الزعيم في سان باولو عام 1947
شهدت مدينة كوريتيبا (ولاية بارانا) كما العديد من مدن وبلدات "القارة البرازيلية" حضوراً حزبياً جيداً كنا نأمل ان يكتب عنه الأمناء والرفقاء الذين نشطوا وتولوا المسؤوليات، بدءاً من الأمين وليم بحليس، والرفيق نجيب عسراوي، فيضيفون الى ما كان تركه لنا سعاده من ارث كبير لتاريخ العمل الحزبي في فترة تواجده مع والده الدكتور خليل سعاده، الى ان غادر البرازيل في العام 1930 (فوصوله الوطن في 30 آذار) ثم في الفترة التي عرفت بسنوات الاغتراب القسري.
باستثناء ما كتب الأمين نواف حردان، وما سعيت اليه في فترة تواجدي لمدة قصيرة في البرازيل، لكان ضاع الكثير من تاريخ الحضور الحزبي الرائع في البرازيل، تماماً كما ضاع حضوره في العديد من بلدان المهجر، بسبب عدم تنبه الرفقاء، سابقاً وحالياً ، وبالرغم من الكثير من السعي والمتابعة المطالبة.
أثناء اقامتي في البرازيل قمت بزيارة مدينة كوريتيبا أكثر من مرة. التقيت عدداً كبيراً من الرفقاء أذكر منهم زكي زريق(1)، نايف حماتي(2)، أكرم قانصو(3)، مارون سرور(4)، وفي مدينة بونتا غروسا المجاورة، الرفيق رامز عيسى(5).
كنت التقي ايضاً المواطنة الصديقة المحامية عليا حداد، الناشطة في الجالية وفي اتحاد المؤسسات العربية البرازيلية (فياراب) والتي تولت رئاسة فرعه في ولاية بارانا.
في كوريتيبا هذه، قطنت السيدة فكتوريا صليبي بوراجي معلوف(6)، وفيها تعرفت على سعاده، الشاب قبل عودته الى الوطن عام 1930، فتأسيسه الحزب.
قمنا بزيارتها الى منزلها في سان باولو، التي انتقلت اليها بعد زواجها من قريب لها من آل ميماسي، كي نسألها كيف عرفت أنطون سعاده، ومتى .
وكان لنا مع السيدة فكتوريا معلوف الحديث التالي الذي نشرناه في العدد الخاص الصادر عن سورية الجديدة عام 1983:
" كان شقيقي رشيد معلوف يقيم في مدينة كوريتيبا، عاصمة ولاية بارانا، وكان صديقاً لأنطون سعاده.
ذات يوم من عام 1926 وصل أخي برفقة شاب وسيم الطلعة وقدّمه الي قائلاً بأنه أعز صديق له وسوف يقيم عندنا في البيت وعلي أن أعامله كأنه من أفراد العائلة.
فانصعتُ للأمر وصار الشاب (أنطون سعاده) كأنه واحد منا. أقام عندنا في البيت، شارع ماريشال فلوريانو، قرابة العام. وكان لدى أخي رشيد مكتبة كبيرة تضم عدداً من الكتب والمجلدات بالعربية والبورتغالية. كان سعاده يقضي كل النهارات ومعظم الليالي يدرس ويطالع. وكثيراً ما كان ينسى مواعيد تناول الطعام فينام والكتاب بين يديه.
كان نخلة جبران، ابن عم جبران خليل جبران، من اصدقاء اخي رشيد في كوريتيبا، وقد كان يراسله دائماً، فيُطلع سعاده على رسائله والأجوبة الجبرانية عليها. كما كانت له صداقات مع يوسف جبران والشاعر الياس فرحات وخليل كرم واخوته بشارة وجوزيف وجورج، وراجي الشويري وأخيه فضل الله الشويري، وتوفيق قربان وليندا تبشراني. كان هؤلاء الأدباء يجتمعون في بيتنا يتباحثون ويتناقشون في الأدب والشعر. وكان سعاده دائماً قطب الدائرة يطرح عليهم الاسئلة الصعبة التي يدور حولها النقاش ويشتد الجدل.
