موضوع الموسيقى، وكتب عنها، فإلى أي مدى يصحّ ما ذهب إليه غلميه من تأكيده لهذه الشهادة بـ سعاده؟
في العودة إلى تراثنا الموسيقي العريق، فإنّ أقدم اللوحات الأثرية النادرة التي تتضمّن موضوعاً موسيقياً هي اللوحة السومرية المسمارية السورية، التي ورد فيها، ما ترجمته: " تملأ ساحة الهيكل بالسرور، وتنفي الهمّ من المدينة، تسكن القلب، وتهديء العواطف، وتمسح الدمع من العيون"(11). أمّا في اللغة العربية فأروعها المقال الذي نشره جبران خليل جبران عام 1905 في نيويورك، وصدر بعد ذلك في كتيب صغير، تحت عنوان "الموسيقى"، وبالرغم من نزعته الإبداعية في الوصف والتشبيه، كما يقول مخايل نعيمه، إلا أنّ المقال، في الوقت نفسه، لا يكسبك شيئا كنت تجهله من علم الموسيقى وفلسفتها(12) .
أمّا نظرية سعاده في الموسيقى فهي تنبثق من فلسفته الشاملة – نظرته إلى الحياة والكون والفنّ، ومن هنا يتماهى مع ما قاله وليد غلميه مع مخايل نعيمه؛ فــ سعاده في نظريته العصرية الراقية في الموسيقى يكسبك ما كنت تجهله في علم الموسيقى وفلسفتها. بهذا المعنى يكون " أنطون سعاده هو الوحيد الذي حكى عن موضوع الموسيقى، وكتب عنها"، وذلك من منطلق فلسفي – علمي ملتزم بنظرته إلى الحياة والكون والفنّ (نظرة سعاده إلى الإنسان) وقد لخّص ذلك في: درس خاص شرح فيه خلاصة نظريته العصرية الراقية في الموسيقى وأغراضها(13)، وذلك على لسان صديقه الفنان سليم الذي هو في الواقع شقيقه المبدع في الموسيقى.
أمّا أبرز العناوين التي تضمنها هذا الدرس، فهي الآتية:
صفات المؤلف الموسيقي،
تحديد الموسيقى،
التمييز بين الأساليب الشرقية والغربية،
التعبير عن وحدة العواطف والتصورات والأفكار الإنسانية التي عبّر عنها كبار الموسيقيين،
موسيقانا لا تعدّ من إنتاج نفسيتنا،
لا تفضيل بين أنواع الموسيقى،
الموسيقى ترتقي بارتقاء النفسيات والعقليات،
المطلوب موسيقى تغذي كلّ عواطفنا وتصوراتنا وتظهر قوّة نفسيتنا وجمالها، ونظرتنا إلى الحياة والكون والفن .
خلاصة نظرية سعاده في الموسيقى وأغراضها:
" كان صديقي سليم مولعاً بدراسة الموسيقى. وكنت أنتظر أن يخرج ناظماً موسيقياً مجيداً، لما كنت أعهده فيه من شدّة العواطف، وسلامة الذّوق، وقوّة الشعور، وما كان عليه من سموّ الإدراك، وتعمّق في الفهم. كانت نفسه كبيرة حتّى كأنّها تسعّ الكون، وكان يحبّ أن يرى شعبه أخذا قسطه من الموسيقة العالية، أي أنّه كان يرى في شعبه موسيقى سامية، تستطيع أن تعبّر حقا عمّا في القلب من شعور، وما في العقل من تأمّلات أدبية وفلسفية".
سليم: " إني أحددها (الموسيقى) بإطلاقها من كل تحديد، فإنك تستطيع أن تعرف الكثير من مزايا الموسيقى ولكنك لا تتمكن من حصرها. ليست الموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضاً. إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها. وإن شئت فقل إن الموسيقى تتناول العواطف الأولية والحالات النفسية على أنواعها، والأصوات على اختلافها، والشعر والأدب والفلسفة. ومن هذه الوجهة لا يمكنك أن تقسم الموسيقى إلى قسمين: شرقي وغربي، وإنما يمكنك أن تميز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، وبين أصناف هذه المعاني عينها. فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبِّر عن العواطف والحالات النفسية التي تعبِّر عنها الموسيقى الشرقية عينها أمكنك فهمها بكل سهولة وإن اختلف أسلوبها. فيتضح لك مما تقدم أنّ وجه الفرق في ما تسمونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في المعاني التي يقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض. وإنّ الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية ونظائرها الغربية ليس إلا مجرّد تنوع يتبع حالات نفسية خاصة. ويمكنك أن تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تثبت بما لا يقبل الرد أنّ الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وإن تعددت الأمزجة. إنّ عواطف الحب والبغض والرقة والقساوة والسرور والحزن وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة، وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية، تقصّر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمم في الشرق والغرب ولا فرق بينها إلا بمقدار تنبه النفوس وارتقائها وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها. فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزاً عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة، الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم إبتدائية أيضاً. وهي في هذه الحال لا تعبِّر إلا عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان كالشهوات الجنسية التي تمثل معظم عواطف هؤلاء القوم. وبعكس ذلك، القوم الذي تحررت نفسيتهم وارتقت فإن موسيقاهم تعبِّر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية وتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية، إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصراً على «وصال الحبيب»، بل أصبح مطلباً أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه ويشحذ عزائمهم لتحقيقه، مولّداً في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة ما لا يستطيع فهمه من همّه وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام.
هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعَبِّر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن الذي بلغ في الفن الموسيقي حدّ الألوهية لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الموسيقي النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. أنظر إلى ما تعبِّر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد. خذ، مثلاً، سيمفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابوليون بتيار من الأنغام تحوَّل إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية، الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جارياً وسيظل جارياً أبد الدهر! أنظر إلى معزوفاته الأخرى كسيمفونيته الخامسة المعبرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء ــــ بين الموت والحياة وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه ــــ ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين، فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب، إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضاً. لا، يا صاحبي، لم توجد الموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عندها الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار
بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء. فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثاً من هذا النوع. وبعد صمت ظهر في أثنائه أنّ الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه، قال بهيج: ما رأيك إذن في موسيقانا؟
سليم: «الحقيقة، يا صديقي، إنه ليس لنا موسيقى تعد نتاج نفسيتنا، نحن السوريين، من حيث إننا قوم لنا مزايا خاصة بنا. أما الألحان الشائعة بيننا فليست، باستثناء ألحان شعبية معينة، مما نشأ من نفستنا، بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة. وإذا كان فيها ما يعبِّر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا فهي تقصر تقصيراً كبيراً عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في الكون من عوامل ومؤثرات نفسية وما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا. إنّ الألحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا، بل هي مما دخل على تقاليدنا وعاداتنا. إنها ألحان تقليدية فحسب".
بهيج: "إذن، أنت تفضل الموسيقى الغربية"
سليم: "قلت إنه لا تفضيل في الموسيقى. إنما إذا كنت تريد معرفة رأيــي في الفرق بين موقفنا من الموسيقى وموقف أهل الغرب منها فأني أصارحك أنّ شعوب الشرق، خلا الروسيين، إذا كانوا يحسبون شرقيين، قد عدلت عن الأسس الموسيقية إلى الألحان الموضوعة، أو هي قد اقتصرت، في الموسيقى، على طائفة من الألحان لا تجد عنها محيداً. وهذا كان شأن أهل الغرب أيضاً، إلا أنه لما ارتقت نفسيات البشر وعقلياتهم اضطرت الموسيقى إلى مجاراة هذا الارتقاء لكي تعطي المثل الصحيح للعواطف والأفكار الجديدة التي لم تعد الألحان الموضوعة تكفي للتعبير عنها. وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك فأحدثوا في الموسيقى تطوراً خطيراً، إذ إنهم عدلوا عن الألحان إلى الأصوات المفردة التي هي أساس الموسيقى فرتبوها وأدخلوا على الموسيقى الأدب والفلسفة، فضلاً عن الشعر، وهكذا استتب لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها. وهذا ما يجب أن يحدث في سورية وفي كل قطر فيه شعب حي في نفسيته وعقليته. إنّ التقاليد القديمة المستعارة قيّدت نفوسنا بألحان محدودة ابتدائية قد أصبحت حائلاً بيننا وبين الارتقاء النفسي. إنّ في فطرتنا ونفوسنا شيئاً أسمى مما تعبِّر عنه هذه الألحان الجامدة شيئاً أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية. إنّ في أنفسنا فكراً عاطفياً وفهماً عاطفياً يتناولان التأملات العميقة في الحياة والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعي، قومي، روحي، إنساني، ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية، محدودة، معيّنة، كحالة الحزن أو حالة التدلّه في الغرام. فإن نغماً وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أن يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف، كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم، أو حالة الجذل والابتهاج، أو حالة التأمل، بل إنّ لحناً وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفي سنة لا يمكنه أن يعبِّر عن هذه الحالة بعد مرور زمن طويل اكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقّى شعورها وأكسب الحالة النفسية المقصودة معاني جديدة تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها. فإذا كنا نريد أن تحيا نفسيتنا حياة راقية تُقرّبنا من أكناف السعادة وجب علينا أن نحررها من ربقة الألحان التقليدية التي لا تغذي إلا العواطف الدنيا، وأن نعود إلى الأصوات نفسها فنسلّط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي، ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا، وتظهر بواسطتها قوة نفسيتنا وجمالها".
لما أتمَّ سليم عبارته التفتُّ إلى الرفقاء فوجدتُّ بهيجاً وأصحابه قد وقفوا عند أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل ثم إنّ أحدهم نظر إليّ وخاطبني قائلاً: "ما رأيك يا سيد! في ما يقوله سليم؟"
قلت: " إني أوافق على جميع ما قال واتخذ من حكمه في الموسيقى حكماً في الأدب. أُنظر إلى شعرائنا كيف يحدون العيس في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلا مقلدين، لأن حدي العيس ليس من شؤون شعبهم ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كتّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية خضراء، إنّ التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وإني لأعتقد أنه لا بدّ من القيام بجهود جبارة قبل أن تصبح النهضة الأدبية معبّرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيئ اليوم الذي يتحقق فيه ذلك وتصير النفسية والعقلية السوريتان الغنيتان بمواهبهما الطبيعية معينين ينهل منهما الأدباء وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري".
وبعد صمت قصير انصرفنا، وقد رسخ حديث سليم في ذهني ولم تزده الأيام إلا رسوخاً.
إنّ الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم وأرادت أن تتناول عصراً وأمة. والذي أعلمه أنّ سليماً كان قد ابتدأ ينظم سيمفونية في انتهاء عهد الخمول وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري. والصدق يوجب عليَّ أن أروي أنّ سليماً كان يعتقد أنّ نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن، لأنه كان موقناً من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسي، بل إلى ما هو أعظم شأناً وأكثر فائدة من الغرض السياسي. إنه كان يرى الفورة السياسية أمراً تافهاً إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يثبتها في قلب كل فرد، سواءً أكان رجلاً أم امرأة، شاباً أم شابة، أدب حي وفن موسيقي يوحد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح ولها إيمان اجتماعي واحد قائم على المحبة، المحبة التي إذا وُجدت في نفوس شعب بكامله أوجدت في وسطه تعاوناً خالصاً وتعاطفاً جميلاً يملأ الحياة آمالاً ونشاطاً. حينئذٍ يصبح الجهاد السياسي شيئاً قابل الإنتاج. وأما الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثة فهي شيء عقيم ولو أدت إلى الحرية السياسية.
هذه خلاصة نظرية سليم في تجديد حياة قومه وهي نظرية الرجل الفني الذي يريد أن يبتدئ في القلوب والأفهام. ولست أشك أنه على صواب، وأنّ نظريته قريبة جداً من نظرية الاجتماعيين الشعوبيين الذين ينظرون في حياة الشعب الداخلية، ولا يأبهون كثيراً للمجد السياسي، أو يعدّونه شيئاً لا يتقدم على الحياة الحرة في العقل والنفس، ويرون أنّ حرية النفس أساس كل الحريات. وهي من هذه الجهة لا تتضارب ونظرية السياسيين الشعوبيين، ولكن السياسيين كثيراً ما يقصّرون عن فهمها. لا تتضارب النظرية المتقدمة ونظرية السياسيين الذين يعملون للحرية ولكنها تختلف عن نظريتهم اختلافاً كبيرا. ففي حين أنها لا تنكر أهمية الحرية السياسية لا ترى أنّ الحياة السياسية أساس الحياة القومية أو أنها هي الوطنية الكاملة كما يدّعي السياسيون..."
*
سعاده: تنمية الروح الموسيقية
لم يكتف سعاده بهذا الدرس الخاص في شرح نظريته في الموسيقى، بل دعا إلى تنمية الروح الموسيقية القومية القوية التي تحفّز الشباب للعمل، وطلب المثل العليا، فكتب ردا على إلغاء مخصصات نادي الموسيقى، مقالة نقدية تحت عنوان: "ألسنا بحاجة إلى الموسيقى في لبنان ؟
" لا نعرف أيّة فكرة كانت تسيطر على أعضاء اللجنة المالية، حين قررت فيما قررته إلغاء مخصصات نادي الموسيقى (الكونسرفاتوار) في الجمهورية اللبنانية.
ونحن الذين رحبنا بفكرة إلغاء مخصصات المدارس الخاصة لأنّ من شأنها أن تغرق قوى الشباب تحت تأثيرات لأشخاص، وطلبنا من الحكومة أن تفتح بهذه المخصصات مدارس رسمية لتحارب الأمية المنتشرة في البلاد، لا يمكننا إلا أن نستغرب إلغاء مخصصات نادي الموسيقى .
هل كانت بعملها تعني أنّه يجب أن نكتفي بموسيقى السواقي، والينابيع، وحفيف أوراق الغصون، وهديل الحمام، وغناء الحساسين، وأنغام منجيرة القصب، وقرقعة الطبول والزمامير ؟
هل كانت اللجنة المالية المحترمة تعني أنّ ما عندنا من موسيقى يكفينا ويزيد؟ هل كانت تعني بإلغائها مخصصات دار الموسيقى البالغة 300 ليرة لبنانية سورية تقوّم من عرجة موازنة الدولة في لبنان فيستقيم معها الأمر، وتنتهي المشكلة المزمنة، وتتخلص البلاد من هذه الأصوات...؟
وبعد، هل يصدق أحد من الناس وهل يجوز أن يصدق أحد، أنّ 300 ليرة لبنانية سورية تقف حجر عثرة في طريق دولة تبلغ موازنتها خمسة ملايين ليرة لبنانية سورية في العام، نقول هذا ولا ندري عمّا إذا كان للجنة المالية المحترمة رأي في الأمر غير ما بيّنا ؟ ولكنّ الظاهر أنّ ليس لها من حجّة غير هذه. وكنّا نودّ لها لو كانت أبعد نظرا في ماهية الأمور، وبدلا من أن تلغي مخصصات دار الموسيقى، تعمل على تنمية الروح الموسيقية في البلاد وتنشّط النوادي، وتبعث الهمم بموسيقى قومية قويّة تحفّز الشباب إلى العمل، وتعلهم أهلا للحياة الكبرىن للحياة الجميلة الحرّة .
كنا نودّ لو أنّ اللجنة المالية زادت مخصصات دار الموسيقى في بيروت لتتمكن الهيئات المختصة من أن تجعل لموسيقانا، لونا جديدا يبعث القوّة والنشاط والحياة في النفوس لتتمكن الأمة في دورها من أن تجد الجيل الطالع محبا للحياة والقوة والنشاط. هذا ما كنا نريده، ونحن في بدء حياة جديدة. ولكنهم عميان إلا عن السياسات الصغيرة، عميان عن حاجات البلاد الروحية، والأمة التي يقودها عميان لا شك صائرة إلى جهنم.
هؤلاء قوم تطلب الأمة سمكا فيعطونها حيّة، وخبزا فيعطونها حجارة، وبركة فيعطونها لعنة .
