إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

الأمين نبيه نعمة والد الطفل الشهيد نهاد، والرفيق الشهيد محمود نعمة

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2023-04-28

إقرأ ايضاً


الامين نبيه نعمة وطفله الشهيد

"ذات يوم، فاتح الناموس نبيه نعمة على مسؤوليته الخاصة الرفيق النقيب شوقي خيرالله، في موضوع الانقلاب وإمكانيته، فآنس لديه تقبلاً مبدئياً. طلب إلي نبيه أن التقي الرفيق شوقي لاستكمال البحث في هذا الشأن". هذا ما أورده الأمين الدكتور عبدالله سعاده في كتابه "أوراق قومية" (ص. 93).

حصل ذلك عام 1961، وكان الأمين نبيه نعمة يتولى مهام ناموس الرئاسة.

قبل ذلك، في العام 1958، كان الأمين نبيه نعمة قد خسر ابنه الطفل نهاد في حادث إجرامي كان وراءه عميل المكتب الثاني الشامي، المدعو جورج الداية. ومع الطفل الشهيد نهاد سقط الرفيقان زخور الخال وشهدا الخوري.

وقبل ذلك ايضاً كان الأمين نبيه نعمة يتمكن بعد اغتيال العقيد عدنان المالكي من العبور إلى لبنان ليستقر في الأشرفية – بيروت، وليتابع فيها نضاله الحزبي متولياً المسؤوليات المركزية التي كان آخرها ناموس الرئاسة، إلا أن القدر كان بالمرصاد فقد خطفت يد المنون الأمين نبيه نعمة في أواخر العام 1961 وهو لم يتجاوز التاسعة والثلاثين.

*

 ولد الأمين نبيه نعمة في بلدة مشتى الحلو (الشام) عام 1922.

 والده الرفيق جميل من أوائل رفقائنا في المشتى. والدته مرتا.

 أشقاؤه: جرجي، غصن، فريد، سلمى، و الرفيق الشهيد محمود نعمة.

 اقترن من الرفيقة ناديا نسيب خوري، من حمص، شقيقة الرفقاء: الشهيد شهدا، ميشال، بشار وأنطون.

 بعد انتمائه الى الحزب نشط الأمين نبيه بشكل مميّز، وتولى مسؤوليات حزبية عديدة منها مسؤولية منفذ عام حمص، وكان يتولى هذه المسؤولية عند حصول حادثة إغتيال العقيد المالكي.

 درس الأمين نبيه في حلب وعمل مديراً لشؤون الموظفين في شركة I.P.C متنقلاً بين حمص وبانياس.

 منح الأمين رتبة الأمانة أواسط العام 1956.

*

حادثة تفجير منزله

بعد أن تمكن الرفيق محمود نعمة من الفرار من سجن المزة حيث كان معتقلاً بعد حادثة المالكي – وهو الفرار الاسطوري الذي لم يقدر على تحقيقه أي سجين آخر – اعتاد أن يتردد الى منزل شقيقه نبيه في الأشرفية، وأحياناً الى قضاء الليل فيه.

من سخريات القدر أن علاقة قربى تشد الرفيقة ناديا نعمة الى والدة جورج الداية التي كانت تقطن مع ابنها، وابنتين لها في محلة مار متر المجاورة لمنطقة فسوح حيث كان يقطن الأمين نبيه في الطابق الخامس من بناية منصور الفرزلي. وكانت توطدت العلاقة بين العائلتين، ومعهما تبادل الزيارات.

وفيما كانت الوالدة وابنتاها تتمتعن بالأخلاق القويمة، كان جورج يتعاطى الميسر (القمار) وبالتالي أسير حاجاته الى المال، مما سهل على جهاز المكتب الثاني الشامي الذي كان يلاحق الرفيق محمود نعمة مذ فراره من سجن المزة، للايقاع به، وبالتالي فقد تمكن من تجنيد جورج للقيام بعملية تفجير في منزل الأمين نبيه نعمة مقابل مبلغ مالي مرتفع.

ولأن جورج كان يتردد الى منزل الأمين نبيه بحكم العلاقة بين العائلتين، فقد أمكنه بسهولة أن يدس متفجرة تحت السرير الذي كان مزمعاً أن ينام فوقه الرفيق محمود نعمة.

إلا ان مجيء الرفيقين زخور الخال وشهدا خوري (شقيق الرفيقة ناديا) الى بيروت في مهمة حزبية، جعل الرفيق محمود ينتقل الى مكان آخر، كي يفسح في المجال للرفيقين ألآتيين من الكيان الشامي أن يناما في منزل الأمين نبيه.

