في تاريخ سابق عمّمنا نبذة عن الرفيق الأديب يوسف حداد(1).
وفي وقت سابق عمّمنا عن الاحتفال الحزبي الحاشد الذي أُقيم في "الضبية"(2)، وأوردت أني استمعت لأوّل مرة إلى الرفيقة أدال نصر(3) تصدح بصوتها الرائع نشيد "موطني يا توأم التاريخ".
وأيضاً كنت عمّمت عن الرفيق المناضل جبران الأطرش(4) وآمل أن أعمّم لاحقاً ما كان ورد من الرفيق الراحل موسى جرجس المعروف بـ"أبو جورج".
في كثير من النبذات، تحدّثت عمّا كابدته من عناء وجهد ومتابعة وعقوق وتغاضٍ في موضوع تاريخ الحزب الصادرة رقم 85/5/68 التي كنت وجّهتها إلى الرفيق سعادة صالح سوداح(5) في تورنتو بشأن الرفيق يوسف حداد، توضح جانباً ممّا أشرت إليه، وأكثر عن المتابعة التي قمنا بها مع عدد كبير من رفقائنا من الجنوب السوري في الوطن ومناطق عبر الحدود في سبيل أن يدوّنوا، إلى سيرهم الحزبية، معلوماتهم ومرويّاتهم، ونحن هنا نودّ أن تُوجّه مرّة جديدة، دعوتنا إلى حضرة الأمين الشاعر فؤاد شريدي، في سدني، كي ينجز كتابه عن "ملحمة" نزوحه من فلسطين إثر النكبة، وأيضاً إلى حضرة الأمين د. عدنان أبو عمشة في دمشق(6)، الذي نوجّه له التحية السورية القومية الاجتماعية والكثير من حبّنا وتقديرنا.
"منذ زمن وأنا أسأل أين الرفيق يوسف الحداد، إلى أن قرأت في عدد المشرق تاريخ 24/3/2000 أنّه في سان ديماس، كاليفورنيا.
أعرفه عندما كان في الوطن، وأعرف أنّه كان ملتزماً بسويّة جيدة من الوعي والإدراك، ثم غاب بفعل الأحداث الدامية، ولم أعد أعرف عنه أو أسمع شيئاً.
إذ آمل أن تنقل له سلامي القومي الاجتماعي وتقديري العميق له، أرى أن تبحث معه الأمور التالية:
1- تزويدنا بكلّ ما يفيد تاريخ نشوء الحزب في فلسطين، ومشاركته في الأحداث النضالية التي حصلت.
2- أن يسجّل الرفيق يوسف ذاتيّته الحزبية، حسب الجدول المرفق.
3- دعوته إلى كتابة مذكّراته الغنية، وإلّا تسجيل مرويّاته ومعلوماته الحزبية بما يفيد تاريخ الحزب، وفي حال زيارته تورنتو، البحث مع حضرة المدير في تكليف من يسجّل / يدوّن ما يرى الرفيق حداد تسجيله على شريط أو تدوينه.
*
من كتابه "فلسطين في الادب المهجري" اخترنا التالي:
المحتويات:
- الاهداء
- المقدمة
- مدخل:
• الهجرة والادب المهجري.
- القسم الأول:
• الادب الوطني والقومي في المهجر الشمالي
• إيليا أبو ماضي
• نسيب عريضة
• امين الريحاني
• متفرقات وطنية وقومية في المهجر الشمالي
- القسم الثاني:
الادب الوطني والقومي في المهجر الجنوبي
• الياس فرحات
• رشيد سليم الخوري
• أبو الفضل الوليد
• نصر سمعان
• زكي قنصل
• إلياس قنصل
• جورج صيدح
• جورج كعدي
• د. خليل سعادة
• أنطون سعاده
• يوسف صارمي
• عبد اللطيف الخشن
• متفرقات من الادب القومي في المهجر الجنوبي
- المصادر
- الصحف والمجلات
*
الاهـــــداء
الى الادباء المهجريين الذين حملوا هموم الوطن على مناكبهم، فكانوا جنوداً أوفياء لقضاياه.