هؤلاء قوم مساكين ...
عبثا نطلب عنبا من سياجات العليق !
عبثا نطلب الحياة ممن يصمّون أذانهم عن سماع نداء الحياة، عبثا نطلب الحقّ والحريّة من عبيد الجهل والأوهام(14) .
وفي هذا السياق النقدي لجاهلي دور الموسيقى في تنشئة نفوس الأمة، انتقد سعاده شفيق معلوف وسخر من أحد الصحفيين لموقفه من بيتهوفن .
انتقد سعاده الشاعر شفيق المعلوف لمشابهته الشعر بالموسيقى، لإنّ تلك المشابهة لم ترفع الشعر، ولا الموسيقى إلى المنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها .
قال سعاده: " إنّ المشابهة بين ما قلت في الموسيقى وما قلته وأقوله في الشعر تختلف عن المشابهة التي أوردها شفيق معلوف في كتابه إلى عمه حيث يقول: " إنّ لي رأياً آخر في الشعر. فهو، في عرفي، ذلك الشعور النابض يصوّر للناس نفوس الناس. ولا تتعدى فائدته ــــ في أحايين كثيرة ــــ منفعة يصيبها المرء لدى سماع قطعة موسيقية جميلة، مطربة كانت أم مشجية".
فهذه المشابهة بين الشعر والموسيقى لا ترفع الشعر ولا الموسيقى ولا تعطيهما المنزلة السامية التي لهما في النفس التي سمت بشعورها وإدراكها وانفلتت من الحدود الضيقة في الفكر والشعور. إنها من ملازمات النظرة القديمة إلى الحياة والفن ومن نتائج تأثير البيئة ونوع الثقافة اللذين حددا للشاعر المذكور الشعر والموسيقى تحديداً مضنكاً.
أوردت في ما سبق من هذا الدرس رأيــي في ضعف تعبير شفيق معلوف عن الشعر. وكان إيرادي رأيــي هناك مقتضباً لم أحلل فيه غير قوله: «يصوّر للناس نفوس الناس». ولذلك أرى وجوب إكمال التحليل لاستخراج الفائدة الكبرى. وأتناول «تصوير النفوس» فأقول إنّ هذا التصوير لا يمكن أن يحدث بواسطة «الشعور النابض». وإذا حدث تصوير للنفوس بواسطة الشعور المذكور جاء تصويراً مشوهاً أو ناقصاً. والأرجح أن يكون حينئذٍ تصويراً لشعور الشاعر، على نسبة وعيه، بنفوس الناس وما يراه في نفوس الناس. وقد يكون وعي الشاعر كاملاً وقد يكون ناقصاً. وفي كل حال فالوجهة الوصفية بواسطة الشعور وحده هي ذاتية بحتة (سبيكتيف) وضيقة جداً، لأنها تكون منحصرة في نفس الشاعر وغير متناولة نفوس الناس كما هي نفوس الناس، ولا أشواقها إلى ما تحب أن تكون. أما وصف هذه النفوس كما هي، فيحتاج إلى مقدار غير يسير من علم النفس وعلم الاجتماع والفكر الذي يجب أن يلازم الشعور أو يتقدم عليه أو يقوده في هذا المسلك الوعر. فتخصص الشاعر بالعناية بنفوس الناس ووصفها بواسطة «الشعور النابض» الذي يوحي الاندفاع مع السجية أكثر مما يوحي التمعن في الدقائق النفسية والقضايا التي تتعرض لها النفس ليس تخصيصاً موفقاً، ولا يلزم الشاعر، بوجه عام، وصف نفوس الناس ليكون شاعراً. فقد يصف الشاعر عناصر الطبيعة أو بعضها أو مظهراً من المظاهر الطبيعية أو وقائع حربية أو غيرها ويكون شاعراً. أما الشاعر الذي «يصوّر نفوس الناس» ويْعنى بالشؤون النفسية فهو ليس أي شاعر أو كل شاعر، بل شاعراً ذا صفة خاصة ومنزلة منفردة.
وكذلك الشاعر الذي يتناول القضايا الفلسفية الوجودية أو الغيبية.
إنّ خليل مطران شاعر. شاعر من غير أن يدخل المسائل النفسية. ولعله أضعف ما يكون حين يدخل هذه المسائل. فقصيدة «نيرون» قطعة شعرية خالدة، سما فيها خليل مطران على مستوى عصره (في سورية ومصر) وعلى ما تقدمه من عصور أدب اللغة العربية. ولعل أضعف ما في هذه القصيدة، ما تعلق منها بالمسائل النفسية. وشفيق معلوف شاعر. شاعر في الأحلام ولم يصوّر فيها نفوس الناس وفي عبقر وفيها قليل من القضايا النفسية وصورها وأوصافها أو هي معدمة من هذا القبيل. ولا نجد في عبقر «الشعور النابض» الذي نجده في الأحلام إلا في مقاطع خاصة تدل ميولها البيولوجية على عدم النضج النفسي.
ما حدد لشفيق معلوف تعريف الشعر حدد له إدراك سمو الموسيقى أو عمقها. فتمثيله فائدة الشعر بأنها «لا تتعدى» فائدة سماع قطعة موسيقية جميلة «مطربة كانت أم مشجية» جعله لا يرى للموسيقى غير ناحيتي الطرب والشجا. وهذه هي الموسيقى المحدودة، الضيقة، الأولية.
هذه هي الموسيقى في نظرة إلى الحياة ساذجة، جامدة، غير جديرة بالارتقاء النفسي ومجد المثال الأعلى الخالد.
الطرب والشجو وحدهما هما من ملازمات الحياة الفقيرة في الثقافة النفسية وفي الفن والمناحي الروحية. وقد رأى القارئ مما قدمت نقلاً عن قصة فاجعة حب أنّ فائدة الموسيقى لا تقتصر على الطرب والشجا، إلا حيث جمدت الموسيقى عند حدّ هذين الشعورين الأوليين، بجمود حياة البيئة روحياً وماديّاً. فالموسيقى الراقية تحمل النفس على تأملات فكرية وثورات روحية فضلاً عن مختلف العواطف الفردية التي هي من شؤون الحياة البيولوجية أو الجنسية. ولكن هذه الموسيقى الراقية هي وليدة عصر راقٍ أو نتاج مخيلة مبدعة، قدرت بذاتها أن تتصور عالماً من الأفكار والتأملات والشعور في أمواج من الأنغام والألحان تحتاج بدورها إلى عصر يفهمها. وهذه المخيلة المبدعة يجب أن يكون، إبداعاً خاصاً بالموسيقي المبدع.
لأشرح هذه النظرية:
إنّ واغنر موسيقي مبدع ولا شك. وهو في الموسيقى نسيج وحده. ولكن موسيقاه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإحساس الحياة المستمد من الأساطير الجرمانية وبالقضايا النفسية والفلسفة المنطوية عليها حياة أبطال تلك الأساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن. ليس واغنر مبدعاً للنظرة الألمانية إلى الحياة ولا واضعاً للأساطير الجرمانية. ولكنه مبدع للموحيات والأمواج الموسيقية المعبرة عن النظرة المذكورة ولألوان الشعور الفلسفي الذي أحسه حين قرأ تلك الأساطير، وفهم منها ومن نهضة شعبه المزايا القومية أو الجنسية الجوهرية التي جعلته يرى ويبرز تلك المثل العليا الفلسفية التي نراها تمثيلاً ونسمعها ألحاناً وأناشيد في «ولكيريا» و«سيقفريد» و«ذهب الرين» و«تانهويزر» و«لوهنقرن» و«أساتذة الغناء» و«ترستان وإيزلده» وغيرها. فكان واغنر شاعراً روائياً، لأنه نظم قصائد رواياته الموسيقية، وكان موسيقياً روائياً فلسفياً لأنه ألّف ألحان وأنغام تلك الروايات الخالدة بأسبابها الشعورية والفكرية المعبرة عن نظرة إلى الحياة عالية جداً. ويصعب على الدارس المفكر تصوّر وصول واغنر إلى ما وصل إليه من غير اتصاله بخطط النفس الألمانية وتأثره بنظرة إلى الحياة عالية وإحساس عميق بقضاياها، ومن غير نشأته ضمن العوامل النفسية التي أعطت ألمانية اتجاهها الصعودي.
وإذا ذهب أحد من أدباء العصر السوري الهالك إلى «أوفرة» وسمع ألحان واغنر أفيسرّ بها أو يطرب أو يشجى؟ لا أظن إلا أنه يعافها، لأنه لا يفهمها ولا يفهم موحياتها ولا يدرك قضاياها. وبعد فليس في قصائد واغنر الموسيقية من الطرب والشجا إلا قليلاً، وأكثر وأهم ما فيها، تأملات فكرية واتجاهات فلسفية لا يقدر على تتبُّعها من غرضه الطرب أو الشجو ومن لا يجد الموسيقى إلا تعبيراً عن شعور الطرب وشعور الشجا في مجال ضنك من الحياة تغلب فيه النزعةُ البيولوجية النزعة النفسية. ففائدة قطع موسيقى واغنر لا تقتصر على إحداث جذل أو انبساط أو شجا فيزيائي الشعور أو بيولوجي النفسية، بل تتعدى ذلك إلى القضايا الأساسية، التي تواجهها النفس الإنسانية الراقية، المركّبة، بكل ما فيها من أفكار وشعور ومطامح وميول ومُثُل وما تتعرض له من الصراع العنيف، الخفي أو المعلن، بين الأجمل والأقبح وبين الأسمى والأسفل وبين الأنبل والأرذل.
لا يكون موقف أديب الجمود والخمول السوري تجاه موسيقى بيتهوفن أو باخ أو موسرقسكي أو ويبر أو بروكنر أو تشايكوفسكي أو بُرُدين أو رمسكي ــــ كرزاكف أو ستراونسكي أو شوفين أو برليوز أو دبوسي أو سباليوس أو دوُرياك أو شوبرت أو غيرهم، غير موقف المستغرب أو المستهجن.
وها هو سعاده يسخر من أحد الصحفيين الذين غادروا إحدى المسارح لأنّه عاف سماع إحدى سيمفونيات بيتهوفن، لأنّ لا طرب فيها ولا شجا:
" فمنذ سنين سمعت كاتباً صحفياً سوريا في سان باولو، البرازيل، ينظر إلى نفسه نظره إلى أديب كبير، يقول إنه دخل مسرح «المونيسيفال» في المدينة المذكورة ليسمع إحدى سيمفونيات بيتهوفن الطائرة الصيت، فلم يطل به المقام حتى عاف السماع وخرج من المكان، وهو في حيرة من بلاهة الناس، الذين يطيقون الجلوس بدون ملل نحو ساعة أو يزيد، لسماع موسيقى لا طرب فيها «لطيب العناق على الهوى» ولا شجا فيها «لطول ليل الصب»؛ ولشدة سأم «الأديب الكبير» المذكور مما سمع من هزيز ودوي وزمزمة وحفيف وكشيش وقرع، وليفرج كربه، طلب من صاحب المكتبة السورية التي كان يروي فيها قصته، أن يسمعه بعض أناشيد المغنية المصرية أُم كلثوم المطربة، المشجية! ولم يكتفِ بذلك بل صار ينادي صديقاً له ماراً بالمكان ويقول له: «تعال لنموت بهذا الغناء» وهو لا يدري أنه يقول الحقيقة كلها بعبارته هذه التي استعملها لمعنى آخر! ..."(15)
ثــانــيــا: عظماء الموسيقى
كان إهتمام سعاده بالموسيقى واضحاً، بالرغم من مشاغله المتعدّدة، فهو لم يكتف فقط بوضع نظريته في الموسيقى العصرية، بل كتب عدّة مقالات تحدث فيها عن عظماء الموسيقى في العالم، ومن بينهم الثلاثة الكبار: بيتهوفن (الذي بلغ في الفن الموسيقي حدّ الألوهية)، ويوسف هيدن (الموسيقي الكبير)، وواغنر (الشاعر النادر والفيلسوف الكبير والموسيقي الفذّ)
1- بيتهوفن، قال سعاده عن بيتهوفن أنّه: بلغ في الفن الموسيقي حدّ الألوهية لأن معزوفاته استغرقت أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة. إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر حتى كأن نفسه كانت مؤلفة من كل النفوس. وهذه هي صفة الموسيقي النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة. أنظر إلى ما تعبِّر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد. خذ، مثلاً، سيمفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابوليون بتيار من الأنغام تحوَّل إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية، الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جارياً وسيظل جارياً أبد الدهر! أنظر إلى معزوفاته الأخرى كسيمفونيته الخامسة المعبرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء ــــ بين الموت والحياة وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه ــــ ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين، فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب، إلى مراتب السمو، بل تتعداه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضاً.
2- يوسف هيدن: كتب سعاده هذه المقالة، بمناسبة مرور مئتي عام على ولادة الموسيقي الكبير يوسف هيدن الذي جعل لأنغامه سبيلا إلى قلب الشعب، وهو واضع أسس الموسيقى الفيينية (فيينا)، وملحن النشيد القومي الإلماني:
"مضى في أول أبريل/نيسان المنصرم مئتا سنة وسنة على ولادة الموسيقي الكبير يوسف هيدن، واضع قواعد الموسيقى الكلاسيكية الفيينية (نسبة إلى فيينة)، ولقد نبَّه مرور قرن ثانٍ على ولادته خواطر الدوائر الموسيقية في العالم إلى محل هذا الرجل من الفن العالي وخدمته إياه خدمة تدعو إلى التقدير والإعجاب. وليس من العجب أن يفهم العالم هذا الموسيقي الكبير الآن أكثر مما فهمه عصره، لأن يوسف هيدن كان من الأشخاص الذين لا يمكن تقدير قيمة العمل الذي يعملونه إلا من خلال التاريخ.
كان يوسف هيدن إبن عامل فقير، وكان عدد إخوته إثني عشر. فلما بلغ الثامنة من عمره دخل مرتلاً في كاتدرائية القديس أسطفان في فيينة. ولم يحل نجاحه في الغناء وظفره باستحسان الامبراطورة صوته دون استمرار جوعه، وكان في شيخوخته يذكر بسرور كيف كان يغني بعض الخبازين غناءً جميلاً ليعطيه خبزاً، وكيف كان أحياناً يخرج من بعض بيوت ذوي اليسار، بعد غنائه، وقد ملأ جيوبه «معكرونة». كان الغناء في الشوارع والبيوت عملاً ضرورياً لمعاشه. ثم أجريت له عملية لترفيع صوته صيّرته غير صالح للاشتراك في الأجواق. ومن ثم صار يعتمد في تحصيل رزقه على إعطاء دروس خصوصية والضرب على البيانو في بعض الأحيان، وكانت حياته في هذا الدور حياة تنقّل مملوءة بالمصاعب والهموم، وظلت هذه حاله إلى أن اتصل في سنة 1759 بنبلاء النمسة والمجر الذين كانوا، في ذلك الحين، السند الأولي للموسيقى. فدخل في سنة 1761 مديراً لجوقة الأمير استرهاتزي وبقي حتى سنة 1789 فكان يصرف أيام الصيف في أملاك هذا الأمير وأيام الشتاء في فيينة. وكان قبل ذلك قد تزوج ولكنه بعد زواجه أحب أخت امرأته وكان زواجه سبب شقاء له لا سبب سعادة، لأن امرأته كانت، على ما يظهر، لا يهمّها من أمر مؤلفاته الموسيقية إلا أن تتفق مع تعقيص شعرها وتزيين وجهها.
