إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الرفيق الشهيد محمد إبراهيم الشلبي

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2022-09-09

إقرأ ايضاً


كان الرفيق محمد إبراهيم الشلبي أرفع الرفقاء الستة مسؤولية، وأقدمية في الانتماء وفي النضال. فهو انتمى عام 1942 وتولى مسؤوليات مدير مديرية الزعيم في منفذية حيفا، ناظر تدريب المنفذية فناموساً لها.

برز الرفيق الشلبي في عمليات المقاومة ضد الصهاينة والبريطانيين عام 1948، وقد أورد الأمين كميل جدع، وكان يتولى مسؤولية منفذ عام حيفا، مثلين مميّزين عن تلك الأعمال الباهرة، فيقول:

" في حيفا سوق للخضار يعرف "بالحسبة"، على ثلاث دفعات زرع الصهاينة في ذلك السوق ألغاماً متفجرة ذهب ضحيتها في كل مرة عدد كبير من المواطنين وفي المرة الرابعة فجروا لغماً قرب بناية "سلام". جميع المحاولات التي بذلها المواطنون للرد على هذه الاعتداءات باءت بالفشل. في أحد الأيام كنا على موعد لاجتماع هيئة المنفذية، وفي الاجتماع عرض الشهيد محمد شلبي، وكان ناظراً للتدريب، الأوضاع في حيفا متألماً للعجز الذي ظهر بعدم الرد على جرائم الصهاينة، فتقرر أن يرد الحزب، وفي تلك الجلسة تبرع المجتمعون بما كانوا يحملونه في جيوبهم من مال. ولما كان الشهيد الشلبي يعمل ناظراً في محطة القطارات في حيفا، فقد توجه إلى دمشق حيث استحصل على كمية من مادة متفجرة وبهذه الكمية جهّز الرفيق فايز الزبن(1) متفجرة موقوتة (أسطوانة غاز) أوصلناها إلى حيث تجمع شاحنات الركاب في "المركز الجديد" بعيد الساعة الرابعة، وهو الوقت الذي يستقل فيه الصهاينة السيارات للصعود إلى منطقة الكرمل عند انتهاء عملهم اليومي، يومها أذاع راديو القدس أن ضحايا المتفجرة بلغ 62 قتيلاً .

تفجير المطحنة

قبل سقوط حيفا كنا قد أعددنا لضربة ثانية، إذ أتاني الرفيق شلبي وقال إن عدد ضحايا القناصة المتمركزين في "مطاحن فلسطين الكبرى" قد بلغ 21 شهيداً من المواطنين، وأن معظم أعضاء مديرية الزعيم التي كان الشهيد الشلبي يتولاها يعملون في محطة السكة الحديدية معه، وأن الوضع يحتم اتخاذ إجراء ما. وفعلاً تداعينا لتأمين كمية أخرى من المتفجرات بلغت 83 كيلو وضعت في صهريج للمحروقات في محطة السكة الحديدية. وكانت المحطة تستورد كل أسبوع لإدارة أجهزتها ثلاثة صهاريج من المازوت صباح كل يوم إثنين، فوضعنا الصهريج الملغوم والمؤقت الانفجار بين صهريجين آخريين وأدخلناهما إلى بناء المطحنة التي من وراء سطحها المصنوع كالقلاع القديمة كان القناصون الصهاينة يعتدون على المواطنين. ولم نعلم عن نتيجة هذه العملية إذ سقطت حيفا في اليوم التالي بأيدي الأعداء الصهاينة، إلا أن الشهيد الشلبي أكد لي عندما قابلته في بيروت بعد حين أن العملية كانت ناجحة ".

*

بعد النكبة عام 1948 انتقل الرفيق محمد الشلبي إلى دمشق حيث عمل مراسلاً لجريدة "الجيل الجديد" التي كان الحزب يصدرها في بيروت، بعد أن كان تقدم بطلب للعمل كمذيع في الإذاعة الشامية، إنما اشترطوا عليه إعلان انسحابه من الحزب، فرفض.