الى هؤلاء بلسان فلسطين أقدم هذه الدراسة عرفاناً بالفضل وتقديراً للنضال.
*
مــقـــــدمــــــــــــة
تعددت الدراسات والأبحاث التي تناولت الادب المهجري من جوانب مختلفة، فبعض هذه الدراسات انصب على تعليل ظاهرة الهجرة وسرد سيرة الادباء المهجريين، وعرض مجمل انتاجهم، وبعضها انحصر في ابراز مظاهر التجديد في المعاني واللغة والأساليب، في حين حصر بعض الدارسين اهتمامهم بالشأنين القومي والإنساني اللذين ظهرا بقوة في ادبيات المغتربين، على ان آخرين تناولوا في دراستهم شخصية أدبية مهجرية دون سواها.
والظاهر للعيان ان شعلة الادب المهجري في طريقها الى الاحتضار، فالرعيل الأول من المهاجرين حمل معه الى العالم الجديد الوطن الأول بهمومه وقضاياه، بشؤونه وشجونه، فلم تنقطع صلته به رغم ثنائي المسافات. فاذا احداث هذا الوطن تصبح سدى الادب المهجري ولحمته، واذا تياره يبعث في جميع الجوالي المهاجرة من المشرق العربي عبر الأندية والأحزاب، والصحافة روح الوطن ولغته وهمومه ومتاعبه بحيث بات المغتربون يتقاسمون مع المقيمين الاماني والامال، الالام والاحزان، ولشدة تمسك الادباء بقوميتهم وتراثهم ولغتهم نراهم يختارون لصحفهم أسماء عربية فمن "سوق عكاظ" الى "الاصمعي" الى "الضاد"، وكذلك فعلوا بالنسبة للمجلات التي اصدروها فمن "الشرق" الى "المراحل" الى "المواهب"، وهذه التسميات تندرج على معظم دواوينهم فمن "الروافد" الى "الانفاس الملتهبة" الى "السهام". وحتى على الأحزاب التي انشأوها، فمن "الرابطة الوطنية السورية" الى "الاتحاد العربي" الى "كتلة الدفاع الوطني". كل ذلك يوضح بلا لبس ولا غموض انهم حملوا الوطن الى المهجر رافضين الانسلاخ عن مشرقهم والذوبان في المغتربات.
بيد ان هذا الرعيل من الادباء المغتربين قد اخذ يختفي عن المسرح فالبعض عاد الى الوطن وقد هدت كاهله الشيخوخة، والبعض لاقى وجه ربه. وهكذا يبدو ان هذه الومضة المضيئة في طريقها الى الزوال. فالجيل التالي المتوالد في المغترب اخذ ينصهر في المجتمع هناك، وبدت له اللغة القومية لغة غريبة غير مفهومة، فضعفت رابطة العصيبة، واخذ الترابط بالوطن يتلاشى، وسيأتي اليوم الذي نرى فيه ظاهرة الادب المهجري كظاهرة الادب الاندلسي.
إن ما يلفت النظر في أدب المهجر الجنوبي هو انه أدب مقاتل، أدب صراع مرير ضد أعداء الوطن في الداخل والخارج، أدب التزام بقضايا الوطن وتطلعاته. ففي الداخل كان التوجه نحو معالجة الامراض الاجتماعية من طائفية وعشائرية وإقليمية، وفي الخارج كان هذا الادب بركاناً ثائراً يقذف حممه على الغرب ممزق وحدة الوطن ومثير الفتن فيه، وموجد "إسرائيل" في قلبه خنجراً لا يزال جسد الوطن منه نازفاً.
واذا كانت قضايا الوطن وهمومه كثيرة، فإن القضية الفلسطينية هي محور هذه القضايا، ومركز الدائرة فيها. فلا غرابة ان تكون شغل ادباء المهجر الشاغل، فلقد سهروا الليالي أرقاً، وذرفوا الدموع حزناً، واكتووا بنار الهزائم والتشريد، فامتشقوا اقلامهم سيوفاً يقاتلون بها معسكر الأعداء دون ان تضعف لهم همة او تلين قناة.