في تلك الحياة الهادئة ابتدأ صيت هيدن ينمو حتى عمَّ أوروبة. لم يكن نبوغه من ذلك النوع الذي يدخله محيط العالم الواسع بواسطة إبداعه في المؤلفات، بل من النوع الآخر الذي ينمو بالعمل الهادىء الطويل المستمر وهو ما صيّر هيدن ما هو. لم يكن لنوع عمله أقلّ شبه بالاختلال العبقري الذي هو من مزايا نبوغ موزارت أو بيتهوفن: فهو كان يسير في عمله بموجب برنامج حدد فيه أوقات العمل، ولم يكن يجلس للتأليف إلا وهو بلباسه الرسمي وبعد أن يكون قد حضر القداس الكنسي. كان عمله قانونياً نظامياً، ليس فيه شيء من اختلال العبقرية التي لا تعرف الترتيب ولا النظام. ومؤلفاته نفسها لم تكن نتيجة عوامل داخلية فيه بقدر ما كانت نتيجة أسباب خارجية مما كانت تقتضيه جوقة الأمير والتوصيات. ولقد سئل هيدن يوماً لماذا لم يؤلف في حياته قطعة موسيقية لجوقة أوتار خماسية فأجاب بكل بساطة «لم يطلب مني أحد قطعة من هذا النوع»! ومع أنّ في هذا القول ما يدعو إلى العجب فالغريب أنّ كثيرين من الموسيقيين قبله كانوا يسيرون على هذه الخطة، حتى أن يوحنا سباستيان باخ الموسيقي الروحي الخالد كان يتّبعها وهو قد اتّبعها في نظم أبدع قطعة موسيقية طلبت منه للقداس الكاثوليكي. وقد حبانا اجتهاد هيدن الهادىء بثروة لا يستهان بها ولا يمكن الإغضاء عنها مؤلفة من 150 سيمفونية و83 رباعية 24 ثلاثية ومثلها من الكنسيات و44 لحناً للبيانو و15 قداساً و19 أوبرا وتمثيلاً غنائياً و5 تسابيح وعدد كبير من الأناشيد.
إنّ أهمية هيدن قائمة في دائرة الآلات الموسيقية: فالرباعية الوترية والسيمفونية هما في شكلهما الحالي من صنعه في النسق، وموزارت وبيتهوفن اللذان كانا تلميذيه (وإن تكن تلمذة بيتهوفن قصيرة الأمد) يقفان بمؤلفاتهما في هذا النسق على كتفيه. أما في التمثيل الغنائي والأوبرا فمن المحتمل أن يكون قد دخل عليهما تطور جديد. ولكن التسبيحتين «الخلق» و«فصول السنة» كانتا الأساس الذي استندت إليه حركة الأجواق الغنائية الألمانية في القرن التاسع عشر، ويمثّلان أعلى نقطة في حياة هيدن حين افتتح بهما قلوب الإنكليز في سفرتيه 1791، 1792 و1794، 1795. فقد منحته جامعة أكسفورد لقب دكتور وأغدق عليه القصر الملوكي الإنعامات، وزاره الأميرال نلسن الشهير في أيزنشتط في سنة 1800.
كان لهيدن أخلاق طبعت موسيقاه بطابع النقاوة والإخلاص: فإن في موسيقاه ثباتاً يوازي أناقة الشعر الأبيض الأرستوقراطي، وفيها أنواع كثيرة من الفكاهة من أكثرها خشونة إلى أشدها لطافة، وهي تمتاز بصفة السرور الداخلي الذي لم تقطعه الحاجة. ولمّا عاب بعض الناس على هيدن الحبور المتجلي في قداديسه أجاب «لا يمكنني أن أغيّر ذلك. فمما عندي أعطي. إني حين أفتكر بالله أشعر بقلبي ممتلئاً حبوراً حتى كأن الأنغام تجري كينبوع. ولمّا كان الله قد أعطاني قلباً فرحا فهو يغفر لي خدمتي إياه بسرور». ومن هذه الجهة نجد أنّ هيدن فتح الطريق لـشوبرت وبروكنر، وجعل لأنغامه سبيلاً إلى قلب الشعب وليس من العبث أن يكون لحن الأنشودة التي ألّفها هيدن للامبراطور في الحرب ضد نابليون المبتدئة بــ«إحفظ يا الله القيصر فرنتز» قد صار لحن النشيد القومي الألماني «ألمانية، ألمانية فوق كل شيء»(16).
3- واغنر( فاغنر): خصّ سعاده الموسيقار الكبير واغنر أو فاغنر بمقالتين رئيسيتين؛ الأولى نشرت في مجلة "المجلة" العدد2، تاريخ 1-4-1933، الأعمال،ج1، ص446( ) والثانية في جريدة الزوبعة، العدد52، تاريخ 15-9-1942 (الأعمال، م 6، ص334) . وفي ما يأتي نصّ المقالتين:
أ ــ يقف موسيقيو العالم على درجات سلّم طويلة يعلو أحدهم على الآخر، أما فاغنر فإنه يقف على سلّم أخرى على حدة، ليس لها سوى درجة واحدة في أعلاها، وحتى هذه الساعة لم يتح لموسيقيّ آخر أن يكتشف سر بلوغ تلك الدرجة العالية!
في اليوم الثالث عشر من فبراير/ شباط لخمسين سنة خلت مات في البندقية ريخارد فاغنر، بعد أن صرف عمره في حياة مُرَّة وأنفق نفسه في الشعر والفلسفة والموسيقى، فخرج من الحياة شاعراً نادراً وفيلسوفاً كبيراً وموسيقياً فذاً. أما مرارة حياته فقسم عظيم منها يعود إلى ما كابده من شوقٍ إلى حب مثالي يملأ نفسه الواسعة ويشعر معه أنّ قلبه غرق به، وإلى فشله في بحثه عن ذلك الحب. والقسم الآخر يعود إلى ما عاناه من اضطهاد أبناء وطنه الذين لم يفهموه ولم يحترموه. فلقد قامت قيامة كثيرين من نقّاد الموسيقى عليه وكان أدباء عصره ضده، ورماه عدد غير قليل منهم بكم قارص وسمّاه أحدهم، فريدرخ فون شبيلهاغن، «لاقط جرذان بيرويت النشيط» وشبَّه باول هيزي موسيقاه بــ"الجعجعة المفجعة ودخان الحشيش"..
تعلقت نفس فاغنر بالأساطير الجرمانية، خصوصاً «النيبلنغن» ومنها استمد مثاله الأعلى في الفلسفة. ويقف فاغنر من الموسيقى موقف أبي العلاء من الشعر، وكما وصل أبو العلاء بين الشعر والفلسفة على كيفية بديعة، كذلك وصل فاغنر بين الموسيقى والفلسفة بطريقة باهرة، ومن هذه الجهة لا يتقدم على فاغنر إلا المعرّي.
أما في الموسيقى نفسها فقد ابتكر فاغنر أسلوبه الخاص الذي يسمّونه أحياناً «أسلوب السباحة بالموسيقى». ولقد كان لهذا الأسلوب تأثير كبير ووقع عظيم حتى ملك على القلوب نبضاتها وعلى العقول تصوراتها، وحاول بعض الموسيقيين المتأخرين الاقتداء به، ولكنهم قصّروا عن مداه ورجعوا عنه مخفقين وبقي سر الانتصار على الأمواج الموسيقية المتتالية من مميزات فاغنر الدالة على نبوغه.
يلاقي الأسلوب الفاغنري الآن معارضة شديدة في العالم الموسيقي. ولكن ذلك لن يزعزع مركز هذا الموسيقي الخالد، بل إنّ المحل الذي تحلّه موسيقاه سيبقى خاصاً بها. وإذا كان لم يقم حتى هذه الساعة موسيقي آخر يتمكن من اقتفاء خطوات فاغنر وطلب المثال الأعلى الذي طلبه هذا، فموسيقى فاغنر ستظل من أبدع ما عمل في هذا الفن.
ستكون هذه السنة في ألمانية سنة فاغنرية كما كانت سنة 1927 سنة بيتهوفنية فيكون لمؤلفاته الموسيقية، الشأن الأول في برامج الأوبرا والحفلات الموسيقية. والذين يعنون بدراسة فن هذا الرجل يجدون في المعارضة الحالية ما يضحك، لأنه مهما كانت حجج هذه المعارضة قوية فهي تتلاشى وتضمحل أمام أنغام فاجعة «ترستان وإيزلده، وبرسيفال، والرنغ» وفي هذه الأوبرا جعل فاغنر العناصر تتكلم. ولم يقف عند هذا الحد، بل إنه تخيّل مثال الله الذي صبت إليه نفس الإنسان منذ القديم، ولكنه في الوقت نفسه، كان يرى الحيوانية كما هي فمثّلها لنا في أشخاص فوتان وبرونهيلده وألبرخ وميمي.
أوجد فاغنر عالماً غنياً بعناصره وعوامله، غنياً بحالاته النفسية ومراميه الفكرية، غنياً ببواطنه وظواهره. وحريّ بنا ونحن نطلب ما هو سام وجميل، أن نعير أذناً صاغية إلى ما توحيه إلينا موسيقى هذا المتفنن الخالد، وأن نفتح قلوبنا للروح التي أجراها على أنغامه.
ب- إنّ واغنر موسيقي مبدع ولا شك. وهو في الموسيقى نسيج وحده. ولكن موسيقاه مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بإحساس الحياة المستمد من الأساطير الجرمانية وبالقضايا النفسية والفلسفة المنطوية عليها حياة أبطال تلك الأساطير. وشعور واغنر نفسه مستمد من نظرة النهضة الألمانية إلى الحياة والكون والفن. ليس واغنر مبدعاً للنظرة الألمانية إلى الحياة ولا واضعاً للأساطير الجرمانية. ولكنه مبدع للموحيات والأمواج الموسيقية المعبرة عن النظرة المذكورة ولألوان الشعور الفلسفي الذي أحسه حين قرأ تلك الأساطير، وفهم منها ومن نهضة شعبه المزايا القومية أو الجنسية الجوهرية التي جعلته يرى ويبرز تلك المثل العليا الفلسفية التي نراها تمثيلاً ونسمعها ألحاناً وأناشيد في «ولكيريا» و«سيقفريد» و«ذهب الرين» و«تانهويزر» و«لوهنقرن» و«أساتذة الغناء» و«ترستان وإيزلده» وغيرها. فكان واغنر شاعراً روائياً، لأنه نظم قصائد رواياته الموسيقية، وكان موسيقياً روائياً فلسفياً لأنه ألّف ألحان وأنغام تلك الروايات الخالدة بأسبابها الشعورية والفكرية المعبرة عن نظرة إلى الحياة عالية جداً. ويصعب على الدارس المفكر تصوّر وصول واغنر إلى ما وصل إليه من غير اتصاله بخطط النفس الألمانية وتأثره بنظرة إلى الحياة عالية وإحساس عميق بقضاياها، ومن غير نشأته ضمن العوامل النفسية التي أعطت ألمانية اتجاهها الصعودي.
وإذا ذهب أحد من أدباء العصر السوري الهالك إلى «أوفرة» وسمع ألحان واغنر أفيسرّ بها أو يطرب أو يشجى؟ لا أظن إلا أنه يعافها، لأنه لا يفهمها ولا يفهم موحياتها ولا يدرك قضاياها. وبعد فليس في قصائد واغنر الموسيقية من الطرب والشجا إلا قليلاً، وأكثر وأهم ما فيها، تأملات فكرية واتجاهات فلسفية لا يقدر على تتبُّعها من غرضه الطرب أو الشجو ومن لا يجد الموسيقى إلا تعبيراً عن شعور الطرب وشعور الشجا في مجال ضنك من الحياة تغلب فيه النزعةُ البيولوجية النزعة النفسية. ففائدة قطع موسيقى واغنر لا تقتصر على إحداث جذل أو انبساط أو شجا فيزيائي الشعور أو بيولوجي النفسية، بل تتعدى ذلك إلى القضايا الأساسية، التي تواجهها النفس الإنسانية الراقية، المركّبة، بكل ما فيها من أفكار وشعور ومطامح وميول ومُثُل وما تتعرض له من الصراع العنيف، الخفي أو المعلن، بين الأجمل والأقبح وبين الأسمى والأسفل وبين الأنبل والأرذل(17) ..
يقول أستاذ الموسيقى المخضرم هاغوب أرسلانيان:"كان الزعيم أنطون سعاده يعشق الموسيقى، كان صوته نصف أوبرالي. في أيامه كانت الموسيقى في البلاد العربية تتوزّع بين المصرية والتركية. تميّز سعاده بأذنه الموسيقية، وقد حيّر جميع المؤلفين والموسيقيين حوله. دائما كان يغني في البيت، وهو صاحب ذوق موسيقي كبير، وهذا واضح من اختياره أجمل المعزوفات، التي كان يغنيها، وقد عشق من الموسيقى والغناء الإيطالية والإسبانية والفرنسية والإلمانية والكلاسيكية، خصوصا السمفونية الخامسة والتاسعة لـ بيتهوفن... ولو أنّ الزعيم درس الموسيقى، ومن دون مبالغة، لكان من أهم مؤلفي الموسيقى العالمية، في القرن العشرين. ويروي هاغوب: أنّ سعاده قال لـ زكي ناصيف: لقد نشّزت مرتين يا زكي، وذلك تعليقا على سماعه أغنية: Antonio Vargas Heredia .
ومن المعزوفات والأغاني الأجنبية التي عشقها سعاده على حدّ ما ذكره الموسيقار أرصلانيان:
Chansons Napolitain: O sole mio- Santa lucia- Torno a sorrento- Omio babbino caro.
Chansons Espaniol: La paloma amargoura- Antonio vargas heredia- Il picconero- La violiterra- Ameddia luz- Luna rosa
Chansons francaise : J`attendrai- Un jour je te dirais
*
ثــالــثــا - فـــن الـــغـــنـــاء
انتقد سعاده الفهم الخاطئ لــ "الغناء" عند غالبية السوريين، الذي اقتصر عندهم على معاني الكسل والبطالة والجهل والطيش، ومن مظاهره فساد الأخلاق. ورأى أنّ معنى الغناء الفني هو في التعبير عن شعور سامٍ وعواطف متأثرة وتأملات روحية ترفع الأنفس إلى عالم الأثير الدقيق حيث تصفو الأنفس مما بها من الشوائب الأرضية ويغمرها الحب النقي .
لم يكن سعاده كاتبا عاديا في الفنون الجميلة كم ذكرنا، ومنها فن الغناء، بل كان ذا ثقافة فنية عالية جدا، مردّها إلى معرفته بلغات عدّة، فهو لا يكتب، مثلا، عن الفن الروسي أو الإلماني أو الإيطالي، إلا كونه يُتقن لغات هذه الشعوب وثقافاتها ونشاطاتها الفنية على مختلف الصعد. إلى جانب مشاركته الشخصية في حضور المناسبات الفنية، ومتابعتها نقدا وتوجيها واستخلاص العبر منها، لتوعية أبناء أمته، وحثهم على المساهمة الفعلية في نهضة ثقافتهم الفنية، لتماشي الثقافة الفنية الإنسانية الراقية، وتشقّ الطريق عبر النهضة القومية الإجتماعية نحو أرقى المثل الإنسانية في الحقّ والخير والجمال، وتلكم هي رسالة الأمة السورية الجديدة نحو العالم.
نتناول في هذه الدراسة، بعض المقالات المتضمنة ما كتبه سعاده عن "فن الغناء":
1 – ديمتري سميرنوف (الصوت النادر المثيل)
تحت عنوان "الموسيقى والغناء" ديمتري سميرنوف(18). وعلى أثر قيام مجموعة من المغنيين والموسيقيين من أوبرا موسكووسان فرنسيسكو، بإحياء ليلة غناء في بهو وست "الجامعة الأميركية"، كتب سعاده:
"أمّ بيروت، في أوائل الشهر المنصرم، المغني الجهوري الروسي، الطائر الصيت، ديمتري سميرنوف، والمغنية الكبيرة ليديا سميرنوف.. يصحبهما الموسيقي الإيطالي فوستو منياتي، غنى فيها الجهوري الصوت ديمتري، والرفيعة الصوت ليديا قطعا من تأليف بوتشيني وجيورداني وتشايكوفسكي وغلينكا.