عندما أعلنت الثورة القومية الاجتماعية كان الرفيق محمد الشلبي من بين الرفقاء الذين التحقوا بالفرقة التي قادها الرفيق الصدر عساف كرم في سهل مشغرة وبعد استشهاد الرفيق عساف تمكن الرفيقان محمد الشلبي ومحمد الزعبي من الإفلات من الطوق المضروب من قوى الجيش اللبناني والوصول إلى بلدة قليا والالتجاء إلى مختارها (سالم الحاج) إلا أنه انتدب من أعلم السلطات اللبنانية، فتم القبض على الرفيقين.

*

مقتطفات من "يوميات" كان يسجلها الرفيق محمد الشلبي ننشرها لتبيان الإيمان الذي كان يغمر قلبه، والروح المتوثبة التي تسيّر أعماله:

12 شباط 1948

لا يخلص الأمة من وضعها الشاذ وضياع الجزء تلو الآخر من أراضيها سوى التخلص من الرجعية وأساليبها ونفوذها وبذلك فقط يكون إنقاذ الأمة، والوصول إلى نقطة الانطلاق لهذه الأمة العريقة، واحتلالها مكانها اللائق بها بين الأمم الراقية، معززة محترمة.

الأمة السورية، الوطن السوري.. ما أعظمهما تدور حولهما آمال ألوف الشباب، آمال الجيل الجديد.

النهضة السورية القومية الاجتماعية، سبيل الخلاص الوحيد من المتاعب الفردية وكل المفاسد الاجتماعية.

النهضة السورية الاجتماعية، شعاع منير هاد تسير على نوره الأبعاد والمسافات وكلما مرت الأيام على مواكب الجيل الجديد، تقترب من الشعاع فيبدو اكثر وضوحاً واقرب منالاً، وستصل قوافل المجد إلى هدفها رغم العقبات والمصاعب التي تعرقل سيرها .

لأتقدم معها.. مواصلاً السير برفقتها..

فقد رافقتها منذ بداية الطريق.. ومن واجبي الاستمرار في التقدم.. إلى الهدف.. إلى الشعاع.. إلى النور..

*

2 نيسان 1948

تعرفت على رفقاء وانسجمت وإياهم، وقد خفف تعرفي بهم صدمة فشلي بالحصول على عمل ثقافة، روحية قوية، إيمان متين وإخلاص متناهي. إن أمة فيها مثل هذه النفوس حري بها أن تتبوأ مركزها اللائق بين الأمم...

كم يسعدني ويملأ نفسي حبوراً مرأى الشباب القومي الاجتماعي يتزايد، والمبادئ القومية الاجتماعية تنفذ إلى قلوب كانت يحجبها عن الحقيقة تعصب وجهل وأوهام.

إنني أهتز فخراً، لأن جهود المنقذ المصلح قد أثمرت، وأصبحت القضية التي ضحينا ونضحي لنصرتها، أصبحت معروفة لدى الرأي العام، الذي يرافق سيرها بإعجاب وتقدير... وسيأتي يوم – مهما قرب أو بعد – سيشع فيه نور القومية الاجتماعية ليسير على هديه المؤمنون، ويعمي الرجعيون والانتهازيون والأنانيون من قوة الإشعاع.

هذه هي مشيئتنا وستكون مشيئة القدر .

