إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

منفذيه ليبيريا ورموز حزبية مضيئة من كتاب الأمين مصطفى الشيخ علي "في مواكب النسور"

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2022-10-03

إقرأ ايضاً


في اكثر من مكان نشرت، عن منفذية ليبيريا وتحدثت عن عدد من الأمناء والرفقاء الذين كان لهم حضورهم اللافت، من أمثال الأمناء عادل شجاع، فؤاد صعب، رشيد رسامني، حسن ريدان..

من المؤسف انه لم يترك لنا احد المميزين من أمناء ورفقاء مذكرات او مرويات ومعلومات تفيد تاريخ العمل الحزبي وتبقى للأجيال.

من بين الكتب التي لفتتني واعدت قراءتها مجدداً "في مواكب النسور" للامين مصطفى الشيخ علي. أسلوبه الرائع ومعلوماته الكثيرة الغنية بالمُثل جعلتني اتمتع بسحر الكثير من المقالات التي ستبقى محفورة في تاريخ حزبنا في ليبيريا،

منها اخترت الكلمات ادناه ...

ل. ن.

*

في وداع ابي عبدالله

بين المهدِ واللحد رحلةٌ من العمر يحدها الزمان والمكان.

بعضنا يأتي ويمضي، وكأنه لم يأتِ ولم يمضِ. وبعضنا يترك بصمات واضحة على مدى سنوات عمره ويملأ كل الأمكنة التي يحل بها.

منذ بضعة أيام، غيب الموت رفيقاً، كان صديقاً وأخاً وأباً. تعرفتُ إليه في العام 1977 وكلانا كان مغترباً في ليبيريا. حينها كنت أعاني أزمة معقّدة كادت تسحقني. فوقف الى جانبي، يشد من أزري ويشحذ عزيمتي ويرفع معنوياتي.

دون أي كلل او ملل، بقي قرابة السنة يعالجني لأعالج مشكلتي.

وقبل ان اشكره على مؤازرتي، بعد ان خرجت من متعافياً من محنتي، بادر الى تهنئتي على حسن إدارتي وتصرفي ومقدرتي. فجعل مني بطلاً. لأنه تعود صناعة الابطال، شأن من يعمل في حياته لقضية تساوي وجوده.

هذا هو الرفيق محمد سبيتي (أبو عبدالله). كانت حياته مليئة بوقفات العز، يمنح الثقة ويرفع المعنويات ببديهية عزّ نظيرها. كان حالة أخلاقية، كان حالة وجدانية، كان حالة إنسانية... كان حالة قومية اجتماعية بامتياز.

في ايمانه عمق من الصعب إدراكه، وإن ادركناه فمن الصعب استكناه خفاياه، اما دوافعه وأهدافه فكانت واضحة كعين الشمس. هذا الايمان منسوج في خلايا جسمه ومجبول بأعماق أعماق روحه. في كلامه وحكاياته انسياب رقراق كانسياب النهر بين جنبات الوادي.

امتلك حساً قومياً اجتماعياً فطرياً. تستنفره القضايا الكبرى، كقضية أمته، ويستفزه الاستبداد، فلا ينتظر طويلاً لينتفض، فكرامة الوطن والأمة ومصيرهما فوق كل اعتبار .

عرفته عن كثب، لأني في العديد من المرات، حيث كان يتعاطى مع كل ما يعنيه من أمور، او يعني أياً ممن كان حوله، سواء كان رفيقاً أم نسيباً ام مواطناً، تعاطى بذات الحميمية والحيوية والبديهية، دون ان يثنيه شيء، وهو الذي تعرض في حياته الى اكثر من ازمة، او حادث، بعضها كاد يودي بحياته. لكنها لم تحوّله من رجل قوي الى رجل ضعيف، بل زادته قوة وصبراً ومناعة.

نعم، انتصاراته لم تكن ابداً مضمونة. وهذا لا يعني انه كان مغامراً او مجازفاً، لكن وجوده في ارض المعركة كان امراً أكيداً. فإن انتصر كان الانتصار جزاءه، وان انكسر كانت المشاركة عزاءه.

من ميزاته الكثيرة، انه كان يسخر من الازمات، بل يحتقرها، لانه ما ترك امراً يستقوي عليه، فالمبادرة كانت دائماً له. لأنه ابن الحاضر أي ابن اللحظة فأية لحظة تصبح جزءاً من الماضي، هكذا ملأ زمانه وعاشه لحظة بلحظة.