وتعليقاً على هذا العمل اعتبر سعاده أنّ صوت سميرنوف نادر المثيل، ومواهبه الصوتية غنية جدا، وحرارة لهجته تكسب ما ينشده قوّة حياتية تهزّ النفوس. أمّا ليديا سميرنوف، فهي ذات صوت رخيم شائق، مواهبه من الطراز الأول، وهي تكسب منشداتها إجادة وحياة مؤثرة، والموسيقي فوستو منياتي برهن على أنّه موسيقي كبير وقطعه الغنائية التي ألفها، ونظّم عباراتها من طبقة راقية، وفيها روح ايطالية واضحة(19).
ومن مواقف سعاده اللافتة في اهتمامه بالموسيقى والغناء، قوله تعليقا على نجاح الرفيقين محمد صعيدي (في الموسيقى) ومحمد البكار (في الغناء):"لو وضع تحت تصرفي مليون ليرة لشيدت أفخم دار للأوبرا، ليس في بلادنا، فقط، بل في الشرق العربي قاطبة ".
2ــ المغني بولس جوهر(رفع الأنفس إلى مقام الآلهة): الغناء كما يفهمه عامة السوريين شيء ليس بذي اعتبار كبير. هو جميل عندهم، ولكن جماله مقتصر على كيفية واحدة يحبونه منحصراً فيها. وهذه الكيفية هي: أن يجلس المغني وحوله دائرة أو نصف دائرة من الشبان تدار عليه وعليهم كؤوس المدام، حتى إذا ما لعبت الخمرة في رؤوسهم وانتشى المغني أخذ هذا ريشة عوده وضرب بها على الأوتار وقال له الباقون «هات هات لنشوف. يا الله. الله الله». فالغناء على هذه الصورة ليس فناً، ولا يمكنه بواسطتها أن يرتقي إلى مرتبة فن.
المعنى الذي يستخرجه المفكر من غناء كالذي أتينا عليه، هو معنى الكسل والبطالة. وكثيراً ما يدل على الجهالة والطيش. ونتيجته في كل حال ليست نتيجة حسنة، بل هي إذا أُعمل النظر نتيجة سيئة جداً، كثيراً ما تؤدي إلى فساد الأخلاق وزيادة الجهل. ونحن في معالجتنا هذا الموضوع نعالج أحد أدوائنا الاجتماعية التي لا نعرف لماذا لا نتداركه، مع أنه يجعلنا من الحطة في المدارك والأخلاق في أسوأ مكان.
حملنا على طرق هذا الموضوع ما شاهدناه وسمعناه في حفلة غناء فني أحياها في صالون الكونسرفاتوريو المواطن الفني السيد بولس جوهر الذي برز إلى عالم الغناء الفني على صورة لا نظن أنّ أحداً منا انتظرها. وقد كان في صوت المواطن المذكور، وصوت الآنسة الإيطالية التي قامت بقسمها من الغناء ومهارة الأستاذ الموسيقي الإيطالي الذي قام بمهمة مرافقة الغناء بالضرب على البيانو، ما حدا بنا إلى تأملات كثيرة في فن الغناء ومركزه من حياتنا.
في الحفلة المذكورة رأينا السوري الأول في البرازيل ــــ ولا ندري إذا كان يوجد غيره في غير البرازيل ــــ الذي يخرجنا من دائرة الأوهام ويرينا الفروق الكثيرة بين معنى الغناء عندنا وبين معنى الغناء الفني الذي يشغل قسماً كبيراً في حياة الشعوب والأمم الراقية، ويبيّن لنا أين نحن من الفنون الراقية ــــ بل يرينا أيضاً كم تكون النتيجة الروحية التي يرمي إليها الفن الراقي في الغناء كما في التصوير والنقش وما شاكل ــــ في كل إشارة وكل حركة وكل نبرة وكل كلمة وكل صوت حالة تمثيلية تعبّر عن شعور سامٍ وعواطف متأثرة وتأملات روحية ترفع الأنفس إلى عالم الأثير الدقيق حيث تصفو مما بها من الشوائب الأرضية ويغمرها الحب النقي ــــ هذا هو الفن الخالد الذي يلطّف الحياة في هذا العالم المملوء بالمكدرات ــــ هذا هو الفن الذي يرفع القائمين به إلى مراتب الخلود ــــ هذا هو الفن الذي يمثل جزءاً من حياة كل نفس ذاقت حلاوة الحب ومرارة العقبات ــــ هذا هو الفن الذي رفع به المواطن المذكور الأنفس إلى مقام الآلهة وظهرت مواهب صوته الجميل فيه ــــ هذا هو الفن الذي يتشرف السيد بولس جوهر بخدمته خدمة يستحق لأجلها كل ثناء، ونفتخر نحن بأنه يوجد بيننا من يقدّره حق قدره ويعنى بخدمته.
بين ما جرى في الحفلة المشار إليها، وما يجري في اجتماعات الغناء التي وصفناها بإيجاز كلي في بدء هذا المقال، فرق كبير ظاهر وهو أنه في الحادث الأول يتجلى شعور راقٍ بل وحي روحي هابط من سماء الخلود، أما في الحوادث المشار إليها فالشعور يتجلى على هيئة شهوات متأتية عن حالة غير طبيعية أوجدتها الخمرة. وفضلاً عما تقدم، فالغناء السوري المتعارف إجمالاً هو من النوع الذي يولّد الشهوات وليس فيه وصف حالة نفسية راقية إلا في ما ندر.
و«الروزنا» و«تحت الليموني» الشائعتان كثيراً مثال واضح لذلك.
لا يقدر مطرب سوري أن يقوم بإحياء ليلة غناء سوري تكون جديرة بحضور العائلات الراقية التي تتطلب غناءً يوقظ ما في النفوس الحساسة من العواطف النبيلة والشعور السامي، لا غناءً يقتصر على وصف القوام الرشيق وما له من التأثير على قلب الصبِّ الولهان وشدة تشوّق هذا اللقاء والوصال. فالقلوب المملوءة شعوراً رقيقاً تريد أن تعرف في الحياة حباً يتعدى حد الشهوات إلى التأثير على مجرى الحياة نفسها، وغناءً روحياً يخرج بالأنفس من دائرة الملذات الجسدية إلى منفسح المنعشات الروحية. وهذا هو نوع الغناء الذي كان قبلة أنظار مشاهير مؤلفي الألحان والأغاني أمثال دانتي [فيردي] وفاغنر ومسكاني وليونكفاللو وغيرهم فرفعوه إلى مرتبة سامية جداً بتآليفهم وجازوا على ذلك بالخلود. وإذا كان أرباب الأصوات الجميلة عندنا يلجؤون عندما يريدون إقامة حفلات غنائية للسوريين إلى الأغاني التي أبرزتها عقول أولئك النوابغ، كما فعل «الباريتونو» السوري السيد بولس جوهر في الحفلة التي أتينا على ذكرها، فليس في ذلك ما يلامون عليه بل يشكرون خصوصاً والأغاني المذكورة لم تعد مختصة ببلاد ما بل أصبحت شائعة في العالم كله.
قليلون هم السوريون الذين يعرفون هذه الحقيقة. فأسماء دانتي [فيردي] وفاغنر وأمثالهما لا تزال عند السواد الأعظم منا مجهولة تمام الجهل. والسيد بولس جوهر هو السوري الأول على ما نعلم الذي دعا العائلات السورية في البرازيل إلى حفلة حاول فيها تعريف تلك العائلات ببعض النوابغ المذكورين وفنونهم السامية. وهو لا شك قد بدّد من أذهان الحاضرين أوهاماً كثيرة في ما يختص بفن الغناء ومراميه.
نرجو أن يكون من وراء تعريف السوريين بفن الغناء الراقي ما يفتح لنا عهداً جديداً، لا لترك ما عندنا بالمرة والذهاب وراء الفن الغربي، بل للاستفادة من هذا وترقية فنّنا الغنائي الخاص حتى نبلغ المرتبة التي بلغها أرباب عائدة وكفالاريا روستيكانا وتاييس وطوسكا وبالياتشي وسواهم.
في سورية اليوم نهضة جديدة في عالم الموسيقى والغناء تبشر بمستقبل باهر. ولمّا كانت الموسيقى والغناء من العوامل الكبيرة في تطور حياة الأمم الاجتماعية والروحية، فحريّ بالسوريين أن ينشطوا إلى مناصرة النهضة المذكورة ويعملوا في سبيل ترقية هذين الفنّيين الساميين .
3- فدوى قربان ( نابغة الغناء الراقي السورية فدوى قربان): نشر سعاده في جريدة "الزوبعة" التي كان يصدرها في الأرجنتين ثلاث مقالات، تناول فيها "نابغة الغناء الراقي السورية فدوى قربان"، وذلك في اعداد "الزوبعة" 51و52و54الصادرة في شهري أيلول وتشرين أول من العام 1942:
أ ــ " قدمت الأرجنتين منذ بضعة أشهر نابغة الغناء الموسيقي الراقي السورية الآنسة فدوى قربان. وكان من دواعي الأسف أنّ إدارة الزوبعة لم تعلم بقدومها في ذلك الحين لتعطيها ما تستحقه من الذكر. وبقيت فدوى قربان نسياً منسياً في الأرجنتين كل هذه المدة التي قضت معظمها في نواحي سان خوان ومندوسة حيث لها شقيقان أقامت عندهما. ثم عادت إلى بيونس آيرس حيث اتصلت بها سفارة بريطانية العظيمة وبعض مؤسسات المجموع البريطاني في الأرجنتين، فعرف قدر فنّانتنا، وسألتها السفارة المذكورة إقامة حفلة غنائية لمساعد جرحى الحلفاء، فلبّت الدعوة وأقيمت الحفلة مساء السبت الواقع في 18 أغسطس/آب الماضي وبهذه الواسطة تمكنّا من معرفة وجود نابغتنا في الغناء بيننا في هذه البلاد الكريمة.
ليس سبب بقاء إسم فدوى قربان ووجودها في هذه البلاد مجهولاً عائداً إلى تجنّب الآنسة قربان الاتصال بأبناء وطنها أو إلى تهرّبها من جنسيتها، بل إلى مادية المجموع السوري في هذه البلاد وانحطاط معظم صحافتنا وجهل الواغلين على الصحافة المقاييس والقيم الفنية. فقد اهتمت الآنسة قربان، حال وصولها إلى بيونس آيرس، بالاتصال بأبناء أمتها بواسطة الصحف السورية هنا. فزارت بعض هذه الصحف وسعى أخواها لتعريفها عند الصحافين ولكنهما وجدا آذاناً صمّاء. فيئست الفنانة من جماعتها. ولما عادت إلى بيونس آيرس بعد غيابها في الداخلية كان الأجانب أول المهتمين بها.
إنّ الآنسة فدوى قربان قد واجهت في الأرجنتين الحالة عينها التي واجهها زعيم النهضة السورية القومية الاجتماعية عندما وطئت قدماه شاطىء الأرجنتين. هي الحالة التي يتألم منها كل ذي فن وأدب نزيه وكل مفكر مخلص. لأن المدرسة المادية قد علّمت السوريين المغتربين في هذه البلاد، وغيرها، أنّ الشرف القومي والمواهب النفسية، التي تظهر بها حقيقة طبيعة الشعب ونفسيته، هي أمور تافهة بالنسبة إلى المبالغ المالية التي يمكن جمعها بطرق شريفة أو غير شريفة. وأكثر من من ذلك، إنّ جميع المواهب النفسية والفنون الجميلة التي تعطي الأمم درجة رقيّها وتمدنها ليست شيئاً مذكوراً عند الماديين الذين يفضلون الاهتمام بطاولة قمار أو بنرد الروليت على الاهتمام بشؤون الثقافة الروحية.
كان بروز فدوى قربان في فلك الفن في الأرجنتين كبروز البدر التام في الليل الصافي الأديم. وكان غناؤها في الليلة المذكورة انتصاراً باهراً لمواهب الشعب السوري النفسية التي جعل أصحاب المدرسة المادية من مجموعنا الأجانب يظنون أنه لا مجال لها في غير البحث عن المال. وجميع الذين سمعوها أو سمعوا عنها، من غير السوريين، صاروا يقولون: أصحيح أنه يوجد حياة للفن بين السوريين وأنهم شعب يقدر على الاضطلاع بأعباء الفن.
إننا مديونون بفضل كبير لمواطنتنا الكبيرة وضيفتنا الكريمة الآنسة فدوى قربان بإظهار مكنونات شعورنا وإحساسنا بهذا المظهر الراقي الجميل ليس بواسطة صوتها الرفيع النادر المثيل، بل أيضاً بواسطة ذوقها الجميل في إدخال تراكيب تلحينية على أغانينا السورية تمتاز كثيراً على كل ما أجري من هذا القبيل في سورية أو في مصر. وكم نشعر بالفخر عندما نرى ونسمع أنّ فنانة كبيرة منّا تقف أمام مجتمعات ثقافية عالمية وتنشد لهم أناشيد حياتنا السورية بلغتنا وتلحيننا، إنشاداً يحمل هذه المجتمعات على الشعور معنا واحترامنا؟
إنّ ما كتبته الصحافة الأرجنتينية والبريطانية وغيرها عن غناء فنّانتنا يشرح صدر كل احد منا. فأهلاً وسهلاً بمستحقة تمثيلنا هذا، هذا التمثيل الممتاز في عالم فن الموسيقى. فأهلاً وسهلاً بهذه السفارة الفنية التي انتدبت فدوى قربان نفسها لها.
وسنعود إلى ذكر ما سيكون من الشأن العالي لفنّانتنا الممتازة في هذه البلاد، على أننا نثني هنا الثناء الكثير على الجمعية السورية الثقافية التي عرفت كيف تقدّر الفن وشكّلت لجنة من سيدات ورجال لزيارة فدوى قربان والترحيب بها، وكيف تولي الفن السوري اهتمامها وعنايتها(20).
ب – نشرنا في العدد الماضي تعليقاً صغيراً على وجود نابغة الغناء الراقي السورية فدوى قربان بين ظهرانينا. وذكرنا شيئاً قليلاً عن الفخر الذي يناله شعبنا ببروز فنانة كبيرة مثلها يتجاوز صيتها والإعجاب بها حدود وطننا أو جماعة واحدة من الناس، ويبلغ إلى جميع الأمم الراقية التي ترجمت لها فدوى طائفة من أرقى الأدوار الغنائية والروائية بصوت ساحر مملوء شعوراً حياً وحرارة تحرك النفوس وترفعها إلى العلاء.
وقد انتقدنا البرودة التي يقابل بها مجموعنا في الأرجنتين الشؤون الثقافية الروحية، وهي برودة شائعة في جميع مجاميعنا عبر الحدود. وحبّذنا عمل «الجمعية السورية الثقافية» التي عرفت كيف تعزز الفن الحقيقي وشخصية فنّانتنا بزيارتها لها زيارة رسمية وتقرير استقبالها في حفلة شاي. وبكل سرور نعلن للسوريين النازلين في بيونس آيرس أنّ حفلة الاستقبال ستجري يوم السبت الواقع في 26 سبتمبر/أيلول الحاضر في قاعة خاصة في «كنفتيريا أميركا» في شارع سنتافه 2428. وبهذه المناسبة نذكّر جميع الغيورين من أبناء أمتنا أنّ هذا الاستقبال هو اجتماعي ثقافي فني لا دخل فيه للسياسة وللعنعنات السياسية.
ففي هذا الاجتماع تتجه نفوسنا إلى الفن وترقية حياتنا الاجتماعية وإلى محبة التآخي القومي والوئام الاجتماعي. ولا ننسى أننا مجموع واحد مهما تعددت الأسماء والمذاهب بيننا.
وعلمنا أنّ فنّانتنا ستقدم كنسرت غنائي يخصص ريعه للمستشفى السوري اللبناني في هذه المدينة. وستكون الحفلة الغنائية يوم الثلاثاء الواقع في 29 سبتمبر/أيلول الحاضر. والمكان مسرح أتينايو الساعة 21 و30
وقد اطّلعنا على جدول الحفلة فإذا فيه قطع غنائية ممتازة منها «لرغتو» ــــ لويولدي [Vivaldi] » و«أداجيو ــــ لباخ» ونشيد الأجراس [Bell’s Song] من «لَكْمِه ــــ لدليب [Delibes] » و«العربة» لبيزاه [Bizet] و«النيل» للرو وغيرها لفتشيني [Viccini] وموندرت وشتروس [Strauss] والأبياف ووردي [Verdi] وبلين [Bellini] وغيرهم.