حوالي الساعة الخامسة من صباح يوم السبت 4 كانون الثاني 1958 استفاق الطفل نهاد وطلب قطعة حلوى، ثم ما لبث ان ذهب الى غرفة خاله الرفيق شهدا، ونام في فراشه اذ كان مولعاً جداً به.

في الساعة 6.15 انفجرت القنبلة لتحوّل جسدي الرفيقين زخور الخال وشهدا الخوري إلى أشلاء، ومعهما الجسد الطري للطفل نهاد إبن الأمين نبيه..

بعد ظهر اليوم التالي، الأحد 5 كانون الثاني كان حشد من القوميين الاجتماعيين والمواطنين يتجمعون في باحة مستشفى أوتيل ديو مع أسرة الشهيد زخور الخال وأصدقائه الذين حضروا من عمار الحصن لمواكبة جثمان الرفيق

الشهيد. أنزل النعش محمولاً على الأكف، وتناوب المسؤولون المركزيون حمله إلى السيارات التي انطلقت في موكب خاشع إلى طرابلس فالحدود اللبنانية، الشامية. وفيما عادت السيارات المرافقة للموكب، تابعت سيارات التشييع طريقها إلى عمار الحصن.

وعند منتصف ليل الثلثاء 7 كانون الثاني تجمع الرفقاء مرة جديدة أمام مستشفى أوتيل ديو يتقدمهم عدد من المسؤولين المركزيين وذلك لتشييع جثمان الرفيق الشهيد شهدا خوري الذي حضر أهله من حمص لحمل جثمانه إلى مسقط رأسه. وكذلك رافقه المشيعون حتى الحدود الشامية .

*

تشييع الطفل الشهيد

صباح يوم الثلثاء 7 كانون الثاني، كانت باحة مستشفى أوتيل ديو والطرق المحيطة تشهد تجمع حشد من الرفقاء والمواطنين الذين توافدوا من أنحاء مختلفة من لبنان رغم الأمطار، والثلوج في ذلك اليوم العاصف من شهر كانون الثاني. عند الساعة الحادية عشرة وصل رئيس الحزب آنذاك الأمين أسد الأشقر مع والدي الطفل الشهيد، الأمين نبيه نعمة والرفيقة ناديا، وباقي أفراد العائلة، يرافقهم المسؤولون المركزيون.

في الغرفة حيث سجي الطفل نهاد وقف الأمين نبيه والرفيقة ناديا يودعان إبنهما الشهيد وسط حزن عميق لف المكان، وإذ أنزل النعش إلى ساحة المستشفى، إرتفعت آلاف الأيدي زاوية قائمة.

حملة اكاليل الزهر يتقدمون الموكب الكبير وقد ظهرت في المقدمة صور الشهداء الثلاث

أبى الرفقاء إلا أن يحملوا جثمان الطفل عالياً فوق الأكف، وسارت الجنازة على الأقدام من مستشفى أوتيل ديو حتى كنيسة مار متر وسط الأشرفية على إيقاع أجراس الحزن، فيما كان آلاف المواطنين من أهالي وسكان الأشرفية على الطرقات ومن على الشرفات يشهدون أحد أضخم الجنازات التي عرفتها طرقات بيروت.

سار في مقدمة صفوف القوميين الاجتماعيين عشرات الرفقاء حملة الأكاليل وصور الشهداء، وشارك في التشييع رئيس الحزب آنذاك الأمين أسد الأشقر، وإلى جانبه الأمين نبيه نعمة وزوجته الرفيقة ناديا وعدد كبير من الأمناء

والمسؤولين المركزيين، كان من بينهم الأمناء الياس جرجي، عبد الله محسن، علاء الدين حريب، إنعام رعد، أنيس فاخوري.

من خطاب الأمين أسد الأشقر

الأمم العظيمة لا يمكن أن تستمر عظيمة إلا إذا كانت تقدم الشهداء وتطلب الفداء، والشهادة، لمجدها وعظمتها، هكذا كانت الأمم منذ أن وعت نفسها وستستمر الى قرون لا يمكن حصرها في عصر من العصور.

" وأمتنا في هذا العصر تتغذى بالدم الذي يقدمه ويبذله القوميون الاجتماعيون تثبيتاً لقضيتها وتأدية لرسالتها في صراعهم ضد الإرادات الأجنبية التي تتوهم بأن هذه الأمة العظيمة لم تزل أشلاءً ونهباً وغنائم تتوزع على الطامعين.

" ذلك كان ظن الاستعمار الغربي خلال ربع قرن فحاربه القوميون الاجتماعيون وبذلوا الدم وما زالوا يبذلون لتصفية آثاره وتحرير أرض الوطن منه.