كان يخاف امراً واحداً، قاله لي يوم زار أخي في ما كان يسمى بالمنطقة الشرقية، وذلك عام 1980 وكانت البلاد منقسمة، الى شرقية وغربية. فكان خوفه الوحيد هو ان يقتل على الهوية. لم يكن هذ شعوره ابدا يوم كان يتنقل بين مواقع القتال الوطنية، والمقاومة للعدو، تحت القصف والرصاص، يأخذ خبزا لهذا الموقع، ويسلق بطاطا بتنكة على قارعة الطريق ليأخذها لموقع آخر، فهذه كلها كانت مواقعه، فلا بأس ان استشهد فيها او بينها فهو في راحة من ضميره، أما ان يقتل على الهوية فهذا هدر لدماء نزفت في غير موقعها.

ميزة أخرى، اود ان اروي حادثة حولها لأنهي كلامي الذي لا ينتهي ابدا عن الرفيق ابي عبد الله سردتها لي امرأة، حصلت الحادثة معها. كان لهذه المرأة ولد قد نجح في امتحانات البريفيه، وفي نشوة نجاحه هذه طلب الى والدته ان تسمح له بقيادة السيارة الى الدكان، فوافقت شرط ان تكون الى جانبه، وهكذا كان.

وفي طريقهما ارتطما بسيارة الرفيق ابي عبدالله، فنزلت المرأة وهي تندب حظها في حالة من الهلع. فتناول قنينة ماء بارد من الدكان وأعطاها للمرأة حتى تشرب وتهدئ من روعها. فشرحت له ان ابنها لا يملك رخصة قيادة، وبناء عليه لن تدفع شركة التأمين.

فسألها أبو عبدالله ان كانت هي تملك رخصة قيادة.

فأجابت: نعم

فقال لها: من ذا الذي قال ان ابنك كان يقود السيارة، انا شخصياً رأيتك انتِ تقودينها.

فلم تصدق اذنيها وكاد يغمى عليها من شدة التأثر والفرح.

ثم ختمت قصتها بالقول: ايعقل هذا، أما زال في الدنيا اشخاص مثله، فالدنيا فعلا ما زالت في خير.

واخيراً داهمه المرض، وتعايش معه مدة من الزمن، ولم يستسلم إلا بعد حين. خلالها هيأ نفسه وهيأنا معه، فالموت حق، والرفيق محمد لم يكن متواضعاً إلا امام الحق.

عزاؤنا جميعاً ان الرفيق محمد حيّ في وجدان كل منّا.

*

في رحيل الأمين عادل شجاع

هذا الاسم الكبير الذي كان يسبق صاحبه الى المكان والزمان فيشيع المحبة والاحترام ويمنح الثقة. ملأ المكان بوجوده وسيبقى في الزمان حتى بعد رحيله.

الأمين عادل شجاع، اسم تخطى حدود الذات، ليصبح عنواناً في التضحية والعطاء، ومثالاً في العمل والمثابرة ورمزاً في محاكاة الوجدان عن طريق العقل، وعلماً من اعلام نهضتنا العظيمة.

كان هادئا بالرغم من كل الضجيج الذي حوله، مؤمناً بقيم الحق والخير والجمال في أمتّه بالرغم من كل العاهات التي تعتريها. ينشر الثقافة والمعرفة والوعي حيثما وجد، ويراهن على الخير في الناس، في كل الناس، دقيقاً في تعابيره منعاً لأي التباس. كان حالة استثنائية يحسب حسابها أينما حلّ، كما كان استثناءً في حياة كل من عرفه .

لا اعرف احداً لا يحب او لا يحترم الأمين عادل شجاع، علماً انه كان رجلاً واضحاً في مواقفه، ولا يساوم احداً على إيمانه في عقيدته التي كانه يمارس شعائرها بكل علانية واعتزاز.

لكنه تفرّد بأسلوب يميّزه عن سواه، فيطرح أفكاره وآراءه وكأنه يحمل قلبه بين يديه، فيحاكي وجدان المستمع ويلامس مكامن الخير فيه، وكلامه الذي يوحي دائماً باحترام الآخر مهما كانت خلافاته معه.

عائلته خسرت الزوج والأب والأخ، في حياته أعطاهم الحب والعطف والحنان والدفء والملاذ، دون ان يسألهم يوماً ان يفعلوا ما لا يفعله هو نفسه. فكان مثالاً وقدوة في كل ما يصبو إليه. وفي مماته ترك لهم إرثاً كبيراً من محبة الناس واحترامهم وتقديرهم.