ولكي يعلم مجموعنا بعض التقدير الذي حازته فنّانتنا في العالم تقتطف بعض أقوال عظماء الأدب والفن عنها وأقوال بعض الصحف الهامّة وإليكه:
قال رابندرانات طاغور يصف صوت فدوى قربان:
"صوت إلهي ذو جمال نادر".
قال جبران خليل جبران في رسالته إلى فدوى قربان:
"إني أحد أولئك الذين أدهشهم جمال صوتك وقوّته".
قال دانيال فرومان (أحد خبراء الفن):
"إنّ غناءها التغريدي هو أبدع غناء سمعته في حياتي".
والشهادة التالية ذات صفة خاصة لأنها صادرة من مغنية شهيرة أخرى هي أديت دلي:
"إنّ للآنسة قربان صوتاً ذا جمال نادر مقرون بلطافة وسحر في تمثيلها".
وقالت جريدة الفيغارو باريس إنّ صوتها من العهد الذهبي.
وهنالك أقوال كثيرة لصحف وكتّاب كثيرين. من الصحف الدايلي مايل اللندنية والتايمز النيويوركية وغيرهما.
فالفنانة التي سارت باسم قوميتها السورية في العالم وكسبت لفنها ومواهب شعبها كل هذا الفخر هي فنانة كبيرة جديرة بكل تقدير واحترام. وليس أفضل لإظهار محبة مواطنيها لها وتقديرهم لقيمتها الفنية وقيمة الفن على الإطلاق من الاشتراك في حفلة الاستقبال التي تقيمها الجمعية السورية الثقافية لتكريمها والترحيب بها، ومن حضور الكنسرت الذي ستغني فيها لجمعية المستشفى السوري اللبناني وجميع الحفلات الغنائية التالية التي ستنشد فيها فنّانتنا لمجموعنا ولكل الناس)21).
ج- صوت قوي عذب مملؤ بالحياة .
غنّت فدوى قربان غناءً موقظاً للإحساس ومنبهاً للإدراك. ظهرت مزايا صوتها في الأغاني الدقيقة «كملكة الليل» من «القيثارة السحرية [Magic Flute]» لموزارت و«أنشودة الضحك» من «الخفاش» لشتراوس و«البلبل الشرقي» لالبياق و«نشيد الأجراس» من «لكمه لدليب". و«هاصوت الحسون» لبشف [Specht] . وهذه المزايا هي فوق كل مبالغة.
أما الذين كانوا قد نالوا قسطاً من الثقافة في الموسيقى فقد حملهم صوت فدوى قربان إلى انتصارات نفسية كبيرة، وكان إعجابهم بمقدرتها ومواهبها الفنية شديداً.
للمرة الثانية تبرز الفنانة السورية فدوى قربان على مسارح بيونس آيرس. وكان بروزها هذه المرة أمام النزالة السورية في الحفلة التي أقيمت يوم الثلاثاء 13 أكتوبر/تشرين الأول الحاضر في مسرح فلتياما من قِبل جمعية «المستشفى السوري اللبناني» في هذه المدينة.
كان موعد ابتداء الكنسرت الساعة الواحدة والعشرين ونصف. ولكن الساعة صارت الثانية والعشرين ولم يكتمل حضور الناس. وقد افتتحت الحفلة وفريق من القادمين لا يزال يتحدث في رواق المسرح كأن المسألة مسألة سهرة اجتماعية لا مسألة تغذية نفوس بالفن الموسيقي. فصار بعض المهتمين بالحفلة يصفقون للناس ليدخلوا لأن الحفلة ابتدأت وبعد الجهد الجهيد اكتمل الجلوس والموسيقى قد ابتدأت.
فاجأت فدوى قربان المجموع السوري، وجميع الذين لم يكونوا قد سمعوا صوتها من قبل، بصوت قوي عذب مملوء حياة. ولكن أكثر السوريين غير مثقفين في الفن الموسيقي ويجهلون المواضيع الغنائية التي تناولتها المغنية. ومع ذلك فقد أصغى الجمهور أثناء الغناء تدفعه عوامل الدهشة وروعة الصوت وغرابة المغنى.
وقد تمكنت المغنية من التأثير بصوتها على نفسية الحضور التي ربيت على ألحان محدودة وفي أفق ضيق. واجتذبت عدداً من الذين لم يتعودوا غير الأغاني «العربية» المقتصرة على حالات نفسية أولية إلى جمال الفن الراقي. أما الذين كانوا قد نالوا قسطاً من الثقافة في الموسيقى فقد حملهم صوت فدوى قربان إلى انتصارات نفسية كبيرة، وكان إعجابهم بمقدرتها ومواهبها الفنية شديداً.
ولم يخلُ الأمر من دمدمة بعض المتأخرين في الذوق الموسيقي، الذين لم يمكنهم تتبع موحيات الفن، فصاروا يعلقون على اللغات التي غنت بها، ويتجادلون هل هذه القطعة ألمانية أو فرنسية أو طليانية. والبعض اهتموا بزينة المغنية، والبعض الآخر تضجروا من الغناء «الإفرنجي» وصاروا يطلبون أن يجيء دور «يا لوعتي» ودور «إفرح يا قلبي».
هذا القسم «العربي» جاء في الأخير وجاء معه أصوات «يا عيني» و«طيب» من الحضور، والقطعة الأخيرة من الغناء الشعبي هاجت قسماً كبيراً من الحاضرين فعظم الصياح حتى كدنا نظن أنفسنا في معرض هزج وهتاف ومنزل يدور فيه الكأس ويثمل المجتمعون.
ولا بدّ من التعليق على هذا القسم فقد ظهر اختلاف بين طبقة صوت المغنية وطبقة صوت العود. ولوحظ أنّ العواد كان يضرب بدرجة أدنى من اللازمة لصوت المغنية حتى أنّ بعض الحاضرين صاح «علِّ الطبقة يا عبد الكريم».( 22) .
*
رابـــعـــاً: الرقص والمراقص
خصّ سعاده، أثناء وجوده في أميركانية، الرقص والمراقص بمقالة نشرت في جريدة "المجلة" عام 1924، تحدث فيها عن عيوب الرقص والمراقص في المدن الكبرى، خصوصا في الولايات المتحدة الأميركانية، تناول فيها العناوين الرئيسية الآتية: المراقص العمومية، المراقص المقفلة، والكباريهات، وختمها بتعليل تلك الحالة السيئة، ممهداً بالسؤال: هل الرقص مسبب للفساد، أم أن الفساد الأخلاقي في الهيئة الإجتماعية مسبب للرقص. وفي تلك الحالتين، يجزم سعاده بأنّ الرقص الحالي وباء إجتماعي ويدعو إلى محاربته، لأنّ آلام الهيئة الإجتماعية قد بلغت حدّا هائلا من جرائه، وقد آن الأوان لضرب مفاسد هذه المدنية ضربة قاضية.
وفي ما يأتي النص الحرفي لهذه المقالة :
" قلّما شهد العالم تحوُّل أمور كانت في بدئها لطيفة جميلة إلى عيوب ومفاسد خطِرة على الهيئة الاجتماعية كما تحوّل الرقص إلى ذلك.
لا يُدرك هذه الحقيقة إلا من بحث عنها في دور الرقص، خاصة كانت أو عامة، زاجاً نفسه بين الراقصين والراقصات، مازجاً نفسه بينهم حتى يصير كواحد منهم. فإذا تمكن من ذلك كله وقف على حقائق، مجرّد سردها يملأ القلوب النقية رعباً واشمئزازاً. فالمراقص أصبحت اليوم عبارة عن أماكن يقامر فيها المرء بماله وحياته، ولا يخرج منها إلا خاسراً أحد هذين الأمرين أو كليهما.
المراقص العمومية
في نيويورك اليوم لا أقل من 768 دار رقص حائزة على إذن من الحكومة، ويُقدَّر عدد الإتيان للرقص فيها بملايين عديدة من المرار. وفي المدن الكبيرة في العالم المتمدن كله ما يشابه ما في نيويورك من المراقص. وفي كل مرقص من هذه المراقص يجري من الأمور المعيبة المخجلة ما يُعدَّد، منها ولا تعدَّد من تعاطي الخمر حتى تحمرّ مآقي العيون، ويلتهب الدماغ، والتجاذب والتدافع بين الراقصين، إلى المخاصرة والمداعبة والتدلّي إلى أحط درجات البهيمية والحيوانية. هناك يقف الإنسان أمام مشهد مؤلم جداً من مشاهد الحياة التي يحياها المتمدنون كلهم، لا فرق بين صاحب القصر منهم وصاحب الكوخ أو بين الكبير والصغير اللّهمّ إلا الذين اختطّوا لأنفسهم طريقاً خاصة شذوا بها عن طُرُق أبناء جنسهم ومدنيتهم، فهؤلاء لهم حياة مستقلة وهم قلال.
في المراقص المشار إليها، الرقص أصبح فنّاً تجري فيه اختراعات عظيمة. وبعض هذه الاختراعات ما يُقصد منه إحداث تشنجات عصبية في الراقصين، والبعض يقصد منه إحداث تخدير في الدماغ إلى غير ذلك. فيرى الرجل الطبيعي الداخل إلى تلك المرقص لأول مرة أنه قد انتقل كما بسحر ساحر من العالم الذي يعيش فيه إلى عالم آخر من عوالم الخيال المملوء بالعجائب والغرائب. فمن نساء أكثر من نصف عاريات قد استلقين على كراسي أو مقاعد مائلة إلى الوراء يغازلن أو يخادعن شباناً قد عطفوا وانحنوا عليهن يبادلونهن نظرات وعبارات كلها مغازي شهوانية، إلى نساء ورجال يقعن هنا وهناك من شدة السكر والعياء، إلى نساء ورجال قد ملأوا الكؤوس وجلسوا يتعاطون الخمر ويسكرون بين هزيج وصياح، إلى فتيات ممسكات أيدي شبان تدل ملابسهم على أنهم من ذوي اليسار يقتدنهم إلى مخادع وسراديب اخلية يخرجون منها فاقدي الشعور فاقدي الهدى فاقدي المال وكل شيء آخر إلا الملابس.
في بعض المراقص الاعتيادية قد لا تبلغ الحال هذه الدرجة من الفحش والفجور الهائليْن،
*
المراقص المقفلة
أما في المراقص التي يطلق عليها إسم «المراقص المقفلة» فإن تجارة الفحش والسلب تبلغ فيها حدها الأقصى. ولقد اطّلعنا في إحدى المجلات الأميركية على وصف معتدل موجز للمراقص الاعتيادية والمقفلة، لا نقول فيه إلا أنه وصف فتاة هي الآنسة لامبين، فآثرنا تعريبه لما فيه من العبرة والفائدة. وهو ما يأتي:
«لقد قام في المدة الأخيرة كثير من التعنت والاشمئزاز ضد بعض أمور دور الرقص، مثل الرقص الشهواني وتعاطي الخمر، مما يسهل معه حدوث التعارف غير المميز وغير المحدود. ولكن، إنصافاً لدار الرقص، يجب التنبيه إلى أنّ هذه أوصاف متعارفة عند كل طبقات الهيئة الاجتماعية. فلا يسهل ملاحظتها في دار رقص كبيرة أكثر مما يسهل ذلك في بيوت وفنادق الطبقة العليا، بل هي موجودة في المكانين. بناءً عليه يظهر أنّ دار الرقص ليست في حد ذاتها السبب المباشر لذلك، ولكن الأرجح أنّ الأمور المتقدمة ناشئة عن تأثير أحوال تعمل في هيئتنا الاجتماعية».
ومما جاء للآنسة المذكورة في وصف «المراقص المقفلة» ما يأتي:
«تُستأجر الفتيات هنالك على أساس «القومسيون» لكي يرقصن مع الرجال الزبائن. والقاعدة المتبعة هي أن لا يُسمح لغيرهن من الفتيات بالدخول، أو إذا سمح بذلك فالقادمات لا يرحب بهن على الأقل. ودار الرقص في هذه الأماكن منفصلة لا يمكن الوصول إليها إلا من باب معين أو أكثر. ويدفع للدخول ما يتناول ست أو ثماني رقصات ومن ثم يجب أن يُدفع لكل رقصة عشرة «سنوت»، وفي بعض الأحيان يُدفع ربع ريال أو خمسة وعشرون سنتاً لكل رقصتين. أما الرقصات فقصيرات الأجل تتراوح الواحدة منها بين الأربعين والستين ثانية، وفترات الراحة تكون ثلاثين وأحياناً ستين ثانية. ويكون هنالك جوق موسيقي واحد عادة ونوع الموسيقى ليس في درجة موسيقى قصور الرقص. والانتفاع أو الربح يكون من الزبائن والفتيات المشتركات في الرقص معاً.
«يجب على الزبائن أن ينفقوا ريالين أو ثلاثة على أي عدد معقول من الرقصات. وليس من الشذوذ أن يُنفق الواحد منهم خمسة أو ستة ريالات في سهرة واحدة. أما الفتيات فيدفع لهن أربعة «سنوت» عن كل رقصة أو خمسة «سنوت» إذا كنَّ يقمن بعملهن ليلتي السبت والأحد. ولكي تتمكن الواحدة من هؤلاء الفتيات من كسب معاش معتدل، افترض عشرين ريالاً في الأسبوع، يجب عليها أن ترقص 400 رقصة في الأسبوع أو نحو سبعين رقصة كل ليلة».
*
الكباريهات
إلى هنا انتهى الكلام عن المراقص العمومية والمقفلة، وجاء دور الكلام عن المراقص التي يطلقون عليها إسم «كباريه». وهذه المراقص أعلى طبقة من حيث الفن من التي تقدمتها، وفيها من النظام والدقة في وضع الإشراك للزبائن ما يقضي بالعجب العجاب كما سترى:
«يستأجر «الكباريه» الواحد عدة فتيات يطلق عليهن إسم «مضيفات»، وواجباتهن هي أن يعملن كل ما يؤول إلى انشراح القادمين من الخارج. للمضيفة الواحدة أن تعمل أحد عملين، فهي إما أن تجعل عملها إبقاء القادمين بعيدين عن الناس «المغلوطين» أي المقامرين والذين على شاكلتهم، وإما أن تقوم هي نفسها بتعريف تلك الطبقة الدنيا إلى الزبائن الأغنياء وذوي المراكز الذين يؤخذون إلى حيث «يُنظفون» ويبتزهم أولئك ما معهم، والمضيفة تشترك في الغنيمة».
ويجاري هذه «الكباريهات» في العيوب «كباريهات» المطاعم التي جاء في وصفها ما يلي:
«تجذب هذه «الكباريهات» إليها زبائن من نصف دائرة اجتماعية كبيرة. ومزية هذه الأماكن هي في أنّ الشبان والشابات يتمكنون فيها من الانزواء عن القاعات التي تُضيّق عليهم في الأمور التي يأخذون بها عادة. هنا يمكنهم أن يُحبوا بلا فرق أو تمييز وأن يدخنوا وأن يعقدوا اتفاقات ويضربوا مواعد. وهم مغرمون بإعطاء أسماء غير حقيقية عن أنفسهم عندما يسألون. بين الفتيات منهم بنات مدارس وتلميذات كليات وكاتبات على الآلة الكاتبة وسكرتيرات ومستخدمات في المخازن وغيرهن. وبين الشبان تلاميذ كليات وتلاميذ مدارس وقائمون بالخدمة الجندية وذوو ألقاب غريبة. وبعض الأحيان يُرى هنالك ما يشبه شمامسة الكنيسة القادمين من الداخلية (لأشغال)».