ان هذه الدراسة محصورة بجانب واحد من الادب المهجري، هو الجانب المتعلق بالشأن القومي والوطني والذي كانت فلسطين فيه قبلة الأنظار ومحط الاهتمام. "فنكبة فلسطين لا يماثلها لدي نكبة ما في الأرض ولا السماء. كل خطب مهما فدح يهون بالنسبة إليها. وكل انسان عربياً كان أم غربياً لا يحزن ولا يغضب ولا يثور فقد تجرد من كل شعور، ومن كل إنسانية، وكل دين، فويل لكتبة وفريسي هذا الزمان الذين يبشرون بالسلام العالمي ومعظمهم يعيش في قلب المأساة ويسبح في دمها، ويكرزون بالانسانية وهم يرونها تتألب عليهم في جميع أطراف الأرض لتعركهم بأرجلها عركاً وتسحقهم بنعالها سحقاً وتجعلهم عصفاً مأكولاً". هذا ما يقوله القروي.
فهل لادبائنا في الوطن ان يأخذوا بهذه المقولة، بحيث يصبح الالتزام بالقضية أهم من الانصراف للفن، ويصبح الحس القومي اهم من الحس الإنساني والتأملي الشارد.
اننا نعيش معركة مصير، فإما وجود او لا وجود، ومتى حسمت المعركة ايجابياً، فللأدباء ان يحلموا بما يشاؤون، وإن يتغنوا بما يريدون. ولا مجال اليوم للبقاء خارج ساحة الحرب.
*
متفرقات من الادب القومي في المهجر الجنوبي
لم تكن الإحاطة بمجمل من الادب المهجري ممكنة لتتبع المنازع القومية فيه والفلسطينية بشكل خاص، وذلك بسبب استحالة الحصول على كافة المصادر المطلوبة من كتب ودواوين وصحف ومجلات، ناهيك بوفرة الإنتاج وظهور بعضه بالاسبانية والبرتغالية.
ذاق معظم هؤلاء الادباء مرارة ظلم العثمانيين في حداثتهم قبل رحيلهم الى المغتربات، وربما كان هذا الظلم عاملا من عوامل الهجرة. من هنا تعالت صيحاتهم لدفع هذا الظلم، والتخلص من نير العثمانيين. فجورج عساف احد فرسان "الرابطة الأدبية" في الارجنتين عاين مظالم عبد الحميد وأشار الى رميه للاحرار في لجج اليم:
هذا هو البحر الذي حدثت عن شهدائه، هذا هو البوسفور
في جوفه الاسرار بل في جوفه ما شاء "يلدز" واصطفى المقدور
أمواج للصالحين مضاجع حيتانه للصالحين قبور
نشبت الحرب العالمية الأولى وانحاز العرب فيها الى جانب الحلفاء بزعامة شريف مكة الحسين بن علي آملا في الحرية والاستقلال، فلقد طما ظلم الاتراك بعد عبد الحميد وزاد، وجاء انتقام السفاح جمال باشا بشنق عشرات المناوئين للاتراك. الامر الذي اغضب الشاعر جورج عساف، وزاد في غضبه استكانة العرب وعدم اخذهم بالثأر للشهداء:
السيف قاض صارم لا يشفق والرمح مولى حائر لا يرفق
هذا العجاج فدونكم فسطاطه ان كنتم ممن يعيش ويرزق
يا ويل امكم!! أأنتم أمة؟! أم أنتم خلف الممالك ملحق
في حين نرى الشاعر الحمصي المغترب في البرازيل ميشال مغربي(7) يلتاع من الفاجعة، ويرى ان مصير الشهداء جنان الخلود:
سلام الله يا شهداء ارض جوانبها تميد في التياع
لئن نالت جسومكم المنايا ووارتها بأكناف البقاع
فان نفوسكم في كل ارض تسير من الخلود على شراع
انتهت الحرب العالمية الأولى واخذت تتكشف نوايا الغرب الحليف، وبدأ يظهر للعيان خيانته للعهود والوعود التي قطعها للعرب، وفي مؤتمر الصلح المنعقد في فرساي عام 1919 ازداد تنكر الحلفاء وبدا جشعهم الاستعماري يتوضح، والى هناك "يحملنا الشاعر جورج عساف... حيث يصور لنا المستعمرين كالعناكب ينصبون شباك الصيد، ليوقعونا فيها، وكانت في جملة احابيلهم اختراع كلمة "وصاية" التي ليست الا استعماراً مقنعاً وخداعاً ودجلاً".