*

27 تشرين أول 1948

استلمت رسالة من مفتشية جيش الإنقاذ مفادها أني لم أقبل في دورة الضباط الفلسطينيين لأني بلغت الثانية والثلاثين من العمر، بينما السن المطلوبة هي الخامسة والعشرين. وددت أن أخدم بلادي وشعبي، ولكنهم يحولون دون ذلك... إني أشعر في قرارة نفسي على أني أصلح لأكون ضابطاً، وبإمكاني تقديم كل مساعدة قيمة في إنقاذ بلادي... ويشهد على ذلك ما قمت به من أعمال النسف في حيفا. أنهم يعرفونني جيداً ويعرفون إمكانياتي، ولكنهم يتمسكون بشكليات سطحية... كأن إنقاذ فلسطين يحتاج لهذه الشكليات... ولا يتم الإنقاذ إلا بها... سحقاً لهم.. إنهم لم يستفيدوا شيئاً من الكارثة، ولا تزال الطريق الاعتباطية عينها التي أضاعت فلسطين، والمسائل الشخصية مستولية على كل تفكيرهم.

*

30 تشرين الثاني 1948

غداً سأذهب إلى بيروت، لأتشرف بمقابلة الزعيم.. يا الله كم أنا بشوق لرؤياه. لا شك أن اجتماعي به سيخفف الكثير من آلامي.. أذكر في المقابلة الأخيرة، كيف ربت على كتفي وحدجني بنظرة فيها الكثير من التأنيب واللـوم لأنه لمس بعض اليـأس في حديثي معه.. ثم ابتسم تلك الابتسامة المحببة وقـال عبارته الخالدة "ليس عاراً أن ننكب ولكنه عار أن تحولنا النكبات من أشخاص أقوياء إلى أشخاص جبناء" ثم مضى في حديث طلي عذب فيه الاتزان والقوة وعمق التفكير والحق كله، عن كارثة فلسطين ومقدماتها وأسبابها.. واذكر كيف أن محترفي السياسة في سورية عالجوا القضية على أسس واهية. وكيف حالوا بين الحركة القومية الاجتماعية وبين أن تقوم بما تراه نافعاً ومفيداً. وتركت الزعيم يومئذ وفي قلبي إيمان بالنصر لا يتزعزع، أليست قضية الأمة موجودة ؟ ونحن نعرفها. نعرف ما نريد ونعمل لما نريد؟ ألم تتوضح لنا جميع القضايا والأمور؟ أليس زعيم نهضة الأمة موجود على رأسها يقودها لما فيه الفلاح والخير.

فكرة جميلة طرأت عليّ الآن وسأطرحها على حضرة الزعيم غداً. إن في دمشق عدداً من الرفقاء الجنوبيين لم ينضموا لمنفذية دمشق العامة بعد، فلماذا لا أحصل على تفويض من مركز الحزب بجمع شمل هؤلاء الرفقاء وتنظيمهم في مديريات تقوم بقسطها من الواجب الملقى على عاتق كل قومي اجتماعي أقسم على تحقيق إرادة الأمة بالحياة؟ هذا ما سأعرضه على حضرة الزعيم غداً.. فإلى غد..

* * *

• يشير الصحافي الرفيق عبد الله الشيتي أن خاله الرفيق الشلبي كان حتى تخرجه وحصوله على شهادته الجامعية في أوائل عام 1936 يعمل في صفوف الشيوعيين .

• تخرج الرفيق محمد شلبي من مدرسة "الأرض المقدسة" Terra santa وعنها يفيد الرفيق عبد اللطيف كنفاني أنها من أشهر المدارس الثانوية في فلسطين وأرفعها مستوى، وقد انخرط في صفوفها أجيال من الشبيبة الفلسطينية. عرفت سابقاً باسم The American Franciscan School.

• كان أصغر الأبناء سناً في أسرته. كان والده مزارعاً وتوفي بعد ولادة ابنه محمد بمدة قصيرة. فعاش الرفيق محمد في كنف والدته وأخيه الأكبر أحمد، من ريع الأراضي الزراعية التي خلفها والده.