جاء في تقرير نشر حديثاً في الولايات المتحدة أنه يجب إبطال النغم البطيء لأن هذا النغم هو المسبب لكثير من الرقص الشهواني. ويقال هنالك إنّ اللوم يقع على الجهة التي يُنتظر منها مثال حسن، لأنه ما زالت الفتيات تطالع كثيراً أخبار الرقص كل الليل في نوادي الضواحي والفنادق العمومية والمطاعم في المدينة والاجتماعات الأخرى التي هي من هذا النوع، تظل التصورات السيئة تفعل فعلها في الفتاة غير المبالغ في صيانتها إلى أن تقودها أخيراً إلى السقوط في تجارب خطرة.
*
هل الرقص مسبب للفساد، أو العكس ؟
نمسك القلم الآن عن التمادي في وصف الحالة السيئة التي بلغتها الهيئة الاجتماعية بواسطة الرقص مكتفين في ذلك بما تقدم، وننتقل إلى تعليل تلك الحالة مبتدئين بسؤال بسيط وهو:
هل الرقص مسبب للفساد أم الفساد الأخلاقي في الهيئة الاجتماعية مسبب للرقص؟
لا نحاول بهذا السؤال أن نفرّق بين الرقص والفساد الاجتماعي، فعلاقة الواحد منهما بالآخر علاقة متينة جداً. ومن يقول هلمَّ نرقص كأنه يقول هلمَّ نفعل شيئاً فاسداً لأن الرقص لا يمكن أن يكون بلا فساد، إذ ما معنى الرقص من الوجهة الاجتماعية؟
إذا أراد شاب أن يتعرف بفتاة كائنة من كانت فإنه يذهب إلى نادي الرقص، وهناك يتعرف بفتيات كثيرات يمكنه أن يتخذ منهنَّ ألاعيب للتسلية. وإذا أراد شاب أن يخدع فتاة ما ويجعلها تستسلم إليه، فإنه يدعوها إلى الرقص منتهزاً هذه الفرصة لتطويق خصرها والتأثير على عواطفها بصورة قد لا يتمكن منها بدون الرقص. وما يقال عن الشاب من هذا القبيل يقال عن الفتاة. فبين الفتيات كثيرات لا همّ لهنَّ إلا التعرف بشبان يمكنهنَّ الاجتماع بهم و«تمضية الوقت» معهم، غير حافلات بما يكون عليه أولئك الشبان من الأدب أو الفساد الأخلاقي.
إذاً الرقص هو الفعل الفاسد المعيب، والقصد منه أن يكون وسيلة اجتماع شخصين أو أكثر للقيام بضروب الخلاعة والفحش، لا للحب كما يحاول الراقصون التمويه على الناس. لأنه لا يمكن الحب مطلقاً أن يتدلى إلى هذه الدرجة المنحطة. أما فاعل هذا الفعل فلا بدّ أن يكون قد أقدم عليه بدافع الجهل والطيش والاغترار وما شاكل. وأما الذين يقع عليهم الفعل المذكور وهم بين هزل وجدّ، فهم أولئك الذين يقادون أو يساقون إلى المراقص متورّطين من أصحابهم أو معارفهم غير حاسبين لما يفعلون حساباً.
قد يكون في بعض المراقص أو الحفلات الراقصة شيء من المحافظة على الأدب. ولكن هذا لا ينفي بصورة ما كون الرقص أمراً فاسداً. فإذا قيل إنّ الرقص لا يكون كذلك إلا عند أشخاص «ساقطين»، فلا يستطيع أحد أن ينفي أنّ الرقص أكثر أمور الدنيا إغراءً للفتى أو الفتاة على ارتكاب المفاسد لما يُحدثه من التأثير الغريب على عواطف الواحد منهما، حتى لا يعود في استطاعته امتلاك نفسه وتحكيم عقله في ما هو مُقدم عليه. والإنسان ليس من فولاذ كما يقولون. فقوة الإرادة مهما كانت صلبة تزول تحت ضغط المؤثرات المتوالي والتعرض المستمر. والحكيم ليس من يتعرض للتجارب الخطرة معتمداً في دفع أذاها على قوة إرادته، بل الذي يستعمل قوة إرادته للتغلب على دوافع التعرض لما فيه خطر وقمع ثورة الشهوات وهي في المهد.
نعتقد أنّ الرقص العامل الأساسي في إبلاغ الطلاق في الولايات المتحدة الحد الذي بلغه الآن. يتزوج الرجل في الولايات المتحدة، ولكنه لا ينقطع عن الرقص وكذلك المرأة. وكثيراً ما يعقد هنالك زواج رجل وامرأة رأساً بعد سهرة رقص، فلا يمر عليهما بعض الوقت إلا ويضطران إلى الانفصال، وهذا كثير الحدوث. ولا يندر أن يقود الرقص امرأة غير مطلقة إلى التزوج من رجل آخر تكون قد تعرفت به في بعض دور الرقص، وهو ما وقفنا على أخبار كثيرة مثله حين كنا في نيويورك منذ نحو ثلاث سنوات ونصف. وبعض الأحيان يحمل الرقص المرأة على التزوج نحو عشرين مرة أو أكثر، فتكون حيناً في بيت هذا وآناً في بيت ذاك. زد على ذلك النتائج السيئة التي تتأتى عن سلب دُور الرقص أعضاء العائلات من البيوت وإقصائهم عن لذة الاجتماع والحديث العائليين اللذين يصونان أو يعملان على صيانة الآداب والأخلاق العائلية الراقية. بعد الوقوف على ما تقدم، لا يحجم المرء عن إلقاء سؤال بديهي هو: ألا يجب إبطال الرقص؟
للرقص مدافعون عنه كثيرون يصعب إقناعهم بوجوب ملاشاة هذا الداء العضال مهما كانت البراهين على ذلك كثيرة وهامة، ومع ذلك سنجرب الإتيان ببراهين حسية إذا لم تسفر عن اقتناع أصحاب نظرية الرقص فلا أقل من أن تكون شاهداً حقيقياً آخر على صحة ما نقول. فمما يحاول أصحاب نظرية الرقص إقناعنا بأنه من «محاسن» الرقص هو تسهيل التعارف، وهذا قد رأينا نتيجته في ما تقدم. ويلي هذا عندهم الرياضة، وفي هذه نقول كلمتنا الآن. إذا كان الرقص رياضة، فلا شك أنها رياضة تقود إلى الترهُّل لا إلى التصلب والاشتداد. إنّ الرياضة الحقة يقصد منها إبقاء الجسم سليماً مستعداً لكل طارىء، فهل هذا ما يقصد من الرقص؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، وهو ما يجيب به أصحاب نظرية الرقص، فهل لواحد من هؤلاء أن يجيب صريحاً على الأسئلة الآتية:
- لماذا يشعر الراقص بصداع عندما ينهض من الفراش مساء الأحد إذ كان قد رقص ليل السبت بطوله كما هي العادة، أو صباح أي يوم آخر إذا كان قد رقص حتى نصف الليل أو إلى ما بعده؟ لماذا يشعر هو بتراخٍ وكسل في أعضاء جسمه؟ لماذا يشعر بوهن في قوته البدنية؟ لماذا يشعر بضعف في قواه العقلية حتى تعجزه المسائل البسيطة؟ لماذا يشعر أنّ قلبه يكاد يقفز من صدره إذا ركض هو مائة متر أو أكثر قليلاً لحاجة ما؟ لماذا يؤثر عليه البرد كثيراً حتى كأنه ييبسه أو الحرُّ حتى كأنه يخنقه أو يميته عياءً؟ لماذا يكون منخفض الصدر ومحدودب الظهر؟ لماذا يصاب بتلبُّك المعدة وعسر الهضم؟ لماذا يشكو دائماً من كثرة الأشغال وهي قليلة؟ لماذا يُصاب بمرض الضجر السريع؟
هذه الأسئلة وأمثالها لا يمكنك أن توجهها إلى الذين يستعملون الرياضة البدنية الحقة. وقد يجد أصحاب نظرية الرقص صعوبة في الإجابة عليها لأنها أسئلة قد لا تكون خطرت على بالهم من قبل، لذلك لا نكون قد أتينا أمراً إذا نحن أجبنا عليها حسبما نعتقده صواباً غير مجردين أحداً في الوقت نفسه من حق إبداء ما يعنُّ له بهذا الصدد: كل من له أقلّ إلماماً بالأوليات الطبيعية والقواعد الرياضية يدرك جيداً أنّ السهر وحده بدون أدنى عمل يُحدث في جسم الإنسان تأثيراً سيئاً، وأنّ العمل الليلي ينهك الإنسان ويضعفه. فعدم النوم في الليل عدوّ الرياضي اللدود، إذا أضفنا إليه ما يقوم به الراقص من الأعمال كان لنا جواب لا يقبل جدلاً على الأسئلة المتقدمة.
يبتدىء الراقص رياضته نحو الساعة التاسعة أو العاشرة ليلاً كما هي العادة، أي في الوقت الذي يكون الرياضي قد نام، وهو الوقت الذي تكون فيه السموم التي تطلقها النباتات قد امتزجت بالهواء وكثرت فيه. وهذه السموم وحدها كافية لأن توهن قوى الإنسان الجسدية والعقلية فيما لو كان مستيقظاً أو قائماً بعمل ما، فيأخذ بخصر الفتاة التي تقبل دعوته للرقص ويبتدىء بالدوران بها وهو مُلصق جسده بجسدها حتى تحسبهما غير منفصلين. ومن ثم تأخذ قوى الشعور والإحساس فيه كما في الفتاة في إجهاد نفسها متفاعلة تفاعلاً شديداً فيتسارع تنفّسه ويسرع نبضه وتكثر كميات السموم التي يتنشقها، والتي تكون قد تضاعفت كثيراً في جو صالة الرقص حتى تصبح غازاً ساماً بالمعنى الحرفي. وعندما تنتهي الرقصة يذهب الراقص إلى حيث «ينعش» نفسه بتناول بعض المشروبات الروحية التي تزيده تفاعلاً وتهيّجاً كما يزيد الهواء النار تسعراً وضراماً. ثم يعود إلى الرقص ظاناً أنّ ما يشعر به من التهيج قوةً ونشاطاً، والحقيقة أنه فوران وقتي يزول حالما يزول الفعل المهيج وتكون نتيجته ضعفاً ووهناً عاماً. فلو اضطر الراقص بعد ذلك أن يركض مسافة مائتي متر بسرعة لما تمكن من ذلك، بل إنه يسقط قبل بلوغ المسافة عياءً.
قد تقِلّ أضرار الرقص المادية فيما لو كان الرقص في النهار وفي مكان يملأه الهواء النقي، ولكنها لا تنتفي كلها أبداً ولا يعوض الرقص عنها بشيء. أما الأضرار الروحية والاجتماعية فلا تقِلّ مطلقاً سواء كان الرقص في الليل أو في النهار.
*
الرقص الحالي وباء إجتماعي يجب القضاء عليه
نحن من الذين يعتقدون أنّ الرقص الحالي وباء اجتماعي ويقولون بمحاربته بكل شدة، غير خائفين أن يقال عنا بين الراقصن والراقصات إننا من أبناء الجيل العتيق الذين ربوا على «التقاليد» القديمة. ونحن فوق ذلك من الذين يعتقدون بضرورة التقاليد والثبات على ما كان مفيداً منها، أما الخروج على التقاليد فلا معنى له إذا لم يكن هنالك تقاليد أخرى يؤخذ بها. وكل شيء جديد يصبح تقليداً، والتقليد الجديد إذا لم يكن أفضل من التقليد القديم كان من الحماقة أن يؤخذ به. والرقص واحد من التقاليد الجديدة التي هي أسوأ من كل قديم سيء. فالعالم اليوم في حاجة إلى من يوقف هذا الجيل المجنون عند حد، بل إلى من يردُّه إلى الحدود القديمة والتقاليد الجميلة السالفة.
نحن لا ننزّه القديم عن الأغلاط والعيوب، ولكننا نعتقد أنّ هذا الجديد الذي بلغ هذا الحد من الفحش أقبح من كل قبيح قديم. فآلام الهيئة الاجتماعية قد بلغت حداً هائلاً من جرّائه، ولقد آن أوان ضرب مفاسد هذه المدنية ضربة قاضية يتنفس بعدها العالم الصعداء(23).
*
الدبكة والرقص المنفرد
إنّ موقف سعاده الرافض كليّا، في مقالته السابقة، للمراقص والرقص الذي اعتبره وباء يجب القضاء عليه، لمفاسده ونتائجه المدمّرة للهيئة الإجتماعية، يختلف عن موقفه من رقصة الدّبكة، والرقص الفرديّ، وقد تطرق لهذا الموضوع في قصة "سيدة صيدنايا":
" دخل إبراهيم الدير وأخذ يتجوّل في باحاته وأروقته ويتنقل على سطوحه. ثمّ أشرف على أحد السطوح ليراقب ما يجري في الباحة الكبيرة أمامه. فوقعت عينه }إبراهيم{ على حلقة "دبكة" في وسطها، مؤلفة من فتيات قرويات، والجمع يحدّق بها من جميع النواحي حتى صارت حلقة ضمن حلقات.."
اللافت أنّ سعاده بإشارته المقتضبة لحلقة الدبكة، إنّما أراد أنّ يشير إلى الإختلاف الجذري بين الرقص الجماعي المختلط في المراقص المغلقة والكباريهات، وبين الرقص في الأماكن العامة، في الهواء الطلق، وحيث يقتصر فيها الرقص على جنس واحد (الفتيات القرويات). ويسترسل سعاده في وصف إحداهنّ، وقد انفردت برقص فردي مبتكر: " وبينما هو يتمتع }إبراهيم{ بمرأى حلقة الرقص إذ بإحدى الراقصات تنفرد عن رفيقاتها وتدخل وسط الحلقة وتأخذ في رقص فردي مبتكر بينما رفيقاتها يتابعن الدبكة حولها. وكانت الفتاة معتدلة القد، هيفاء القوام، تلعاء الجيد، أسيلة الخدّ، ذلفاء الأنف، حوراء العينين، وطفاء الأهداف. وكانت لابسة حلّة أرجوانية، شادّة وسطها بنطاق مذهّب، معلقة في أذنيها الصغيرتين قرطين كبيرين تتدلى منهما قطع نقود ذهبية صغيرة، لافّة شعرها بمنديل تتعلق به قطع نقود فضيّة ومن فوقه وشاح أبيض مسدل على ظهرها. لم يكن إبراهيم قد رأى من قبل مثل هذه ولا فتاة شبيهة بها، فأعجب بمرآها وأخذ بتأمل قدّها الجميل، وهيأتها اللطيفة، ويراقبها في خطوها وتنقلها وسرعة دورانها، ورشاقتها في إنحنائها وتمايلها، صفات تتجلى فيها قوّة عاطفتها وشدّة إحساسها. وكانت بين حين وآخر ترفع رأسها بشمم واعتزاز، وتلقي على من حولها، ومن حولها نظرات فيها كلّ معاني عدم المبالاة(25) .
*
خــامــســـا: التلوين الصوري
معرض التلوين الصوري
يتحدث سعاده في هذه المقالة عن زيارته لإحدى معارض "التلوين الصوري" لثلاثة من أساتذة هذا الفنّ الوطني، مبديا شكره للمساعي المبذولة لإنشاء رابطة فنية للتلوين، لأن الفنون على أنواعها، ومن ضمنها الأدب، هي عنوان ارتقاء نفسيات الأمم.
"كنت يوم الأحد الماضي في شارع الصالحية فمررت بقرب نادي يقظة المرأة الشامية، وللحال تذكرت أمر معرض الصور الملونة، الذي يقام في النادي المذكور من قبل بعض أساتذة التلوين الفني الوطنيين، الذين قلّما يعرف مجموعنا من أمر المهام اللذيذة الشاقة التي يقومون بها شيئاً راسخً وبعض تلاميذهم وغيرهم من الميالين إلى هذا الفن الجديد في محيطنا.
كان الأحد يوماً مخصصاً للرجال فشكرت محاسن الصدف ودخلت نادي يقظة المرأة الشامية، وإذا بجدران المنزل التي كانت قبلاً عارية جرداء، قد اكتست بدمى تمثل من الفن جماله ورواءه ومن الأنفس ما امتزج منها بتلك الألوان مكسباً إياها الحياة!