زمان مدوا لنا والصيد مطمعهم كالعنكبوت (بفرساي) الاحابيلا
قالوا: الوصاية وانسلوا بعصبتهم خلف الستار يحيكون الاضاليلا
يا للخيانة هل كانت وصايتهم الا خداعاً وتمويها وتدجيلا
لقد رحل مستعمر وجاء مستعمر آخر امر وادهى، فالمستعمر الأول لم يعمل على تجزئة بلدان العالم العربي، ولم يسمح للصهاينة بالتسلل الواسع الى فلسطين، في حين ان المستعمر الجديد حليف الشريف اوجد التجزئة التي ما زالت مكرسة حتى اليوم واغدق وعد بلفور ثم اقام كيان الاغتصاب "إسرائيل".
وهكذا نجد ان النقمة على الغرب المخادع أصبحت أشد من النقمة على الاتراك، فهذا الدكتور جورج صوايا صاحب مجلة "الإصلاح" وعضو الرابطة الأدبية في الارجنتين يفضح غدر الغرب ويرى انه لا مندوحة عن استخدام القوة ضد هذا الغرب الجاني لتقليم براثنه، وها هو يخاطب الحسين بن علي ناصحاً إياه باللجوء الى العنف:
اكثر الغرب بالوعود فصدقـ ت الى ان سمعت صوت الرعيد
انت فاخرت بالوفاء البرايا وهم فاخروا بنكث العهود
ليس يجدي كثر التذبذب نفعاً لا يفل الحديد غير الحديد
امة سوف تحمي حماها من بني الغرب في الليالي السود
ويموت الشريف حسين وفي قلبه جراح من رماح الغرب الغادر، ويتحرق الشاعر المهجري احد ادباء العصبة الاندلسية على موته وعلى غدر الغرب به، ويوصي شكرالله الجر بعدم الاستكانة للاحتلال الأجنبي ويدعو للنهوض والثورة ضد "الاوصياء".
كونوا بني امي لهذا الموطن المنكود اسده
كادت ذئاب الغرب من كلب تمزق عنه جنده
هبوا بني امي الى سحق الرؤوس المستبدة
هبوا فان الغرب جنّد للخطوب الدهم جنده ......
واننا لنجد بعض الشعراء الذين كانوا يتعاطفون مع فرنسا يريدونها ان تكون غير مخادعة، ويلحون في حفظ وحدة الوطن وعدم استعباده، فهذا محبوب الشرتوني المغترب في المكسيك يخاطب فرنسا قائلاً:
اريد لشعبي منك حبيباً نزيه المودة لا يمكر
واطلب منك صيان بلادي فلا تسترق ولا تشطر
وتزداد النقمة على الغرب بعد قيام وصايته التي سميت بالانتداب، كما تزداد النقمة على صنائعه في المنطقة العربية، فهذا موسى حداد احد الشعراء المغتربين في تشيلي واحد أعضاء "جامعة القلم" يثور على "الوصي" وعلى اذنابه ويقول:
اما للعرب سيف "خالدي" يوحدهم ويجلو الغاصبينا
جزى الله المظالم كل خير ارتنا بيننا الداء الدفينا
وما دسته من ويل وشر بسوريا يد "المتمدنينا"
ومن نكد الزمان ترى اناساً جهالى بيننا متعصبينا
تسومهم "الوصاية" كل عسف وتصفعهم وهم يتبسمونا
لهم من دينهم سيف صقيل يمزقهم امام الطامعينا
ومهما عربد المتدينونا ومهما ارجف المتفرجونا
فهذا العيد عيد العرب طرا وان حسبوه عيد المسلمينا
لكن الاستعمار الذي ثار عليه الشاعر صوايا بقي جاثماً على الصدور، والانكى من ذلك ان بعض الاذناب اخذوا يشايعونه مرتضين الذل والهوان.