• نشر الشاعر حسن البحيري في ديوانه "حيفا في سواد العيون" الصادر في دمشق صيف العام 1949، القصيدة التالية في صديقه الرفيق الشهيد محمد الشلبي

على شاطئ الحياة

عاودت عهدك بالفؤاد الشيّق

وبكيته بالناظر المغرورق

ورجعت ادراج الهوى، امشي على

غصص الأسى، في جنح يأس مطبق

فلمحت طيفك بين أفراح المنى

يختال في حلل الصبا المتأنق

والعيش غضّ.. والزمان غصونه

بالسعد تثمر في رحاب "الجوسق"

وأنا وأنت، على تسامح دهرنا

الفان، من نبع الأخوّة نستقي

أسقيك في كأس الوداد محبتي

صرفا، وأشرب من حيالك المغدق

حتى رمانا من مشارف غيبه

بيدى مشت للشمول مفرّق

رام تحيرت العقول بأمره

وتقاصرت عن سرّه المستغلق

نحيا على شط الحياة ولم نكن

ندري، على بحر الرزايا المحدق

انا على الرمل المهيل كئيبه

نبني بناء الآمن المستوثق !

يا مغفيا خلف التراب بفكرة

كالشمس تبسم في وضيء المشرق

اسكنت مطمحها فؤادا مؤمنا

ابدا بغير هوى العلى لم يخفق

وحملت مشعلها وسرت بنورها

تعلو معاريج الخلود وترتقي

حتى طرقت من المنايا مسلكا

من قبل يومك وعره لم يطرق

ووردت من ورد المتالف جعفرا

لم يدن من تياره المتدفق

قالوا: الحياة فدى.. فقلت: هي الفدا

واخو الطموح على المصاغب يرتقي

والمجد في لجج الخطوب محطّه

يغدى إليه على الحمام الأزرق

والعزّ يشرب كأسه انخابه

والويل من مترنح.. ومصفق !

لم أنس يومك والمنايا شرّع

والهول بالهول المقطّب يلتقي

والليل، ثائرة به أسدافه،

فرقت له أحشاء من لم يفرق

والفجر ريع فما أطلّ على الورى

الاّ بدمع في الندى مترقرق

قبست تألقها كواكب صبحه

من بسمة في فيك ذات تألّق

لما ثبتّ، وكل طرد مرجف

من مرعد للنائبات ومبرق

وسئلت أن تمضي لعائلة الردى

فمضيت ليثا، يتقّى.. لا يتقّي

واختلت في برد الشباب تخطرا

للموت تلقاه بوجه مشرق

ومشيت تبسم للرصاص كأنه

ألحان عرسك في صباك المونق

وبذلت زهر شبابك الغض الذي

لم يرو من مزن الحياة الريق

قربان ذي ورع على أجفانه

يغفى خشوع العابد المستغرق

ليظلّ صرح علاك مرفوع الذرى

رحبا على خلق الزمان الضيق !

أمقلّبي، بجوى الأسى، ومعذبي

ومحرّقي، بلظى الغضى، ومؤرقي

نم من ظلال الخلد في حضن المنى

واحلم على أنفاس عطر الزنبق

فلعل بعدك لا يطول تلبثي

ولعلنا بعد النوى أن نلتقي ؟!

• الصحافي والكاتب المعروف الرفيق عبدالله الشيتي هو إبن أخت الرفيق الشهيد محمد الشبلي وقد كتب تحت عنوان الشهيد محمد الشلبي للمرة الأخيرة، المقال الرائع التالي:

"...أصحيح أننا إذا ما فقدنا وجهاً حبيباً غالياً، إنساناً عزيزاً علينا نتوهم ألواناً شتى من الإساءآت والتقصير صدرت منا إليه، فنتمنى لو عاد إلينا، وظهر بيننا ثانية، إذن.. لغمرناه بكل ما فينا من عاطفة.. ووفاء.. وتسامح !!؟..

وهل صحيح أن محمد الشلبي قضى..؟! أجل!.. ولكن ليخلد، وليغمس روحه في النجيع الأحمر، نجيع الاستشهاد في جراحات الأمة، ليسطر بطولات ملاحم، وليهتف مع رفقائه الشهداء الخمسة الآخرين مع أزيز الرصاص البغي: قف أيها التاريخ وابدأ حياتك من جديد!!..

