إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الأمين اسد الأشقر: مقدمة كتاب يوسف مروة

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2023-03-17

إقرأ ايضاً


فيما كنت اراجع بعض الملفات لدي عثرت على المقدمة الذي قدّم فيها الأمين اسد الأشقر كتاب الرفيق يوسف مروة عن العالم السوري محمد كامل صباح بمقالة يتحدث فيها عن مرارة الاغتراب، عما قدّمته أمتنا لحضارات العالم وعن دور الحركة السورية القومية الاجتماعية .

منها نقتطع أهم ما ورد.

ل. ن.

*

" أذكر اني كنت في فريتون _ سيراليون، الشاطئ الغربي الافريقي، عندما قرأت في مجلة "السمير" الصادرة في نيويورك 1935 خبر وفاة كامل الصباح. لم أكن قد سمعت باسمه من قبل. ولكني اذكر جيدا ان قراءتي الخبر، حسبما وصفته مجلة "السمير" أثارت في نفسي تياراً من الألم والعز والفخر يجتاح كياني وانا مرمي في ارض نائية بلا أمل ولا رجاء ولا كرامة قومية. اذكر اني كنت اتألم منذ عشر سنوات. تنتابني عضات نفسية في لا وعي تائه، معذب. أقضي أربع سنوات في مدرسة في فرنسا، حيث أرى الناس ينظرون إليّ من علً كأنني قزم بين عمالقة، وأنا اشعر ان في حيوية هذا القزم يكمن عملاق صامت.

" ثم أقضي سنة في مدرسة المانيا حيث أرى الناس في غليان قومي دائم، وفي نشاط حيوي متواصل، يبنون وطنهم وأمتهم وأنفسهم كأنهم في "ورشة" بناء قومي لا تنتهي، وكنت من قبل قرأت خبر وفاة جبران خليل جبران في أميركانية 1931 فشعرت بهذه الآلام الى حد طغى عنده اليأس على حياتي فأمسيت أراني ميتاً في عالم من الاحياء الناهضين.

وانتقلت الى أفريقية أفتش عن الثروة، والثروة المادية لم تكن يوماً لتخفف آلاماً نفسية مستحكمة، لها أسباب أساسية تصغر أمامها كل مادة.

عظيمان من أمتي يسقطان في الامصار الغربية، بعيدين عن وطنهما، منفصلين عن أمتهما.

" هكذا يشرد عظماء الأمم التي فقدت سيادتها، وتلاشت قيادتها فأمست كسفينة بلا ربّان ولا شراع ولا مجاذيف، عظيم منها بعد ان كتب "يوحنا المجنون" و "خليل الكافر" و "مرتا الزانية" فحرّك مكامن الحيوية في أمته، يهمل لغته القومية ويكتب بالانكليزية ويموت بعيداً عن أمته، وعظيم آخر يعمل في شركة أميركانية يحاربه زملاؤه لأنه غريب وصرع في حادث مغمور بالاسرار.

" هكذا تتبخر حيويات الأمم التي فقدت مقاييس الإبداع والتفوق، جبران، الأديب الاجتماعي الخالد يمسي كاتباً خيالياً بعيداً عن المعقول والواقع، والصباح العالم في اسرار الطبيعة والنواميس يضطر ان يكون موظفاً في شركة أميركانية!

هل هذه الأرض التي هجرها عظيمان من أمتي، وهجرتها انا ومئات الألوف من بني قومي هي ارض فقيرة، مجدبة. وهل نضبت في أمتي حيوية التجدد والبقاء فأمست عناصر بشرية تتفكك، وتتبعثر في مجتمعات العالم لتنصهر وتندمج في أمم هي أجدر بالبقاء ؟!

" هذا ما ساءلت به نفسي عندما قرأت خبر مصرع كامل الصباح في اميركانية منذ ربع قرن. فهل كنت وحدي متألماً بين الملايين من المواطنين المغتربين والمقيمين؟ كلا لم أكن أنا وحدي! كنت أشعر ان الالام نفسها كانت تنتاب الألوف من المغتربين الذين اعرفهم...

وبعد أشهر من مصرع الصباح ظهرت في أمتي نهضة قومية اجتماعية كانت غائمة في وجداني اللاوعي المتألم. هي النهضة السورية القومية الاجتماعية التي حفزت وجداننا من لاوعيه، وأطلقته يحقق وجوداً متجدداً لهذه الأمة العظيمة. ومن هنا كانت وحدة قومية جديدة بيني وبين يوسف مروة، وهي هذه الوحدة القومية التي أعطتني أفضلية كتابة هذه المقدمة.