جاءت ثورة سلطان باشا الأطرش على الانتداب الفرنسي عام 1925 بارقة امل للتحرر من نير المستعمر والانتقام من غدر الغرب، يموت سعد زغلول وهو يناهض المستعمر والثورة عليه في المشرق العربي لما تنطفيء بعد فيقول صوايا ممنياً النفس بالخلاص منه:
فالشرق ثار وجاش منتقماً يغلي بمرجل صدره الحقد
احنوا الرؤوس معي نعاهده فله يحق عليكم العهد
انّا نحقق حلمه يوماً ونجد حتى يثمر الجد
ومن المغتربات ارتفعت أصوات عديدة تشيد بثورة الأطرش وتندد بالفرنسيين الذين طفح كيل حقدهم وعسفهم. فهذا شكرالله الجر يمتدح الثورة ويستنكر بربرية الفرنسيين ويقول:
بني الغرب ان الشرق هاجت ضراغمه
فهل في بلاد الله اسد تقاومه
تذكر مجد الغابرين فهزه
الى متن العلياء هم يلازمه
لقد ظفر الغربي منك بغاية
وعاثت بكم اطماعه ومظالمه
فكونوا اذا ما اطبق الخطب امة
يؤلف منها الظلم جيشاً يصادمه
فلا تغضبوا اجدادكم في قبورهم
وكونوا يداً فالامر جلّت عظائمه
سل الغرب ما ذنب المدائن والقرى
من الشرق حتى هدمتها هوا دمه
اما جورج عساف فقد صوّر هول النكبة يوم ضربت دمشق، وقصف المسجد الاموي، فأخذ الشاعر يستعيد مجد الامويين والح على المطالبة في العمل لدرء الخطر:
لهفي عليها وقد دكت معالمها لهفي عليها على أبنائها النجب
سل عن مآذنها فيها جوامعها وسل كنائسها فيها عن القبب
بيد ان الامل الكبير بانتصار الثورة قد خبا، فالمستعمر عمد الى القسوة المتناهية والخداع الماكر، وراح الادباء يبحثون عن الدواء الناجع للشفاء من داء الغرب، ويفتشون عن الوسائل التي تحقق الاماني في التحرر والوحدة والتقدم.
*
الدعوات الأدبية للبعث والنهوض
عمد الادباء المهجريون في نتاجهم الادبي الى تشخيص الداء الذي يعاني منه وطنهم والمتمثل في الرزوح تحت نير الاستعمار، إضافة للتجزئة، والطائفية والتخلف، فانصب اهتمامهم على وصف الدواء الناجع والمتمثل بالتحرر، ونبذ الطائفية، والخروج من حالة التخلف والسكون، والتوجه نحو الوحدة، ففيها القوة والازدهار.
فعلى صعيد التحرر توالت دعواتهم لتبيان مطامع الغرب، وإظهار غدره وسوء نواياه، وعلى صعيد الطائفية نجد تشديداً على نبذها وتركيزها على الاهتمام بالأرض اكثر من الاهتمام بالسماء، فهذا الدكتور جورج صوايا يدعو الى الاهتمام بالاوطان اكثر من الاهتمام بالاديان:
حتام تشبثنا يا قوم بذي الأوهام الدينيه
فدعوا الأديان فما هي غير حكاية جهل شرقيه
فلننقذ يا قوم الأوطان من الاخطار الغربية
ويدعو توفيق بربر وهو من أعضاء "جامعة القلم" الى طرح الطائفية جانباً والتعلق بالوطن والقومية، فيقول:
يا ابن الحمى من أي طائفة ومن اقصى مكان في الدنى وزمان
ان جاء يسألك المثير بك الهوى فاذكر حماك وقل: انا لبناني
واقرن عروبته بحبل ولائه فكلاهما بالود متصلان
ان لم تكن كل البلاد فجلها عرب يمت الى بني غسان
وكيان لبنان كسفر خالد منه العروبة ظاهر العنوان
ويقف ميشال مغربي نفس الموقف من الدعوة الى الاهتمام بالأرض، وعدم الاختلاف بين أبناء الوطن الواحد بسبب المذاهب الدينية:
ان ديني ان اترك الدين من اجل بلادي واعبد الأحجارا
وصلاتي ان لا إله سوى ارضي ولو كان أهلها كفارا
الاجل الصليب ترضى بذل أيها الحامل الصليب شعارا
كعبة المسلمين لو كنت حراً كنت تغشاها كعبة للنصارى
وكثيرون سواهم ممن ضربوا على هذا الوتر، ومن المشاكل التي عالجها الادباء المهجريون مشكلة التجزئة وتعدد الكيانات، فشددوا على أهمية الوحدة وضرورتها. فهذا جورج عساف يرى ان الوطن العربي وحدة، وان التقسيمات هي من صنع المستعمر.