ويقف التاريخ، ويبدأ حياته ثم يجتر مع الماضي ذكريات... كان ذلك في عام 1949 من شهر تموز عندما حمل إلينا البريد فيما حمل، برقية يقول مبرقها "أسرع إلى سجن الرمل. خالك معتقل!!" ولم أتمكن من أن أتمالك نفسي إزاء هذا الخبر، وقضت الأفكار السوداء إلى ساحة تفكيري. لم تكن تربطني بالشهيد محمد صلة القربى فحسب. بل كان لي بمثابة الصديق الحميم، والموجه الخيّر، لهذا الفيتني أهرع إلى البيت أعد حقيبتي تأهباً للسفر وحينما أرادت أمي أن تستفسر مني عن سبب هذا الرحيل المفاجئ لفقت عليها أكذوبة ما، ولم أشأ إطلاعها على حقيقة الأمر وبسط جلبته، مراعاة للمرض الوبيل الذي أقعدها الفراش من أن يثير فيها خبر كهذا كوامن ذاتها من مشاعر وأحاسيس قد تزيد في سوء حالتها المرضية...

.. وفي بيروت، حططت رحالي، ويممت وجهي شطر أحد الفنادق المنتشرة على طول شارع المعرض الرئيسي لأخذ قسطاً من الراحة وإزالة عناء السفر، وكنت في غضون ذلك نهباً للقلق المستمر.. وفريسة للهواجس.. وما هو سبب إعتقال الرفيق محمد.. وما هو "الجرم" المسند إليه.. وما معنى أن يكون في سجن الرمل؟ .. عشرات علامات الإستفهام قفزت إلى شفتي، وراحت تذكي في خاطري جذوة التوتر والتيقظ.. وارتسمت فوق قسماتي خطوط الأسى.. فقد كنت وحيداً.. وكنت صغيراً أيضاً.. ولم أستطع إيجاد ما يشبع تساؤلي ولو بخيط رفيع من نور يبدد بعضاً من حلكة أفكاري القاتمة!..

لم أكن أعرف عن شهيدنا هذا من أنه يمت إلي بصلة القرابة والوصاية ولكنه كان مفتشاً عاماً لسلك حديد الجنوب، وعادت بي الذاكرة إلى الوراء، عادت تحسر الستار عن سنين ثمان مضت لا أراه يتوسط جموعاً كبيرة محتشدة في طول الشارع الرئيسي الكبير بمدينة حيفا يخطب في المواطنين... ويحدثهم على فكرة ومبادئ يدعوهم إلى إعتناقها والإنضواء تحت لوائها. فكرة كانت جديدة علي لم أفقه من أمرها شيئاً في ذلك الحين !!.

غير أني كنت أعلم يقيناً أنه حتى تخرجه وحصوله على شهادته الجامعية العليا في أوائل عام 1936 يعمل في صفوف الشيوعيين آنذاك ، وإزددت معرفة به بعد مضي زمن قصير على وجوده مع هؤلاء لأراه قد اعتنق الفكرة الجديدة في وثبتها الجديدة !!..

ومن عام 1936 حتى 1949 كان لمحمد الشلبي شأن في التاريخ وأي شأن..!!

عرفته أخيراً إبان إندلاع شرارة الحرب في فلسطين مناضلاً عنيداً.. وجندياً مستميتاً في حمى المعارك الدائرة رحاها مع العصابات اليهودية الآثمة في جنوبي غربي الوطن وأنه أبلى البلاء الحسن في نسف الجسور والمنشآت العسكرية اليهودية الهامة في حين قد جعل من منزله مكاناً يدرب فيه الشبان ورجال الحي والأحياء المجاورة لمنزله على إستعمال الأسلحة ومقاومة العدو وكيفية تطبيق وممارسة الدفاع السلبي.. ولا زلت أذكر كيف شق السكون دوي هائل أحدث هزة كبرى في المدينة برمتها وساد الوجوم الرهيب جو المدينة المشحون المكهرب.. واستفاق الناس مع طلوع الشمس ليروا منزل الشلبي قد تهدم وإنهارت أركانه وأصبح تراباً !!..