رفقاؤه خسروا رفيقاً ملهماً يمنحهم الثقة ويشحذ عزائمهم كلما ارهقهم مشاق المسير، او ضعف إيمانهم او ضلّوا الطريق.

في كثير من الأحيان كان وجوده حافزاً ومؤشراً بأن المسار ما زال بخير.

اصدقاؤه خسروا صديقاً وفياً يقرن القول بالفعل، يلجؤون إليه لنصيحة يحتاجونها او للاحتكام إليه في خلافاتهم.

*

وعن الأمين حسن ريدان، أورد التالي:

كانت زوجتي في زيارة لأهلها في لندن، الامر الذي دعاني للتوقف يومياً في مقهى بفندق لآل الجوهري في منروفيا، قبل ذهابي الى البيت.

لحينه لم يكن لي أي علاقة اجتماعية تجمعني بأي من المسؤولين الحزبيين، بل كانت علاقتنا مقتصرة على التعاطي الحزبي الرسمي. وتأثري بهم كان تأثراً حزبياً عقائدياً فكرياً أخلاقياً ووجدانياً.

التقيت في المقهى بثلاثة شبّان اميركيين، كنا نتجاذب أطراف الحديث هندما سألني أحدهم: من أين أنت. قلت: أنا من لبنان. فصرخ آخر: آه انت من بلد جبران خليل جبران إذاً. قلت وبكل فخر واعتزاز: نعم. ثم راح كل منا يدلو بدلوه عن أدب وفلسفة وأسلوب جبران. في عز النقاش دخل المقهى الأمين حسن ريدان، كنت أعرفه، إذ شاهدته مرة او مرتين من ذي قبل، فالامين حسن كان زائراً في ليبيريا وليس مقيماً. لكن مميزاته كانت تترك اثراً كبيراً في كل من يلتقيه، يصعب معها نسيانه. أناقته وهو في منتصف الستينات من العمر، ثقافته الواسعة تفرض الاصغاء إليه وتشدّك بغض النظر عن ميولك السياسية او الثقافية. ثم تاريخه الحزبي الذي يشهد على حنكته وقدراته القيادية.

جلس يصغي باهتمام شديد الى أربعة أجانب يتحدثون عن جبران، فهو لا يعرفني ولا يبدو اني لبناني من حيث الشكل. طبعاً كنت أود ان أقدم نفسي إليه معرفاً، لكني آثرت ان افعل ذلك بعد الحوار، او بعد ان يخلو لنا المجلس. بالتأكيد أخذ دوره في الحوار، وكيف لا يفعل ذلك وهو أمين في الحزب – وبكل ما يعنيه لنا جبران من الناحية الفكرية والوطنية والقومية – وأستاذ لغة إنكليزي في مدارس دمشق وبيروت.

وأخيراً، غادر الاميركيون بعد ان شكرونا على الحوار الجميل والمعلومات الاجمل، وبقينا وحدنا. نهضت من مكاني واقتربت منه لأعرّف بنفسي، لكنه عاجلني بحوار آخر، فارتبكت وأكملت التحدث معه باللغة الإنكليزية. ثم سألني: من أين أنت؟ لكنه علّق قبل ان أجيب: لكنتك الإنكليزية جداً محيرة، هل انت من إحدى الدول الاسكندنافية ؟.

قلت: انا الرفيق مصطفى الشيخ علي، تابع لمديرية منروفيا الأولى في منفذية ليبيريا العامة.

قال: إذن أنت تعرف من أنا منذ دخولي هذا المكان!

قلت: طبعاً.

قال: وبالرغم من ذلك لم تعرّف عن نفسك.

قلت: ارجو ان تعذرني على ذلك، اردت الاستفادة من وجودك بالحوار الذي كان قائماً مع الاميركيين، واعتقدت بان تعارفنا كان ممكناً ان يفسد الحوار العفوي معهم.

طلب ان يلتقيني بحضور المنفذ العام الرفيق فؤاد صعب في صباح اليوم التالي. ليؤّنبني ويشيد بمعلوماتي وثقافتي العامة.

كنا نلتقي كل يوم تقريباً خلال فترة وجوده في ليبيريا، ونتحدث بكافة المواضيع الثقافي.. فكان اول المشجعين لي للمثابرة على تثقيف نفسي.