يتألف معرض النادي المذكور من ثلاث غرف اقتسمها ثلاثة من مهرة التلوين بيننا وهم الأساتذة فائز العظم وتوفيق طارق وكرشه، وخصص البهو الأوسط بأشغال التلاميذ والهواة، وكانت الغرفة اليمنى من مدخل المنزل مختصة بأشغال الأستاذ العظم والغرفة اليسرى مختصة بأشغال الأستاذ طارق والغرفة الخلفية مختصة بأشغال الأستاذ كرشه. فدخلت الأولى أولاً حيث استقبلني الأستاذ العظم بلطف وعناية هما من مميزات أهل الفن الصحيح، ورافقني في تتبعي القطع التي يحويها معرضه. وجدت في هذه الغرفة، بعض القطع التي تعطي صاحبها شهادة بأهليته للشرف الكبير الذي ناله بقبوله عضواً في الصالون الخريفي بباريس وهو شرف لم يحصل عليه من أهل الشرق سوى واحد أو اثنين آخرين، على ما أعلم. من المؤسف أنّ القطع المعروضة لا تحمل عنواناتها ليتمكن المرء من معرفتها وذكرها بها.
رأيت في معرض الأستاذ العظم بعض الوجوه التي تستلفت هيئاتها الأنظار وبعض الصور القيمة المصنوعة بالسكين، وفي جميعها يظهر ميل الأستاذ الخاص في انتقاء مواضيع صوره وذوقه في مزج ألوانه. إنه أحد تلاميذ المدرسة العصرية الحاذقين.
انتقلتُ إلى معرض الأستاذ كرشه وكان متغيباً فتتبعت معروضاته البديعة، وكان بودّي لو كان حاضراً ليشرح لي بعض صور استرعت انتباهي.
ثم دخلت معرض الأستاذ طارق وكان لطيفاً كالأستاذ العظم. يشتغل الأستاذ طارق في أسلوب مدرسة «الكلاسيك» وفي الأسلوب العصري أيضاً وله في الأسلوبين بعض قطع جديرة بالاهتمام.
لا تقلّ معروضات التلاميذ أهمية عن معروضات الأساتذة وإنْ كانت لا تمثل سوى بداءة الفن، وقد استلفتت نظري، بوجه خاص، بضع صور في الحياة الجامدة أو ما يعبَّر عنه في اللغة الفرنسية (Nature Morte).
قبل أن أترك المعرض أقبل الأمير فريد شهاب، وهو أحد الهواة الذين لم يحرموا المعرض من بعض ما أوجدوه في فرص العمل وبشرني بأن المساعي مبذولة لإنشاء رابطة لتعزيز فن التلوين في مجموعنا. لا أعرف من المساعي ما يستحق الشكر أكثر من المساعي لإنشاء رابطة فنية للتلوين في محيطنا، لأن الفنون على أنواعها، ومن ضمنها الأدب، هي عنوان ارتقاء نفسيات الأمم.
خرجت من المعرض مسروراً من النتيجة الفنية القليلة التي رأيتها فيه. وكان سروري على نوع خاص، بمدلولها على بداءة الحياة الفنية في مجموعنا. ولا يسعني في الختام إلا تهنئة الأساتذة والتلاميذ بنتيجة جهودهم التي لا أراها ذاهبة عبثاً"(26).
في قصة "فاجعة حبّ"، وأثناء زيارته إحدى المعارض أبدى سعاده شغفه بالصور الملوّنة وإعجابه بالبعض منهاّ: "وكنت مشغوفاً بالصّور الملوّنة: "حتى إنّي كنت أقف وقتا طويلا أمام الصورة الواحدة الهامة، مطيلاً النظر إليها، كأنّي أحاول طبع ما فيها من دلائل الحياة، وعظّة الفنّ، في ذهني، بحيث لا تعود تبرحه.. أعجبتني ثلاث صور كثيراً: الأولى رأس قروي، والثانية بريّة جبلية، والثالثة منظر وردة على نور الشمعة "(27)
تعليقاً على هذا المقطع يكتب الأديب ربيعة أبي فاضل: " في هذا المقطع براهين على محبّة سعاده للفنّ، وبخاصة فنّ التصوير، وعلى تأملاته الطويلة في اللوحة، وعلى رؤيته الحياة والفنّ وحدة متراصة متماسكة لا تنفصل. وثمّة ذوّق يتعشّق الطبيعة، في عناصرها البريئة. فالإعجاب الكثير برأس قرويّ، أو ببرّية في الجبال، أو بمنظر وردة، في ظلّ نور ضئيل لشمعة صامتة، إن دلّ على شيء، فإنّما على الطبيعة الفطرية النقيّة، البريئة في ذوق كاتب القصة. فهو على ثقافته الغنية، البعيدة الأفق، حريص على جذوره وتراثه، وعلى أن يجسّد الفنّ، تلك الجذور في حقيقتها وإيحاءاتها(28) .
هذا مع الإشارة إلى أنّ سعاده لحظ بحدسه الناقدي النافذ، أهمية التدرّج من الصور الجزئية البسيطة إلى رموز وأساطير قادرة على إبراز الفكر والشعور كما أعجب بتصورات بيتهوفن في الموسيقى، وبما أبدعه روائيو الشاهقات الموسيقية والشعرية في صور كليّة موحية، من أمثال واغنر وشفيق المعلوف(29) .
ومن روائع الفن التصويري، التي اعتبرها سعاده "أثمن ما يملكه" لوحة العرزال التي رسمها الفنان الكبير الرفيق مصطفى فروخ، ومن بعده الفنان صليبا الدويهي(30).
لقد أولى سعاده رسم شعارات الحزب وشاراته وأختامه عناية خاصة؛ فهو قد باشر بوضع شارات الحركة القومية الإجتماعية ورموزها في فترة العمل السريّ للحزب (1932-1935)، فقد طلب من بعض مهندسي الحزب وفنانيه وضع رسم يكون شعارا للحزب وتمثيلا للزوبعة (نشرة عمدة الإذاعة، ع4، تاريخ 15-8-1947،ص7)، وقد بدت واضحة بصمات سعاده في رسم هذا الشعار.(راجع جهاد العقل، أضواء ورموز، ص 75- 128). كما في "شعار الزعامة" الذي رسمه الرفيق الفنان مصطفى فروخ (راجع المرجع السابق، ص48-54). كذلك في باقي رموز الحزب وبالأخص شارات المليشيا- الجيش القومي الإجتماعي (راجع المرجع السابق ص 298-315) .
*
ســادســا: المسرح والتمثيل
سئل سعاده من قبل أحد هواة فن التمثيل عن كيفية ترقية تمثيل الروايات في سورية؟ .
أجاب: "إنّ الأمر مرتبط بترقية حياة الشعب السوري نفسه. فإنّ تمثيل أدوار الحبّ والشهامة والبطولة بألوان راقية، يحتاج إلى شعور الممثّل بهذه الصفات شعورا راقيا. والذين لم يتعوّدوا من الحبّ غير اتجاهاته الفيزيائية، لا يمكنهم أن يمثّلوا حالاته النفسية السّاميّة"(31).
وعلى ذلك أورد سعاده المثالين الآتيين:
الأول: "لقد شاهدت مرّة أحد هواة التمثيل في دمشق، وهو شاب متنوّر، يحاول تمثيل دور التعارف مع فتاة ينتظر أن يقع حبّه في قلبها، ويقع حبّها في قلبه، فجاء الدور بعيداً جداً عن إعطاء النتيجة المرغوبة على مستوى راق من الشعور والتصرف.
الثاني: " وواحد آخر كان من نصيبه أن يمثّل دور الوالد الذي نأت به الأقدار عن ابنته، وحسب في عداد الأموات، ثمّ عاد سالماً موفقاً ليضمّ إبنته إليه. فلما جاء حين المقابلة مع ابنته وظهرت الفتاة التي تمثّل دور الإبنة حبطت جميع المحاولات لجعل ذراعي الوالد تمتدان بلهفة وتضمان الفتاة برفق وحنان. كانت الأنوثة أقوى تأثيراً على الرجل من مشهد الأبوة والبنوة الذي يشترك في تمثيله. ولو كان الرجل نشأ غير نشأته لكان أقرب إلى إجادة تمثيل دوره"(32)
*
مقارنة بين الأديب والشاعر والفنان (وخصوصا الممثل)
• الأديب والشاعر والممثل هم أبناء بيئاتهم ويتأثرون بها، تأثرا كبيرا، ويتأثرون كثيرا بالحالة الراهنة الإجتماعية – الإقتصادية – الروحية .
• الفنان المبدع والفيلسوف هما اللذان لهما القدرة على الإنفلات من الزمان والمكان وتخطيط حياة جديدة ورسم مثل عليا بديعة لأمة بأسرها. ولا يقدر على ذلك الأديب الذي وقف عند حدّ الأدب والصور الجزئية التي تشتمل عليها صناعته. والشاعر الذي هو "مرآة الجماعات" أو "مرآة عصره" لا يقدر أن ينهض بالشعر أو بالأدب، لأنّ هذا النهوض يعني ضمناً: النهوض بالحياة وبالنظر إلى الحياة. والشاعر الذي شأنه عكس حالة جماعته أو عصره كالمرآة ليس بالمرء الذي ينتظر منه إيجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره.
• هذا (الذي ينتظر منه إيجاد حالة جديدة لشعبه أو لعصره) شأن المعلم، الفيلسوف، الفنان، القائد، الذي يقدر أن يخطط تاريخاً جديداً لأمته ويضع قواعد عصر جديد لشعبه. وله أن يكون أديباً شاعراً إذا شاء وليس عليه أن يكون معلماً فيلسوفاً فنانا إذا قدر وليس عليه أن يكون ذلك(33).
*
ســابــعــاً: النحت
إهتم سعاده بالنحت كاهتمامه بسائر الفنون الجميلة الأخرى، يذكر الرفيق جورج عبد المسيح، أنّ النحات يوسف الحويك كان يلحّ على سعاده أن يكرّر زياراته لمحترفه لمتابعة البحث الممتع في فنّ النّحت، يقول عبد المسيح "الحويك كان رائداً من روّاد الفنّ، في فترة إنطلاقة النّهضة. وفي محترفه كنّا نقضي ساعات نستمع إلى نقاش في فنّ النّحت التعبيري، وفي ما عبّر عنه فنّانون سوريّون تملأ أثارهم المتاحف الكبرى في العالم، في روما حيث درس الفنان الحويك، وفي باريس ولندن واستنبول، حيث تمتّع بما فيها من أثارنا التي تدلّ علينا. كان الفنّان الرّائد يوسف الحويك يلحّ على "الأستاذ سعاده" بالعودة إليه، في محترفه لمتابعة البحث الممتع(34).
ويذكر أنّ إحدى الصحف اللبنانية حملت على يوسف الحويك لعلاقته بالحزب السوري القومي الإجتماعي، إلا أنّه ظلّ معتصما بسكوته وعزلته، على حدّ ما ذكره الفيلسوف أمين الريحاني في رسائله(35).
*
ثــامـنـاً: الأدب والشعر
استكمالاً لهذه الدراسة "سعاده والفنون الجميلة"، نلقي الضؤ على أبرز ما كتبه سعاده في موضوعي الأدب والشعر، على أن لا يعتبر ذلك دراسة شاملة في هذين الموضوعين، أو منفصلين عن نظرته الشاملة إلى الحياة والكون والفن. مع الملاحظة أنّه من السهولة الإحاطة بما كتبه سعاده، في هذا الموضوع، من خلال مؤلفاته الآتية: " فاجعة حبّ وسيدة صيدنايا"، و"الصراع الفكري في الأدب السوري"، و"جنون الخلود"، و"الإسلام في رسالتيه المسيحية والمحمدية". فهذه المجموعات تؤلف مع بعض المقالات الموزعة في "الأعمال الكاملة" حقلاً خصباً للدراسات الأدبية النقدية، التي تتمحور حول عالم سعاده الأدبي.
*
مقدمة
" القاعدة الذهبية التي لا يصلح غيرها للنهوض بالحياة والأدب، هي هذه القاعدة: طلب الحقيقة الأساسية الكبرى لحياة أجود في عالم أجمل وقيم أعلى ..."(36).
يقول سعاده:
"متى أخذ الأدباء السوريون الموهوبون، المدركون، سمو النظرة السورية القومية الإجتماعية إلى الحياة والكون والفن، يطلعون على هذه الكنوز الروحية الثمينة (راجع الصفحات السابقة من هذه المقالة) إزدادوا يقينا بحقيقة نظرتهم وعظمة أسبابها، وبقوة الموحيات الفلسفية والفنية الأصلية في طبيعة أمتهم، التي يؤهلهم فهمها لإنشاء أدب فخم، جميل وخالد. في مثل هذا الأدب، الخارج من صميم حياتنا السورية، المؤسس على النظرة الجديدة الأصلية إلى الحياة والكون والفنّ، نجدّ التجديد النفسي والأدبي والفني الذي نشتاق ونحنّ إليه بكل جوارحنا. إلى مقام الألهة السورية يجب على الأدباء الواعين أن يحجوا ويسيحوا فيعودوا من سياحاتهم، حاملين إلينا أدباً يجعلنا نكتشف حقيقتنا النفسية ضمن قضايا الحياة الكبرى التي تناولها تفكيرنا من قبل في أساطيرنا، التي لها منزلة في الفكر والشعور الإنسانيين، تسمو على كلّ ما عُرف ويُعرف من قضايا الفكر والشعور"(37) .
من نداء سعاده إلى أدباء سورية وشعرائها:
" تعالوا نرفع لهذه الأمة التي تتخبّط في الظلمات مشعالا فيه نور حقيقتنا وأمل إرادتنا وصحّة حياتنا.
تعالوا نشيّد لأمتنا قصوراً من الحبّ والحكمة والجمال والأمل بمواد تاريخ أمتنا السورية ومواهبها وفلسفات أساطيرها وتعاليمها المتناولة قضايا الحياة الإنسانية الكبرى .
تعالوا نأخذ بنظرة إلى الحياة والكون والفنّ نقدر، على ضوئها، أن نبعث حقيقتنا الجميلة العظيمة من مرقدها ...
تعالوا نأخذ بنظرة جديدة إلى الحياة والكون والفنّ، وبفهم جديد للوجود وقضاياه، نجدّ فيه حقيقة نفسيتنا ومطامحنا ومثلنا العليا.
تعالوا إلى الحريّة والنظام والقوة، ليس لانّها شعار حزب سياسي إجتماعي، بل لأنّه رمزّ فكرنا وشعورنا في الحياة، ولذلك صارت شعار حركة البعث القومي التي وضعنا فيها كلّ رجائنا وكلّ قوتنا وكلّ إرادتنا .
تعالوا نقيم أدباً صحيحاً له أصول حقيقة في نفوسنا وتاريخنا.
تعالوا نفهم أنفسنا وتاريخنا على ضؤ نظرتنا الأصلية إلى الحياة والكون والفنّ. بهذه الطريقة نوجد أدباً حيّاً جديراً بتقدير العالم وبالخلود"(38)
أمّاعن علاقة اللغة بالأدب، فتوضحه المفاهيم الآتية:
* "اللغة عنصر حيويّ من عناصر الأمة لكونها "تسهّل الحياة الواحدة وتؤمن انتشار روحية واحدة تجمع آدابها، وفنونها وعواملها النفسية ومثلها العليا"
* "إنّ وحدة اللغة لا تُقرّر الأمة ولكنّها ضرورية لتماسك هذه الأمة، ومن الأغلاط تحديد الأمة باللغة ".
*"إنّ أهمّ ما في اللغة للأمة الأدب المعبّر عن روحيتها ".
*"ضرورة تطويع أي لغة وتثميرها لتكون في خدمة احتياجات الأمة، ومثلها العليا، شأن ما فعل السوريون، حين نقلوا الطبّ من السريانية واليونانية إلى العربية.."(39) .