وظن القوم أن محمد قد قضى نحبه تحت الأنقاض وأذهلتهم المفاجأة ولم يلبث الناس أن شاهدوا محمداً متنكباً مدفعاً رشاشاً صغيراً وقادماً من بعيد يفتر ثغره عن إبتسامة عريضة على قدرته في الإستمرار بالحياة وكانت فرحة الجميع لا توصف وإزداد إيمانهم به وإجلالهم له وهم يرونه يعمل ونفر كبير على أيديهم لاحت شارات زوبعة حمراء يقيمون الإستحكامات والأبنية المسلحة على أنقاض منزله !! ومرة أخرى أبى التاريخ أن يحدث فراغاً في صفحاته.. فكتب للشلبي عمراً جديداً..

ومنذ ذلك الحين لم أعد أشاهده أو أسمع من أخباره شيئاً.. ولم يكن ليدور بخلدي أنه نذر نفسه قرباناً على مذبح أمته وفي سبيل " فكرته " التي حتى عام 1949 ما فقهت من أمرها شيئاً..!!

ثماني سنوات مضت وذكرى المفاجأة الصاعقة ما زالت راسخة في كياني . لم تبرح خيالي.. ولم تفارق نفسي وكأنها حدثت البارحة !!..

ذلك أني عندما تهالكت على المقعد الوثير استجمع قواي المبعثرة وألم شتات أفكاري واستحضر في ذهني ما يتوجب عليّ فعله امتدت يدي إلى صحيفة يومية ملقاة على حافة النافذة في شرفة الفندق ورحت أقلب النظر في عناوينها الضخمة الحمراء بحروف " المانشيت " .. وفجأة لا أنسى كيف اصطدمت عيناي بعنوان وقف له شعر رأسي هلعاً ورعبا وتجمد الدم في عروقي ، ولم أعد أميز المرئيات من حولي..

كان العنوان أشبه بحروف نارية تتلوى وتتثاءب فيندلع منها شرر اللهيب المستعر ويتطاير شظاياها حمماً وبراكين: "إعدام الشلبي ورفاقه !!"

يا للهول، يا للفظاعة.. كذلك صرخت. وقفزت على اثر ذلك من مكاني وخرجت إلى الشارع المكتظ بسيل الزحام أشق طريقي وسط الكتل الآدمية لا الوي على شيء، ووجوه الناس من حولي وأنا أستعرضها هالعاً، هالعاً ترمقني بنظرات الرثاء والفضول .

وأقلتني سيارة تاكسي إلى سجن الرمل، وسمح لي بعد لأي أن أواجه أحد موظفيه، وكان هذا بديناً، أصلع الرأس، يتحلى ببزة عسكرية قشيبة، علمت أنه منتدب من شرطة الجيش العسكرية...

ومضت ثواني، انحسر معها وجه الحقيقة وانجلت أمامي الأمور موضحة، بعد أن أفهمني هذا المأمور أن خالي محكوم عليه بالإعدام.. مع رفاقه الخمسة وقرأ عليّ أسمائهم فعرفت من بينهم أديب الجدع.. وأديب والشلبي صنوان لا يفترقان أبداً..

وعندما رجوته أن يتوسط ويأذن لي بمشاهدة خالي الرفيق، لحظات قصارا أربد وجهه وازبد وقال وهو يحدجني بنظرات شذراء تقدح شرراً:

- محظور على أي كان رؤية القوميين!! وهنا أدركت كل شيء.. فلم أملك إلا أن أهز رأسي..!!