وذات مرة روى لي هذه الحادثة:

"كنت وزوجتي في زيارة الى لبنان لقضاء عطلة أعياد الميلاد ورأس السنة (1961-1962). وحصلت حينها المحاولة الانقلابية الفاشلة التي قادها الحزب. وبدأت الاعتقالات بالجملة والمفرق. جلست في البيت أنتظر حضورهم لاعتقالي، وبالرغم من قناعتي ببراءتي. فأنا مقيم في سيراليون منذ سنوات، ووجودي في لبنان كان محض صدفة في هذا الوقت بالذات. لكن التعسف كان سيد الموقف، عوضاً عن كوني أميناً في الحزب ومعروفاً بانتمائي والتزامي. لكن حقيقة الامر تبقى بأني لم اكن مشاركاً في الانقلاب او حتى على علم به.

انتظرت بضعة أيام في المنزل، فلم يحضر أحد لاعتقالي فازدادت قناعتي يوماً بعد يوم بأنهم لا يبحثون عني. بناءً عليه حجزت مقعدين على اول طائرة الى سيراليون.

بقي الافتراض الأقوى ان أعتقل في المطار لدى مرورنا بالامن العام. لكن شيئاً من هذا لم يحصل، فصعدنا الطائرة وتنفسنا الصعداء.

لسبب ما تأخر الإقلاع، وهذا التأخير كان مصدر ازعاج وتساؤل جميع الركاب، فعاد إلينا بعض القلق.

فجأة، رأينا رجال قوى الامن في الطائرة، وكانوا يتقدمون باتجاهنا... الى ان وصلوا إلينا، فسألني أحدهم إن كنت الأستاذ حسن ريدان؟ قلت: "نعم". قال: "تفضل معنا".

أخذوني مباشرة الى المدينة الرياضية، حيث كانوا يجمعون المعتقلين هناك بعد ان امتلأت بهم السجون. تبين لاحقاً أنهم اعتقلوا شخصاً يدعى حسن زيدان، يعمل في إحدى محطات البنزين. هذا كان سبب تأخرهم باعتقالي.

احضروا معتقلاً شاباً بهي الطلعة، وسيم الوجه بالرغم أنه تعرض للضرب، فآثار بعض اللكمات كانت واضحة على وجهه إذ تركت بعض الجروح.

أثارني بكاؤه، فاقتربت منه ورحت أطيّب خاطره وأرفع من معنوياته، لكنه ازداد بكاءً وهو يردد "أنا لست حزبياً، أنا لست منكم" فأجبته بأن الكثير من المعتقلين ليسوا حزبيين، فلا بد ان تظهر الحقيقة وتخرج سالماً بإذن الله.

هدأ روعه، وعاد إليه بعض الهدوء. في اليوم التالي نادوا عليه، وخرج برفقة رجلين من الامن. لكنهم أعادوه بعد ان برّحوه ضرباً، وعادت جروحه تنزف من جديد، وعدت أنا أطيّب خاطره وأرفع معنوياته. وعاد يكرر "أنا لست حزبياً، أنا لست حزبياً" وبعد ان هدأ بعض الشيء، راح يخبرني انه في كل مرة يطلبون إليه الاعتراف بانتمائه للحزب، فينكر التهمة، فيشبعونه ضرباً وهكذا دواليك.

وفي اليوم الذي تلاه، نادوا عليه مجدداً واقتادوه الى التحقيق، فحملت همه ورحت أهيئ نفسي للتخفيف عنه. لكنه عاد وهو يبتسم، فاقتربت منه وقلت له: يسعدني انك تبتسم ماذا حصل؟

أجاب: "مثل العادة ونفس التحقيق، لكني اعترفت بانتمائي للحزب قبل ان يبدأوا بالضرب، فوقعت على اعترافي ورجعت".

*

والرفيق محمد جواد سبيتي

تعرفت الى الرفيق محمد جواد سبيتي (أبو موسى) عبر نسيبه الرفيق محمد عبدالله سبيتي كنت أحرص على لقاء الرفيق أبي موسى كلما نزل الى العاصمة، وذلك مرة كل بضعة أسابيع او بضعة اشهر، إذ كانت تجارته تبعد بضع مئات من الكيلومترات عن العاصمة منروفيا. في الكامب فور _ يكبا حيث تجمّع عدة رفقاء جلهم من بلدة كفرا في جنوب لبنان. الرفيق أبو موسى محدث لبق، يختار كلماته بدقة، على قدر كبير من ثقافة تعمّقت جذورها في الادب والشعر والفلسفة والدين، أضف الى ذلك ثقافته الحزبية التي زادت عمقاً وألقاً وحضوراً.

نعم، كان من القلائل الذين كنت اتوق لسماع احاديثهم والاستمتاع بأفكارهم، حريصاً كل الحرص على ان أكون مستمعاً أكثر مني متكلماً.