لنا وطن للضاد مهما تباعدت
نواحيه لا نرضاه غير موحد
وعساف يرى ان لبنان تعصمه ذراه، وتحميه كتائب العروبة وتدافع عنه دمشق وبغداد ونجد:
تحمي الكتائب لا الحماية ارضه من خائنيه ومن عيون الحسد
لبنان تعصمه دراه وجلق ترعاه ان ينجد وان يتبغدد
اما رشيد شكور فيرى ان لا خلاص للوطن من الاستعمار والذل الا بالوحدة فهي الدعامة الأولى لبناء القوة الذاتية ولصد مطامع الغرب.
ويرى توفيق بربر في تحقيق الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 حدثاً بارزاً يدعو الى التفاؤل:
فقائل انها تحقيق معجزة لمثلها أولياء الامة انتدبوا
وانها وثبة للعرب صائبة ووثبة العرب مكتوب لها الغلب
وقائل انها كانت مغامرة والهاتفون لها ابواقهم ذهب
ويطفح قلب ميشيل مغربي بهذه الوحدة فرحاً، على أمل ان تتسع لتشمل الوطن العربي بأكمله:
قم يا مؤذن فادع الواحد الاحدا
الله اكبر فجر الهاجعين بدا
قل انها وحدة جاءت مبشرة
ان الجنين الذي ترجونه ولدا
لا ينهض الشعب او يعطي كرامته
بين الشعوب سوى ان كان متحدا
لبنان عمان قطر الرافدين الى
ممالك العرب حتى الأطلسي مدى
الى الرياض الى نجد الى عدن
الى الخليج الى الأفق الذي بعدا
تربصت بكم الاضداد فاتخذوا
من التضامن درعاً واكثروا عددا
ان اللغة العربية بما تحمل من تراث هي عامل وحدوي وقومي وفي الوحدة الارتقاء والقوة، هذا ما يراه شاعر "بساط الريح" فوزي المعلوف:
فلتحي قومية كانت لنا نسبا يضم اشتاتنا ما فاتنا النسب
تالله لا نرتقي الا متى اتحدت تلك المآذن في الأوطان والقبب
ولتستعد لغة الضاد التي دعيت ام اللغات شباباً برده قشب
ان لم نكن كلنا في اصلنا عرباً فنحن تحت لواها كلنا عرب
ومن عوامل الترابط الوحدوي الاهتمام بالعروبة كرابط قومي، والتشدد بالاعتزاز بها ماضياً وحاضراً، فهذا محبوب الخوري الشرتوني يعرب عن محبته للعرب وتعلقه حتى ببداوتهم وعنده لثم تراب الشام نعمة من السماء.
وممن تغنى بالعروبة وهم كثيرون موسى حداد، قامته هي دينه وامه وابوه في العسر واليسر.
انا سوري وفي جنبي قلب عربي
رغم انف العسر واليســــ رو رغم النوب
أمتي ديني وايماني وامــــــي وابــــــــــــــــــي
*
الادبيات الفلسطينية
بدأت المخاوف في العالم العربي من الخطر الصهيوني تتزايد يوماً بعد يوم منذ وعد بلفور 1917، وأخذ الجميع يعي هذا الخطر منذ ان تكرس الانتداب البريطاني على فلسطين بمعاهدة سان ريمو 1920 وبصك الانتداب الصادر عن عصبة الأمم عام 1922 وحين اخذت سيول الهجرة اليهودية تتدفق على فلسطين، والأراضي الفلسطينية تنتقل للصهاينة.