قوميون؟!.. وهززت رأسي كرة أخرى... وقبل أن أنبس بكلمة عاجلني محدثي قائلاً:

- إنتظر لحظة سأعمد إلى نقل خبر مجيئك من الشام لرؤيته بنفسي.. ورأيت أسارير وجهه إنبسطت عن آيات سخرية وهزء وثمة بسمة صفراء باهتة لاحت على ثغره أعقبها بقوله: لا بأس عليك يا هذا، سينفذ الحكم غداً.. أدركت عندها أنه يثير فيّ بتهكمه لوناً من "الشماتة" يشعرني بأننا مهانون، وقلت بهدوء:

- شكراً .

هذه الكلمة وقعت على الرجل وقع الصاعقة فصاح مهتاجاً: أنت منهم؟! قلت لماذا تسأل.. ؟

صمت وكأني بلسان حاله يريد أن يقول: لأنهم قالوها أمس يوم تلقوا الحكم بالإعدام تماماً كما قال الزعيم من قبل؟.. واستبد بي القلق وأشحت بوجهي عنه، وكدت أخرج أجر أذيال الخيبة، لكن الرجل كان قد عاد إلى لطافته أو هي لطافته عادت إليه فاستوقفني وإستمهلني قليلاً وغاب وجهه وراء باب حديدي كبير موصد بإحكام.. وتناهى إلى مسامعي صوت آت من بعيد.. والتقطت أذناي صدى يتجاوب في أرجاء السجن على رحابته وسعته واهتز كياني وأنا أسمع:

سورية لك السلام

سورية أنت الهدى

سورية لك السلام

سورية نحن الفدى !!

وأضخت السمع وراء الكوة الصغيرة، ومن ثقب المزلاج الكبير لاحت لعيني أو هكذا خيل إليَّ أن ثمة "زنزانات" ستة في إحداها كان يقف الشهيد الشلبي شامخاً، مرفوع الرأس... يطل بعينيه الشاردتين في ترقب موعد تأدية ضريبة الفداء... ضريبة الدم!.. وإلى جانبه كان خمسة.. خمسة آخرون يفيضون قوة وإيماناً.. علامة، الجدع، وعباس، والزعبي، ومعروف موفق... وعاد الرجل يفتح الباب ويدخل معه صدى النشيد: نحن قوم لا نلين..

- خذ! قالها ودفع نحوي ورقة صغيرة ممهورة بتوقيع الشهيد محمد دبجت سطورها الرشيقة الأنيقة بمداد أحمر وقوة أعصاب لا يشتم منها أن كاتبها على موعد مع الموت قبل أن يبزغ الفجر!!

لفظني الشارع الطويل، المؤدي إلى منعطف طريق الرمل.. وكان الليل يرخي سدوله وجمهرة غفيرة من عائلات الشهداء الستة تحوم حول المكان تتنسم آخر أخبارهم وآخر ذكرياتهم...

وعلى ضوء أحد المصابيح الكهربائية فضضت الورقة وقلبي يخفق بشدة ودقاته كقرع ناقوس.. أو كضربات مطرقة مختلة الوقع..!!

وقرأت بإيمان ما خطته أنامل الشهيد في لحظاته الأخيرة:

"عد أدراجك.. وكن رجلاً يعمل، ويؤمن بما يعمل، حبي للجميع!! "..

وهكذا فقد كان له الفضل في دفعي إلى "مصنع الأبطال" وكان أن أدركنا جميعاً أن مبادئ الحركة القومية الإجتماعية لم تمت في هؤلاء الأبطال كما أنها لم تمت فينا لأن إعدام الجسد فيهم كان نهاية عيش وبداية حياة..!!

لأني من يومها وأنا أعمل... وأؤمن بما أعمل، بعد أن إقتنعت بواقع الأمة السورية وحقها في الحياة وبعد أن رفعت يميني وأقسمت بشرفي وحقيقتي ومعتقدي!!




 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024