- حدثينا عن تصرفات سعاده
• كان ينهض صباحاً باكراً ويمارس الرياضة البدنية ويقوم بالتمارين الصعبة. وأذكر أن أخي رشيد كان قد سافر مرة، وطالت سفرته. فكتب سعاده اليه رسالة طويلة يبدي فيها قلقه لتأخره، فأجابه رشيد برسالة مختصرة يقول فيها بأنه سيعود بعد أيام قليلة، فعاد سعاده وكتب اليه ما يلي:
يا رشيد ما كان شرط
تكتبلي ورقة صغيرة
كأنو مكتوبي فرط
ومكتوبك عملة كبيرة
أذكر أيضاً بأنه شجعني مرة على حفظ قصيدة صعبة الالفاظ. واعداً أياي أن يهديني اشتراكاً بمجلة "الرجال والنساء" التي كانت تصدر في مصر لصاحبتها روزا حداد أنطون، شقيقة فرح أنطون، فحفظت القصيدة ونفذّ سعاده وعده باهدائي المجلة التي يبدو أنه كان يراسلها. وكثيراً ما كنت أراه مرحاً خفيف الروح يداعب مخاطبيه ويحكي لهم النكات الادبية. وكان يسميني "العباسة أخت الرشيد" ويقول اذا رآني حزينة: " زعلت العباسة وقطبت جبينها ". وكنت أجد صعوبة في دعوته لتناول الطعام وهو غارق في الدرس والمطالعة.
- هل بامكانك تفسير تلك الصداقة التي كانت بينه وبين أخيك رشيد؟
• كان التفاهم بينهما يبلغ أقصى حدوده وكان أخي يقدره ويحترمه ويحبه كثيراً، وعندما كان يستقبل أحداً في بيتنا كان يقول عنه، بأنه "انسان فوق العادة" لكثرة ما كان معجباً به. فكنت أقول له:"بدك تِخوَت بسعاده". وكانا يختليان وحيدين في المكتبة ويقرآن ويتحادثان همساً كأنهما يستعدان للقيام بمشروع خطير او يتآمران على الدولة. وعندما كانت خلوتهما تطول وينسيان الدنيا، كنت أحمل اليهما القهوة فلا يشعران بوجودي ويتابعان أحاديثهما التي كانت بالنسبة لي كالرموز والاحاجي.
- هل رأيت سعاده بعد ذلك؟
• كلا. عاد الى سان باولو فلم أعد أراه الا عندما عدت الى الوطن بعد وفاة شقيقي رشيد. كنت أزور أقرباء لي في حي فرن الشباك في بيروت عام 1936 أو 1937 فرأيت حشداً كبيراً من الناس. وعندما سألت عن السبب قيل لي ان "الاستاذ" يخطب في البيت المجاور، وعندما نزلت الى الشارع بعد ساعة رأيت شاباً يخرج من ذلك البيت ويتحلق حوله عدد من الشباب يحرسونه. وكم كانت دهشتي كبيرة عندما عرفت بذلك "الاستاذ" انطون نفسه. فاندفعت نحوه وأنا أقول له: " أهذا انت ؟ " فعانقني وبكيتُ كما ذرفت عيناه دمعتين حارتين وقال لي: " لم أكن أتوقع أن نخسر رشيد بهذه الطريقة المحزنة ".
وكان يقصد أخي رشيد الذي كان قُتل في البرازيل برصاص غادر. ودّعته وانا متعجبة لذلك الحشد الكبير الذي يحيط به. كان الناس يطّلون من نوافذ البيوت ليروه، والشارع مكتظ بالجماهير.
***
(*) عممت هذه النبذة بتاريخ 05/06/2015، نعيد تعميمها لمزيد من فائدة الاطلاع
هوامش
1) من الهرمل. تولى أكثر من مرة مسؤولية مدير مديرية كوريتيبا. تاجر معروف وله حضور جيد في اوساط الجالية.
2) من الكيان الشامي، رفيق نشيط، تولى مسؤوليات محلية في المديرية.
3) من الهرمل، ابن شقيقة الرفيق زكي زريق.
4) من الاشرفية كان "الثنائي" في كوريتيبا مع الرفيق زكي زريق، نشاطاً حزبياً وحضوراً في الجالية.
5) من بلدة "جب جنين" كان رفيقاً واعياً، ومثقفاً وناشطاً، على الصعيد الحزبي، وفي الجالية.
6) مواليد بلدة "شليفا" (بعلبك) عام 1907 ووصلت البرازيل عام 1920.
|