له ولرفقاء كفرا أكثر من قصة وعلى أكثر من صعيد، كلها جديرة بالسرد لما تحمل في تفاصيلها من الإثارة والعبر. غير أني لست الجهة المخوّلة بذلك، خوفاً من الإساءة الى التفاصيل التي قد تغفل بعض النواحي التي يجب الإضاءة عليها، غير أني أتمنى لو كنت قادرا على ذلك.

قصة واحدة لم تفارق ذاكرتي، كنت قد سمعت بعض اجزائها من بعض رفقاء كفرا، الى ان سمعتها على لسان الرفيق محمد جواد سبيتي (أبو موسى). إن اكثر ما شدّني إليها هو رجل الدين الذي استطاع بعلمه واجتهاده وحكمته ان يفصل ويوازي بين مصلحة الدين ومصلحة الدولة، وان تكون له مواقف وآراء تتسم بالكثير من الشجاعة والجرأة، في زمن كان فيه أكثر رجال الدين مطية للدولة وللإقطاع السياسي المتمثل بزعامات محلية لا تعرف من الأيام إلا يومها، ولا تعرف من الناس الا نفسها.

على لسان ابن فضيلة الشيخ موسى سبيتي، أي الرفيق محمد جواد سبيتي، أسجل بعض المحطات والمواقف التي أدت لتأسيس مديرية كفرا. وتلك الاختلاجات والتساؤلات والملاحظات التي سجلتها انطباعات الرفيق محمد عن اول صورة شاهدها وأول مقالة قرأها عن أنطون سعادة. مرفقة (بالصورة والمقال). وعن تسلسل الاحداث التي حوّلت ابن الشيخ عن مساره العائلي في المشيخة، لتجعل منه رفيقاً في حزب سعادة، لم يكن الشيخ نفسه بعيداً عن هذا التحول، بل كان المحفز له.

وهنا القصة بكاملها على لسان الرفيق محمد جواد سبيتي.

"صورة شمسية لرجل في عقده الثالث من العمر يصوّب نظراته بعيداً الى هدف قد لا يعرفه الا صاحبه، تأسر هذه النظرات المركّزة بحدّتها حركة الناظر إليها وتجعله يتساءل عما يجول في فكر صاحبها وعن الكامن والموجه نحو عالم خارج الملموس، ظاهر ذلك عبر التقطيب البارز بين الحاجبين نزولاً حتى أواسط الوجه والخطوط المحفورة حول الانف الذي يعلو شفتين مطبقتين على قول لم يحن إطلاقه بعد، يعلو هذه الملامح الصارمة جبهة يضيف إليها الصلع الزاحف نحو الرأس انبساط عالم من الفكر اتسع لإدراك مشاكل الأرض وحلول السماء.

وبجانب هذه الصورة تعليق جاء به: الزعيم أنطون سعادة أشرنا إليه والى حزبه السوري القومي في العدد الماضي وقد خرج من السجن وكنا قد أجتمعنا به في سجنه الثاني 24 ساعة لقينا منه ذكاءً نادراً، يحسن سبع لغات ويلمّ باثنتين، ونزل بعد خروجه من السجن في قصر بديع لأحد أنصاره السيد نعمه ثابت في الطيونة قرب بيروت وما زالت الوفود تؤم محل نزوله للسلام عليه. وهو والحق يقال شخصية جذابة وما برح يؤدي لوطنه الخدمات التي يستطيعها.

انتهى التعليق لصاحب مجلة العرفان الشيخ احمد عارف الزين المنشور في العدد 4 مجلد 27 أيار سنة 1937.

ثم يعود الكلام للرفيق محمد.

قرات ما سلف في أواسط سنة 1945 وانا أقلب هذه المجلة القديمة نسبياً في ذلك الزمن، وبعد قراءة ما جاء في التعليق حول الصورة التي أطلت التحديق إليها وحيث عدت لاحقاً في النظر مراراً إليها مكتشفاً فيها تجسيداً للقوة والصلابة. في ذلك اليوم زاد عدد أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي عضواً وذلك بانضمام الفتى ابن الحادية عشر من عمره محمد جواد سبيتي الى صفوفه إعجاباً بالشخص وانبهاراً بالشكل وتأثراً بتعليق الشيخ احمد عارف الزين، وبذرت حينذاك نواة انخلاع الفتى عن الانخراط في السلك الذي يحضّره له الاهل كي يصبح في المستقبل رجل دين ينتظم في السلسلة الطويلة من آبائه رجال الدين الذين يرقى اختصاصهم في هذا الحقل الى 300 سنة خلت من تاريخ العائلة. وهنا اتوقف لأقول بأن الحزب لم يربح صنواً للزعيم، والطائفة لم تخسر مثيلاً للشيخ موسى سبيتي الوالد عالماً قد يفجر المذهبية ويضعف أعمدة الطائفية من الداخل كما كان يرجى منه.