ان وعي هذه الخطورة والتنبيه لمحاذيرها منذ وقت مبكر اصبح الشغل الشاغل للادباء الملتزمين بقضايا امتهم القومية، لقد احس محبوب الشرتوني بالخطر الداهم واخذ ينبه الفلسطينيين والعرب اليه منذ العشرينات من هذا القرن مشيراً الى ضرورة اليقظة، فالخطر الصهيوني محدق بفلسطين:
ابني فلسطين الغرر هبوا فقد بزغ السحر
اينام ملء جفونه شعب يحف به الخطر
من كان ينتجع العلى لبلاده لزم السهر
زحف العدو الى الحمى فإذا رأى الضعف استقر
ويحمل قيصر الخوري على الغرب الذي قدم فلسطين على طبق من فضة لليهود متناسياً انها عربية الروح واللحم والدم:
سقيناك يا غرب ماء الحياة فكان وفاؤك نفث الحمم
تعلمت رعي النجوم وفاتك ان تتعلم رعي الذمم
سننت النيوب كأن فلسطين مرعى تسمن فيها الغنم
وان فلسطين للعرب روحاً وجلداً ولحماً وعظماً ودم
اما توفيق قربان نزيل البرازيل فقد اصدر مجموعة قصصية مستقاة من التوراة اسماها "منابت الصهيونية" عام 1931. وقد اهدى مؤلفه هذا الى مفتي فلسطين الحاج امين الحسيني، اعترافاً له بدفاعه عن فلسطين، والى الشاعر القروي القائل:
لو كنت من اهل المكارم لم تكن من جيب غيرك محسناً يا بلفر
تجني على وطن المسيح مدمراً وتذيع انك في البلاد معمر
او ما ليوضاس اللعين وآله الا فلسطين الشهيدة مهجر
وفي هذه الاقاصيص يحاول قربان اظهار مثالب اليهود من خلال احداث التوراة كبيع اخوة يوسف له، واحتيال يعقوب على خاله وعلى أخيه لنيل بركة الاب، وكقتل موسى لمصري، ومن ناحية ثانية اظهار ممارسات الصهيونية في الوقت الحاضر بأنها مستقاة من تعاليم التوراة على اعتبار ان الاساطير التوراتية هي الأساس للعنصرية الصهيونية.
ولا يكتفي الادباء المهجريون بالتنديد بالغرب وبالصهيونية بل يتجهون للتنديد بالمتعاطفين معها. لكن النتاج الادبي المهجري شغلته احداث فلسطين قبيل نكبة 1948 وبعدها، فالشاعر حسني غراب كانت آماله كبيرة قبل اندلاع الحرب، وكان محتدم العاطفة ومن ذلك قوله في قصيدة:
أأقبل العيد حتى يفرح العرب؟ لا، لا ان العيد مرتقب
يوم يثور الحق ثورته والعيد يوم يعم الويل والحرب
اثارت نكبة 1948 مشاعر النقمة على الزعامات والقيادات التي تولت شؤون السلطات، فهذا قيصر الخوري شقيق الشاعر القروي يتهم احد الملوك بالخيانة والرشوة فيقول:
فيا وطناً ما كاد يرتاح سيفه
الى الغمد مغبوطاً وقد احرز النصرا
اقامت فلسطين الشهيدة مأتماً
فكاد لما قد ساء ينسي الذي سرّا
رأت ملكا كالعبد يشرى وربما
فديناه بالارواح لو لم يكن يشرى
اما موسى حداد فيعجب من قبول هدنة الشؤوم، والتوقف عن القتال، لقد اتاحت هذه الهدنة المكاسب للصهاينة حين امروا الجيوش ان تدبر فكانت الهزيمة النكراء والتشرد المفجع، وكان النصر لعلوج الصهاينة الذين ربحوا الجولة بتخاذل القادة وخيانتهم:
لا تلومي اذا اطلت ملامي هم اطالوا عن النضال القعودا
هدنة الشؤوم ليس فيها من الهد نة الا اسمها القصير المديدا
لا عفا الله عن جناة اباحوا قدس اقداسهم فراح شهيدا
ويعود الشاعر موسى الحداد فيقول انه يبكي بمرارة السجايا التي هي ارث لم يحافظ عليه الانذال فباعوا الأرض ودماء الشهداء بأبخس الاثمان واذا المجد جثة مشلوحة بين الضحايا على باب القدس:
انا لا ابكي فلسطين ولا أهلها بل انني ابكي السجايا
انما الانذال من ساستنا باعت الابطال في سوق الدنايا
ورأى القدس على ابوابه جثة المجد الفتي بين الضحايا
*
ان مأساة فلسطين هي مأساة صلب عيسى مجدداً عند توفيق قربان، وكما ان ما عقب الصلب كان وبالا على اليهود...