" فكامل الصباح لم يعد في نهضتنا، تراثاً لبلدة، او لطائفة، او لدين من بلادي، بل اصبح لأمته السورية المجيدة.

من طبيعة النهضات القومية الكبرى ان تجدد الحياة في كل معالمها، وان تعطي المقاييس والمفاهيم القومية الاجتماعية نواميسها الاصيلة، وان تعطل فعل العوامل الانحطاطية الطارئة على المجتمع في مراحل انخفاضاته المخيفة.

هذا ما بدأت بفعله وتحقيقه هذه النهضة القومية العظيمة.

" عجيب شأن هذه الامة، تجازف بحضارتها وبأبنائها منذ كانت خيّرة، سخية، لكأنها تطوعت، منذ وعت رسالتها الإنسانية، لتهدر حيوياتها في سبيل الغير. وكأنها لم تتعلم درساً في العودة الى ذاتها، والاختزان لحياتها!

أعطت اليونان حروف الحضارة من منائر ليست صور إلا إحداها، فكان جزاؤها زحف الاسكندر غازياً، مدمراً، يغيّض ينابيع المدنية تحت أنقاض صور وفي خرائب مكتباتها! وأعطت الرومان مبادئ تحضرهم وارتقائهم فانقضوا برابرة يقوضون منائر قرطاضة المشعة على الغرب بأنوار حضارة هي أم مدنيته الحاضرة.

" واطلعنا لها المسيح ليفجر في نفسها ينابيع المحبة والايثار والرحمة فلم تنضح نفسها إلا بالبغضاء والاثرة والعدوان.

وأعطيناها محمداً يتّم رسالة الإسلام، فيحطم ما تبقى وما تجدد فيها من اوثان، ويدعوها بنداء من تاريخنا الى ما كابرت فيه لتنتبه وتمضي في ما خططنا من طريق تحقق عليها إنسانية الانسان، فما لبثت ان عادت الى انانية الجاهلية تنقسم الى طبقية أين منها القبلية، وتصطنع من المادية ألوهية أين منها الوثنية!

وهل يقدر هذا الغرب، وهو ربيب أمتنا، يرد إلينا اليوم بعض ما أعطيناه بالأمس، ان يدعي تعليمنا وإرشادنا ؟!

" نحن أعطيناه الحرية بكل معانيها، هو يحاول ان يمرسنا على العبودية.

نحن سلحناه بالروح والتوجيه وهو يحاربنا بالحديد والنار!

نحن أعطيناه الكلمة تشع بحرارة الايمان بالحياة وما بعد الحياة، وهو يفرض علينا الكلام الذي يعقم فينا إيماننا بالإنسان وبنفسنا!

ولكن الأمة التي أعطت بالأمس كل هذا العطاء هي جديرة بأن تستأنف عطاءها وان تضع حداً لما يفرض عليها من مقاييس ومفاهيم مخربة.

في الثلث الأول من هذا القرن أطل جبران والصباح على العالم فكان فجر جديد، وإطلالة مشعة لشخصيتنا، أوقفت أميركانية مبهورة، مندهشة من إنتاج أمة كانوا يتخيلونها بدائية، بدوية.

" وتطلع العالم، وحدق في هذه الأرض التي لم يجهل علماؤه أنها "سورية" فوجد مارداً سورياً جديداً لم يقبل ان يعطي إنتاج عبقريته على أرض غير أرضه وفي أمة غير أمته، فوقف على قمة من قمم لبنان المطلة منذ الازل على العالم، وهتف بصوت كأنه القضاء والقدر:

"إن في النفس السورية كل علم وكل فن وكل فلسفة في العالم"

وعندما كان بين المغتربين مواطنيه، المبددين في أقاصي الغربة قال لهم:

"إذا لم تكونوا أنتم احراراً من أمة حرة فحريات الأمم عار عليكم".

ذلك هو سعادة باعث النهضة السورية الجديدة ورائدها.

" بالأمس البعيد، على ممر قرون لا تعد، أعطينا العالم بدون حساب، فكان من الأمم ان اخذت ولم تعترف بعطائنا.

إن النهضة السورية القومية الاجتماعية تصلح أخطاء خمسين قرناً من حياتنا المستمرة والأمم العظيمة الخالدة هي التي تعرف كيف تأخذ من أخطاء ماضيها عبراً لحاضرها وآتيها، فتصبح حياتها منذ بدئها وحدة متماسكة، لا تبطرها الانتصارات فتعربد، ولا تسحقها النكبات فتخنع".

في 5 أيار 1959 أسد الأشقر

*



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024