انطوى الفتى على هذه الحالة من واقعة فترة سنوات قليلة، ليعود والده في يوم من زيارة لبيروت وهو يحمل معه نسخة من كتاب "نشوء الأمم" لأنطون سعادة، كان قد أهداه له السيد نعمه ثابت خلال لقاء جمعهما في بلدة برج البراجنة، حيث تحدثا وتعارفا، أفاض السيد ثابت في ذكر سعادة، وختم اللقاء باحترام وتقدير متبادلين. وقد أدت مطالعة الشيخ الكتاب لإعجاب كبير بفكر سعادة وتقدير لمنهجه في البحث الذي أدى الى النظرية التي تأسس عليها الحزب. حتى إنه كان دائماً يردد ان الكتاب فتح في علم الاجتماع الذي ولد عربياً على يد ابن خلدون، نضج في عالم الغرب، ليعود عربياً مع أنطون سعادة.

حاولت القراءة آنذاك في هذا الكتاب ولكني فشلت في فهمه، وأكد لي الوالد بأني دون مستى الكتاب في التحصيل، بعد سنوات أشار عليّ الوالد بقراءة كتاب في علم الاجتماع لمؤلف مصري يدعى نقولا حداد للمرحلة الثانوية في مصر رغبة منه كي اقرأ يوماً كتاب "نشوء الأمم" حيث انه حاجة ماسة لكل مثقف... كما كان يردد".

وبد شرح مسهب عمّا آلت إليه الأحداث السياسية سنة 1949، وما أدت إليه من نتائج على الأرض، ابتداءً من التحالف الشيطاني الذي قام بين زعماء الطوائف وأرباب الإقطاع واغتصابهم السلطة عبر انتخابات مزورة، والمؤامرة التي حيكت ضد أنطون سعادة وحزبه، حيث استعمل فيها حزب الدولة او ميليشيا الدولة آنذاك "الكتائب اللبنانية" رأس حربة لضرب الحزب القومي. أعدم سعادة فور محاكمة صورية بعد تسليمه للسلطات اللبنانية من قبل الحكم السوري المتواطئ مع النظام اللبناني.

يتابع الرفيق محمد بقوله: "كان لهذه الاحداث المتتالية صدّى في بيتنا كوقع صاعقة دمرت شيئاً في النفس وأحدثت حالة انعطاف حادة في الرؤى، كثرت الأسماء التي رددها الوالد مع نفسه، سقراط، الحسين، الحلاّج، مع شرح ومقارنة ألتقطها وأنفعل بها وأتفاعل معها.

ثم ان الصدفة المحضة جاءت لتعطي الشيخ فرصة التنفيس عما في صدره عبر وجود مناسبة أقيم فيها حفل تأبين لأحد المهاجرين في بلدة حاريص – قضاء بنت جبيل، حيث طُلب من الشيخ المشاركة في تأبين الفقيد. وبحضور العديد من من وجهاء المنطقة بمن فيهم من الموظفين الإداريين وظابط الدرك في المنطقة، هاجم الشيخ الحكومة المتسلطة والمنبثقة عن مجلس مزوّر، كما نعتها. ثم وصل للقمّة في هجومه بقوله "إن جباه الشرفاء تندى خجلاً من ارتكاب هذه الحكومة مجزرة بقتل القوميين بحسب التوزيع الطائفي بعد اغتيالها بدم بارد لأنطون سعادة... وتابع الشيخ، أنطون سعادة الذي يصح فيه القول "ما قتلوه ولا أعدموه ولكن شبّه لهم، فسعادة سيبقى حياً يرزق عبر تلاميذه وفي عقيدته ورسالته". وهنا صرخ أحد ضبّاط الدرك طالباً إيقاف الشيخ عن الكلام، وإلا سينسحب هو من الحفل، فما كان من الشيخ إلا ان طلب من الحضور افساح الطريق لهذا المشاغب حتى يخرج. انتشرت بعد هذه الحادثة أخبار قرّب الشيخ من الحزب وتعاطفه معه، من هنا بدأت علاقته مع الحزبيين في المنطقة، حيث رأوا فيه صوتهم المدافع عن قضيتهم، ورأى فيهم نواة التغيير نحو الأفضل.