سلام فلسطين سلام شهيده اعادت لنا تاريخ عيسى مجددا
ويتألم احمد سليمان الأحمد ابن اللاذقية والمغترب في الارجنتين من غطرسة الصهيونيين الذين اخذوا يعربدون ويظلمون، ولكن هذه العربدة وهذا الظلم سينقلبان على الباغين فلا بد من انتصار الحق ودحر باطل اليهود:
يا رب عفوك هذي القدس اجهدها نزف الدماء وجرح الشام ما التأما
ومع اتساع الجرح الفلسطيني، وتدفق شلال الدماء الذي لم ينقطع، يزداد التعلق الشعبي بفلسطين، وتشتد اليها المهج، فهذا وهيب إسكندر عودة(8) من مغتربه القصي يتعاطف مع هذا الجرح ويتألم من هذا النزف:
فلسطين يا قطعة من دمي وثورة في خاطري الملهب
توجعت يا اخت عبر العصور وضيعك المطمع الا شعبي
وعربد في ارضك المستبد والقاك في المأزق الأصعب
فلسطين يا وثبة الناقمين على المعتدي الظالم الأجنبي
حملنا لك المهج الغاليات وارخصنا في سبل المأرب
فنحن دمانا مداد الوفاء وانت اليراع الصريح اكتبي
اما وحيد شاورية ابن بيت جالا الفلسطيني والمغترب في تشيلي واحد أعضاء الندوة الأدبية فيها فيصر على العودة والتحرير مقسماً بالقدس وبيت جالا وبالبرتقال الفلسطيني فيقول:
قسما بقدسك موطني وببحر يافا الزاخر
وبيت جالا والجبال وبالربيع الزاهر
قسما بزهر البرتقال وبالشقيق الناضر
قسما بتربتك الخصيبة والجمال الساحر
وهكذا يبدو لنا واضحاً جلياً التزام هؤلاء الادباء المغتربين و "المغمورين" بالقضية الفلسطينية التي عاشوا محنها وويلاتها بقلوبهم ووجدانهم فاستحقوا عاطر الثناء وواجب التقدير.
هوامش:
(1) مراجعة موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info
(2) عُرف عن الأمين إلياس جرجي أنّ إدراكه العميق والشامل للعقيدة القومية الاجتماعية وتجسيده لفضائل الالتزام، وتميّزه في الإدارة، وقد كان تولّى بجدارة عمدة الداخلية أكثر من مرة، عُرف عنه خفّة دمه وسرعة بديهته. روى لي كان متوجّهاً إلى موقف السيارات، قرب سينما ريفولي، ساحة الشهداء، عندما سمع أحد السائقين ينادي: عا... ضبيّة، عا... ضبية. فالتفت إليه قائلاً: شو بعمل إلك إذا كان عض بيّك!
الاحتفال في ضبية مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
(3) الرفيقة أدال نصر: مراجعة الموقع السابق.
(4) الرفيق جبران الأطرش: مراجعة الموقع المذكور آنفاً.
(5) الأمين صالح سوداح: الموقع المذكور آنفاً.
(6) الأمين د. عدنان أبو عمشة: من الجنوب السوري، المقيم في دمشق، تولّى في الحزب مسؤوليات محليّة ومركزية، منها عميد الثقافة. له مؤلفات عديدة أبرزها في العقيدة.
(7) ميشال مغربي: مراجعة الموقع المذكور آنفاً
(8) وهيب عودة: كما آنفاً.
|