ختاماً: لم تكن فلسفة سعاده الشاملة للحياة والكون والفنّ رسالة مغلقة بل منفتحة، مؤسسة لنهضة ثقافية شاملة، وإلى ذلك نبّه سعاده المقبلين على الدعوة والرأي العام إلى ثلاثة أمور جوهرية؛
الأمر الأول: إنّ فلسفة سعاده تتكشّف عن قضايا ومفاهيم جديدة سامية. وهي تحتاج إلى دراسات عديدة. إنّها تفتح إمكانيات إنتاج فكري جديد، يخطو بالمجتمع خطوة خطيرة نحو ذروة القوّة وغلبة الموت(40).
الأمر الثاني: إنّي لا أرغب في محوّ التنوّع الفكري من حركتنا، بل أرغب في المحافظة عليه وتنميته، لأنّي أرى أنّه لازم لفلاحنا(41).
الأمر الثالث: إنّ من يدخل المنظمة القومية الإجتماعية، يدخل ليذيب شخصيته في شخصيتها(42) .
إذا سعاده شجّع على التنوّع الفكري الملتزم وتنميته بين صفوف القوميين الإجتماعيين، ودعا إلى الإنتاج الفكري الذي رأى فيه قوّة المجتمع وانتصار الأمة. بناء عليه سارع القوميون الإجتماعيون إلى رفد المكتبة القومية الإجتماعية بسلسلة من المؤلفات والدراسات والمقالات...، وشرّعوا صفحات الصحف القومية الإجتماعية أمام الراغبين من المفكرين بنشر إنتاجهم الفكري المنوّع بين الفلسفة والعلوم والفنون، فأحدثت بذلك النهضة القومية الإجتماعية ثورة ثقافية إبداعية، تمظهرت في عدد الكتّاب القوميين الإجتماعيين الذي فاق حوالي 1200 مؤلفاً، إضافة إلى مئات المقالات والمحاضرات، والأعمال الفنية في مختلف مجالات الفنون الجميلة .
سأحاول في هذه الدراسة الإضاءة على بعض المؤلفات والمقالات الخاصة بالفنون الجميلة، التي نتجت عن فعل النهضة القومية الإجتماعية في النفوس الراغبة بالإرتقاء نحو المثل العليا للحياة الجديدة التي شقّها سعاده نحو قمم المجد والخلود لأمته والبشرية جمعاء.
في الموسيقى، يستوقنا كتاب الرفيق حسني حدّاد "في الموسيقى السورية"، الذي ظهر للمرّة الأولى على صفحات جريدة "الجيل الجديدة" الدمشقية في العام 1952، وصدرت طبعته الأولى في نفس العام، وأعادت "مؤسسة سعاده الثقافية" طباعته في العام 2009 في بيروت .
وعن سلسلة "الدراسات الثقافية"، التي أصدرها "الحزب القومي" صدر في العام (1944-1946)، كتاب "الموسيقى" تأليف الرفيق رجا خولي(43) صحافة، ج3 ،ص245 وما بعدها .
ومن أبرز المقالات التي نّشرت في منشورات الحزب الثقافية وعالجت الفنون الجميلة، وشهدت للفنانين الكبار من أبناء النهضة :
- تاريخنا الفنيّ إحدى دعائم النهضة، بقلم الرفيق الفنان مصطفى فروخ(44) .
فــي مــجلــة "فــكــر"(45):
في سياق التعرّف على اهتمام المنشورات القومية الإجتماعية بالشأن الثقافي، سأختار مجلة "فكر"، التي عملت على أرشفة أعدادها المئة، ونشرتها في كتابي "صحافة الحركة القومية الإجتماعية" الجزء الخامس .
ومن "فكر" سأستخرج بعض المقالات التي تعنى بالفنون الجميلة على أنواعها، باستثناء ما اختص بالأدب، نثراً وشعراً، لأنّ ذلك يحتاج إلى دراسة خاصة .
- جميل ملاعب: "الكاريكاتور فنّ يجب أن يكون عليه الناس". العدد8، ص92.
- "التشكيل كالموسيقى لغة عالمية"، ع. 72، ص.95
- بول شاوول: شهادة في تكريم الفنان الراحل ميشال نبعه، ع 73 .
- هاشم قاسم: "حوار مع الفنان وليد غلمية"، ع13-14. "حوار مع الفنان عارف الريس"، ع 19و20. "النصّ الأول في تاريخ المسرح العربي"،ع 27و28 .
- محمد علي الخطيب: "الأسطورة" -مسرح، ع17-18. "الردّة"-مسرحية، ع88 .
- كمال ديب: "حوار مع الفنان مرسال خليفة"، ع 21-22 .
- أدمير كورية: "البطل البريء في أربع مسرحيات لجورج شحادة"، ترجمة ع25-26 .
- فاروق المالكي: "العمارة العسكرية في في غربي الهلال السوري الخصيب"، ع 29-30 .
- رجا خولي: "الموسيقى، نظرة في أساليب تفهمها ونقدها"، ع 29-30.
- مفيد عرنوق: "ألحان الوجود" (غبريالا مبسترال)، ترجمة،ع 37-38 . "العمارة السورية المقدسة، الزيقورات وبرج بابل"، ع62-63
- رياض عصمت: "البطل في المسرح السوري الحديث"، دراسة، ع47-48 .
- مروان مسلماني: "معرض الفنان مروان مسلماني" ع 49-50 .
- سليم سعد: "تاريخ العلاقات الموسيقية بين العرب والأرمن"، ع 65
- الطاهر الشريعة: "خواطر في أزمة السينما العربية"، ع 67 .
- فؤاد شوّاف: "خواطر في أزمة السينما العربية"، ع 67 .
- أكتم عبد الحميد: "ملف عشتار: معرض تشرين التشكيلي السنوي الأول"، ع68 .
- عبدالله السيد: "الأعراق الجمالية في التصوير الحديث في سورية"، ع 68
- نزار سلّوم: "تكريم الفنان سعيد مخلوف"، ع72 .3
- حيدر يازجي: "في تكريم سعيد مخلوف"، ع83 .
- سعيد مخلوف: "دمشق كرّمت شيخ الفنانيين سعيد مخلوف"، ع83 .
- أميرة المولى: "قصائد"، الرسمان للفنان شوقي دلال،ع 72 .
- عارف الريس: "الصورة الفوتوغرافية أصدق تعبير"،ع 73 .
- محمد ماضي، جورج جاويش، أنطوان كرباج، رضى كبريت، طاهر مصطفى: "شهادات في الفنان ميشال نبعه"، ع 87 .
- نضال الأشقر: "لم تهادن...وها حزبك لا يهادن"، شهادة في الفنان ميشال نبعه"،ع 87 .
- نداء أبو مراد: "رأي في الموسيقى" ع 73 .
- جمال أبو الحسن: "رأي في الموسيقى"، ع73 .
- هيثم حقي: "الدراما التلفزيونية السورية – صناعة ومشاكل"، ع 73
- نور سلمان: "الأغنية العربية المعاصرة بين الأصالة والحداثة"، ع 73 .
- موسى مرعب: "اليهود يديرون السينما في العالم"، ع74 .
- باسم فيّاض: "سينما: أفلام إيرانية مدهشة واستثنائية"، ع 74 .
- مهى موسى: "منمنمات تاريخية لنضال الأشقر"، مسرح، ع 75-76
- فيصل عبد الساتر: "مظفر النواب في الأونيسكو"، ع 642 .
- محمود غزالة: "توفيق الباشا، بدايات وتأثير الفنّ السوري"، ع90 .
- زينات بيطار: "الإستشراق في الفنّ الأوروبي"، ع 63 .
- يوسف رقه: "إنقاذ المسرح بالحرية"،ع81 .
- شوقي دلال: "غلاف ولوحات العدد للفنان شوقي دلال"، ع94 .
- أبوخليل: "الطابع القومي لفنونا المعاصرة"، ع17.
- جورج نصر: "من أجل صناعة سينمائية ناجحة"،ع26 .
- روجيه عساف: "المسرح إمكانا"، ع26 .
- زكي ناصيف: "الموسيقى لغة عالمية لا تحتاج إلى ترجمان"،ع 27 .
- مفيد عرنوق: "العمارة السورية المقدسة برج بابل والزيكورات"، ع16 .
- "مظهر برشين سيرة في تاريخ الفنّ السوري المعاصر" ، ع 25 (ربيع 1996) .
ختاماً لهذه الدراسة، التي هي محاولة مبدئية، للإضاءة على مدى اهتمام سعاده بالفنون الجميلة، سأضع لائحة بأبرز أسماء الفنانيين خريجي المدرسة القومية الإجتماعية (ملاحظة، هذه اللائحة هي أولية وتحتاج الى دراسة خاصة):
من أبرز الفنانين:
o أديب حدّاد (أبو ملحم)، الأديب والشاعر والممثل القومي الإجتماعي. ومن شعره القومي قصيدة "دمّ الشهيد":
كلّ نقطة دمّ يهدرها شهيد في سما الأوطان نجمة مشعشعة
كلّ نقطة دمّ يهدرها شهيد
نغمة حماسية لكسب الموقعة
كلّ نقطة دمّ يهدرها شهيد
بسمة أمل في وجه أمّة مضعضعة
كلّ نقطة دمّ يهدرها شهيد قطبة تحرّر في نسيج الزوبعة
كلّ نقطة دمّ يهدرها شهيد
قلعة جديدة للرموز الأربعة .
o زكي ناصيف الذي لحّن نشيد الحزب السوري القومي الإجتماعي.
o يوسف تاج، فدوى قربان، نضال الأشقر، جمال ناصيف المنذر، سهام بشير جمال، سعيد مخلوف، نظام سعيد مخلوف، غبرائيل ابراهيم، نزار كمال الدين، مهيار فايز خضور، مازن الطرابيشي، الرسامة رويدا، الرسامة بالرصاص سالي، يوسف حدّاد، محمد شامل، حسن علاء الدين (شوشو)، ماجد أفيوني، محمد شامل، البرفسوار في الموسيقى سليم سعد، الموسيقار وليد غلمية، رضا كبريت، جورج أوريان، حليم الرومي، بيار جامجيان، دريد لحام، امل عرفه، رفيق السبيعي، نسيب مكارم، حليم عبد الملك، شوقي دلال، مصطفى فروخ، يوسف الحويك، نبيه أبو الحسن، توفيق الباشا، نديم محسن، ميشال نبعه، جميل ملاعب، أسامه حبيب، مصطفى حيدر، رمزي عبد الخالق، بهيج عنداري، أمين الباشا، حليم جرداق، مخول قاصوف، عصام خيرالله، جوليا وزياد بطرس، بسام حلاوي (كبوجي)، مرسال نصر، غازي شاذبك ونصير أبو أنطون الذي نحت تمثال المقاومة الوطنية، محمد البكار، محمد صعيدي ... وغيرهم .
علّق سعاده على نجاح الرفيقين محمد صعيدي في الموسيقى، ومحمد البكار في الغناء، بقوله: " لو وُضع تحت تصرفي مليون ليرة لشيّدت أفخم بناء للأوبرا، ليس في بلادنا، فقط، بل في الشرق العربي قاطبة". وهذا يدلّ بوضوح على مدى إهتمام سعاده بالفن وترقيته .
أضف إلى ذلك أسماء المؤرخين والعلماء والفلاسفة والأدباء والشعراء والصحفيين والمخرجين، والكتّاب القوميين الإجتماعيين، الذين بلغ تعدادهم حوالي 1200 إسما حتى تموز عام 2021، ومعظمهم من ناشري الكتب. (راجع، الجزء الثاني، المشهد العاشر: مسودة دليل المكتبة القومية الإجتماعية).
هذا، إضافة، إلى الثورة الفنية التي أحدثتها النهضة القومية الإجتماعية، وظهرت معالمها في تأسيس الفرق الفنية على أنواعها، في الوطن وعبر الحدود،وفي إنتاج كبار الفنانين وأعمالهم المعبّرة عن نظرة سعاده إلى الحياة والكون والفن.
الـــهـــوامـــش
1- سعاده: "نظرة سعاده إلى الإنسان"، المحاضرات العشر، ط 3 ص 142
2- سعاده: نشؤ الأمم، ط1951، ص177 .
3- سعاده: الصراع الفكري في الأدب السوري، ط3، 41 .
4- موسوعة وكيبيديا .
5- سعاده: المحاضرات العشر، المحاضرة 9 ط 3،1956،ص126"نحن بنظرنا سلبيون في الحياة، أي أنّنا لا نقبل بكلّ أمر مفعول يفرض، وبكلّ حالة تقرّر لنا من الخارج "
6- سعادة: الأعمال الكاملة، م 8، 415 .
7- سعاده: راجع نشيد الحزب .
8- سعاده: الأعمال الكاملة، م 6، ص335 .
9- سعاده: المحاضرات العشر، راجع المحاضرة الأولى .
10- سعاده : المرجع نفسه .
11- لوحة سومارية بالأحرف المسمارية في وصف الموسيقى موجودة على ختم اسطواني يعود إلى حوالي 2400 ق. م،
وجد في بقايا مدينة لاقش في عهد ملكها العظيم قوديا .
12- مخايل نعيمه: من مقدمته لمجموعة جبران خليل جبران .
13- سعاده : راجع قصة فاجعة حبّ .
14- سعاده : جريدة النهضة، العدد101، تاريخ 22 شباط 1938 .
15- سعاده : الأعمال الكاملة، م6، ص333 .
16- سعاده :مجلة "المجلة"، العدد4، تاريخ 1/6/1933 .
17- سعاده : الأعمال الكاملة، م6، ص334 .
18- راجع، ما يتبع .
19- راجع، ما يتبع .
20- سعاده : جريدة :الزوبعة"، ع51، تاريخ 1/9/1942 .
21- سعاده : الأعمال الكاملة، م 6، ص 230 .
22- سعاده : جريدة الزوبعة، ع 54، تاريخ 15/10 /1942 .
23- سعاده : الأعمال الكاملة ، م1، ص129 .
24- سعاده : راجع قصة سيدة صيدنايا .
25- المرجع نفسه .
26- سعاده : الأعمال الكاملة،ج1، ص250 .
27- سعاده : راجع قصة فاجعة حبّ .
28- ربيعة أبي فاضل: أنطون سعاده الناقد والأديب المهجري، ص94 .
29- المرجع نفسه .
30- جهاد العقل: الحركة القومية الإجتماعية أضواء ورموز ، ص181 .
31- سعاده: الصراع الفكري في الأدب السوري ، ص40و41 .
32- المرجع نفسه .
33- المرجع نفسه .
34- جورج عبد المسيح : رسالة من رسالة، ص104 .
35- أمين الريحاني : رسائل أمين الريحاني ، ط2، 1991، ص702 .
36- سعاده: الصراع الفكري في الأدب السوري، ص95 .
37- سعاده: المرجع السابق، ص86 .
38- سعاده: ن . م. ص 87-88 .
39- سعاده: نشؤ الأمم، ط 1994، ص 209-212 .
40- سعاده: المحاضرات العشر، ط1956، ص142-146 ."نظرة سعاده إلى الإنسان ".
41- سعاده : من رسالته إلى فخري المعلوف، تاريخ 4-3-1945 .
42- سعاده : الكتاب القومي، رسالة غير منشورة للزعيم عام 1941 ،العدد 8، تاريخ شباط 2019 ، ص7 . راجع مقدمة
كتاب "نشؤالأمم: "الوجدان القومي"، والفصل السابع: ألإثم الكنعاني ".
43- جهاد العقل: موسوعة صحافة الحركة القومية الإجتماعية، الجزء الرابع ، ص245 وما بعدها .
44- مصطفى فروخ : المرجع السابق ، ص 387 .
45- مجلة "فكر": مجلة فكرية علمية ثقافية. أسبوعية، ثمّ شهرية، ففصلية . صدر العدد الأول في شهر أيلول 1975
راجع جهاد العقل: موسوعة صحافة الحركة القومية الإجتماعية، الجزء الخامس ص 543-684 .
|