وفي حادثة أخرى، التقى والدي في بلدة قانا مع عدد من الشباب في مناسبة محلية، وكانت الأوضاع السياسية موضوع الجلسة، وذلك بذكر انخراط الشباب بالاحزاب. وكما جرت العادة، وجهت له أسئلة عن رأيه في الأحزاب الفاعلة على الأرض، مثل حزب النهضة، النجّادة، الطلائع والبعث، وهي التنظيمات العاملة في بداية الخمسينات، فكانت إجاباته ناقدة بلا تهجم او تحامل، ولقد وجّه إليه سؤال عن رأيه بالحزب القومي فأجاب إجابة بين الدعابة والجد، بأنه يكره هذا الحزب لأنه اخذ منه ابنه محمد جواد، حتى بات عاجزاً عن استعادته، وهو غير قادر على الانخراط في صفوفه نظراً للموقع والسن. كان هذ ا الكلام دافعاً للرفيق كامل الصايغ – من قانا – للاتصال بي فيما بعد، ثم التعارف الأول لي مع قومي اجتماعي، وكانت صداقة ورفقة لم تنقطع. بدأت أفكر بجدية في الانتساب للحزب، كما بدأت بالدعوة الى العمل الحزبي، والحديث عن بطولات القوميين أصبح العمل الذي أقوم به يومياً. أما غاية الحزب وأهدافه فلم يكن لدينا ما نستند إليه، كالدستور والمبادئ او أي مطبوعات أخرى. وهنا لعبت غباوة السلطة الحاكمة دوراً في إفادتنا بما نحن بحاجة إليه، وذلك لدى نشرها كتاباً عبر وزارة الإعلام لتبرير جرائمها أمام الناس في اغتيال القوميين وملاحقتهم، يتضمن مبادئ الحزب ودستوره، وفيضاً من الوثائق التي غطت نشاط الحزب وكيفية تأسيسه ومسيرة الزعيم في الوطن كما في الخارج، وهذا ما اغنى معلوماتنا وأصبح لنا مصدراً نستقي منه ما يفيض عن حاجتنا. حيث إنا جيرناه للدعاية واستقاء المعلومات، وكان ان ولد في "كفرا" تيار يتشوق لليوم الذي ينخرط به في صفوف الحزب. عمدت الحكومة اللبنانية الى جمع مطبوعاتها واخفائها بعد ان أعطت عكس ما ارادته منها.

اما الوالد فقد تعرّض لحملة قاسية من تجار السياسة في المنطقة، وهجمات العروبيين وتجريح رجال الدين، وكان رده على رجال الدين خاصة، قائماً على أسس مذهبية تقول بأن الحكومة المدنية المختلطة هي الحل في وجه الحكومة الدينية الواجبة والمؤجلة حتى قيام الإمام الثاني عشر الذي يمثل فقط رمزاً لعدالة غائبة، وان فترة الانتظار علينا ملؤها بالتعامل مع حكومات نشارك في تأليفها. المذهب الشيعي الإمامي يقول بعد الانخراط في حكومة غير حكومة الامام المنتظر. وهي نظرية تقول بان الدستور الوضعي هو الفصل الذي علينا ان نعمل بموجبه بصرف النظر عن جنسية الحاكم الدينية طالما تحكم النظام قوانين يضعها الشعب، وهذا ما قرّبه من الحزب وشبابه الذين يلتقيهم ويحاورهم ويبارك لهم النظام العلماني. اتسعت الحلقة من الشباب، كماً ونوعاً، هم كانوا على يقين بعضويتي في الحزب، وكان اشدهم إلحاحاً للانتساب الرفيق المرحوم وجيه عبادي، والذي كان دائم التردد الى بيروت، وبالتالي كان هدفاً للمضايقات من قبل عناصر حزب النهضة "جماعة الاسعد" المهيمنين على الوضع والمتحكمين بإرادات الناس، معتبرين كل من لا يخضع لرغباتهم يستحق شتى أنواع العقاب، ولهذا كان الرفيق وجيه تواقاً لكسر حلقة التسلط القائم، وكان دائم الشكوى من تأخير انتسابه، وكنت أطمئنه بقرب الموعد الذي لا اعرفه انا نفسي.

بعد عودة له من بيروت، فاجأني بانتسابه للحزب بعد ان اهتدى الى مركز الحزب في مبنى العازارية، حيث تدبر امر مقابلة الأمين جبران جريج منفذ عام مدينة بيروت، وبنفس الوقت تقدم بشكوى ضدي لتقاعسي عن تلبية طلبات الراغبين في الانتساب، وهكذا حمل لي رسالة من المسؤولين من اجل الذهاب إليهم للبحث في امر الشكوى، بعد ان وعدوه بأن الأمور ستأخذ مجراها المناسب في حال حضوري. لقد علمت فيما بعد بأن الأمين جبران استمع إليه مستوضحاً أدق التفاصيل التي تشمل المكان والأشخاص، وصورة مفصلّة عني، حيث كانت مفاجأة لهم هذه الحالة المستجدة والتي لم تكن مطلقاً في حسبانهم. غير اني ذهبت إليهم بعد بضعة أيام برفقة كل من محمد عبد الكريم، إسماعيل الزين ومحمد كامل عزالدين. لقد خشيت من انكشاف أمري لهم، بأني لست منتمياً للحزب حتى ذلك الوقت.

طلبت منهم الجلوس في صالة الانتظار المؤدية الى مكتب المنفذ العام، الذي طلبني حالما عرف بوجودي. كان دخولي الى مكتبه خطوة نحو عالم جديد صبغ القادم من أيام حياتي، كما اسدل الستار على ماضٍ غير مأسوف عليه.

استقبلني من وراء مكتب متواضع في زاوية غرفة فسيحة، كما جلس في الزوايا الأخرى من المكتب كل من الأمين إبراهيم يموت، ورفيقة في أواسط العمر لا يحضرني اسمها، لكني أذكر جيداً انها حظيت باحترام كبير من كل من تعامل معها. استقبلني الأمين جبران مصافحاً تعلو وجهه ابتسامة عريضة، قائلاً نحن بانتظارك منذ مدة، وها قد رأيناك أخيراً. ابتسامته، ترحيبه، وتقديمي للحاضرين معرّفاً، كل هذا بدد حالة التردد ووطأة الارتباك لديّ، وما إن انكسرت حالة الخشية تلك، حتى شعرت وكأننا قد تعارفنا منذ زمن طويل. أثنى على حسن تصرفي في إخفاء بعض الحقيقة، وصوّر لي انها كانت خطوة جديرة بالتقدير، وأني لم أقم بخداعهم، وعملي ذاك لا يقع في خانة التغرير، موضحاً لي صورة لقائه مع الرفيق وجيه عبادي، وأن لديه من المعلومات التي تحيط بالواقع القائم في "كفرا"، كما وأنه من الأفضل عدم كشف الأمر الآن.

هكذا أدخل الى المكتب كل من اتى برفقتي، وبعد التعارف والتحادث وشرب القهوة، حانت ساعة الانتساب، فدعي الأمين إميل رعد الذي كان يشغل عميد عبر الحدود آنذاك، فقام بالتعريف قبل ان نصطف نحن الأربعة، ويبدأ الأمين جبران بتلاوة القسم، لنردد بعده ويمين كل منا مرتفعة زاوية قائمة. تقبّلنا التهاني وتركنا المكان وكلنا اعتزاز بما فعلنا، ورغبة في العمل كي نرتفع لمستوى الشرف الذي اسبغه علينا الانضمام الى حركة تساوي وجودنا.

وبعد فترة وجيزة أصبحت "كفرا" منطلقاً للعمل الحزبي في القرى المجاورة، فانتسب للحزب شباب من بلدات "ياطر" و "صديقين". اثار وجود الحزب في كفرا عداء الزعامات التقليدية والدينية في المنطقة، ظهر عنفها في ما بعد، وأبان اندلاع ما سمّي بالثورة الشعبية سنة 1958. اما الشيخ، الذي كان مقيماً في بيروت مدرّساً في الكلية العاملية، فقد طرد من بيته بالبسطة، وبعد ان نهب البيت، عاد الى "كفرا" ليعاني من عداء رجال السياسة والدين معاً.

ها أنا وبعد مرور كل تلك السنين، أعيد النظر في تفكيري وقناعاتي، فأجد حضوراً قوياً لوالدي ولسعادة، الأول بعمامته كرجل دين يدعو الى الانفتاح على ما يخدم الدولة والوطن، كما يدعو الى ما يشرّف الدين بفصله عن السياسة.. والسياسيين. والثاني ما زال ماثلاً بجبينه المقطّب ونظراته الحادة تستشرف القادم من الاحداث، وتؤكد عزمه على مخاطبة أجيال لم تولد بعد. وشفتان نطقتا بأن الحياة كلها، وقفة عز فقط".




 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024