" واليوم وهذا هو ظن الاستعمار الشرقي الذي يتوهم أننا بالفعل أشلاء للتوزيع". ولكن ما يتوهمه هذا الإستعمار من أنه شلو ممزق ان هو إلا أمة قد وقفت لتعلن انها لن ترضى إلا بالمجد مطلباً وبالحرية هدفاً ترخص في سبيله التضحيات.

وينهي الأمين الأسد خطابه بالقول:

" أيها القوميون الاجتماعيون،

قد يظن الناس انكم وحدكم المستهدفون وان معركة الحقد والتخريب لا يقصد بها سواكم، إن عليكم أن تشعروا وتبشروا المواطنين ان الأمة جميعها هي المستهدفة وان الاستعمار يستهدف تمزيق الأمة وتجزئتها، وان على المواطنين أن يستعدوا معكم لإنقاذ الوطن من المتحكمين فيه الزارعين بيوته دماراً ودماءً، وأن يعلموا أنكم قوة لا تتراجع وأنكم طليعة الأمة المصارعة العاملة للخير وللمجد والعز".

رغم الفجيعة التي طالت الأمين نبيه نعمة والرفيقة ناديا، فقد بقيا على زخم ايمانهما القومي الاجتماعي، ولم يسجلا تراجعاً عن الاستمرار في حمل لواء القضية القومية الاجتماعية. في رسالته التي وجهها بتاريخ 12 كانون الثاني 1958 إلى رئيس المكتب الثاني الشامي عبد الحميد السراج، يقول الأمين نبيه:

" شهيدنا الصغير الأول، دماؤه الحبيبة، نظرات الشباب الفخورة المعتزة، كفيلة أن تنقذ الأمة والوطن وتنتصر. وسيكون انتصارنا رائعاً بشهدائنا ودمائهم وستشهد أنت الإنتصار وستتعلم كيف نعتز به.

الثأر يا عبد الحميد شأن بدائي. لك أنت أن تأخذ به، أما نحن فسنظل نعمل في سبيل الأمة وعزها ومجدها.

إنتصارنا يوم نحوّل قنابلك إلى "إسرائيل" ، ويوم نحوّل دهاليز سجون أمتنا إلى مدارس.

سنلتقي. وحتى لقائنا والى ما لا نهاية سنبقى نعمل لخلود هذا الشعب.

*

من اليمين الى اليسار: الامناء الياس جرجي، نبيه نعمة، اسد الاشقر وعبدالله محسن،

وفي الوسط الرفيقة ناديا خوري نعمة .

متفرقات

• أبت الرفيقة ناديا نعمة إلا أن تسير وراء نعش طفلها الشهيد نهاد، إلى جانب زوجها الأمين نبيه، ورئيس الحزب الأمين أسد الأشقر.

• رفع الرفقاء نعش الطفل الشهيد على الاكف من مستشفى أوتيل ديو الى مدافن مار متر.

• بالرغم من انقطاع طريق ضهر البيدر بالثلوج وتوقع هطول الأمطار فقد كانت الوفود القومية الاجتماعية تتقاطر الى مستشفى أوتيل ديو حيث ملأت الشوارع المحيطة به، وامتلأت ساحة المستشفى بحشد من المواطنين والرفقاء.

• أجرى التحقيق بالجريمة مستنطق بيروت الأستاذ منير محمصاني.

• كان الأمين نبيه قذ اتفق مع احدى شقيقتي المجرم جورج داية على أن تعمل على تعليم ابنته نهلا(1) كل يوم بعد عودتها من المدرسة. وكانت العائلتان تتبادلان الزيارات باستمرار. ليلة رأس السنة كان الأمين نبيه والرفيقة ناديا يقضيان السهرة في منزل جورج الداية. وليلة الجريمة كانت والدة المجرم جورج وشقيقتاه يسهرن في منزل الأمين نبيه نعمة، وقد ألححن على الرفيقين زخور الخال وشهدا الخوري اللذين كانا ينزلان ضيفين على الأمين نبيه، بأن يناما عندهم بالبيت. وهذا الامر يدل على مدى العلاقة الحميمة التي كانت قائمة بين عائلة الأمين نبيه وعائلة المجرم التي فجعت بالجريمة وكان من الصعب عليها ان تصدق ان ابنها هو الفاعل.

• كان الأمين نبيه نعمة والرفيقة ناديا قد رزقا بابنة، نهلا، وبطفل نهاد.

بعد استشهاد الطفل نهاد، أمكن لهما أن يرزقا بصبي، أسماه نهاد، وهو من الرفقاء العاملين النشيطين.

• تولى الأمين نبيه نعمة مسؤوليات حزبية عديدة كان آخرها مسؤولية ناموس الرئاسة، وهو من الذين أشاروا على رئيس الحزب آنذاك الأمين عبدالله سعاده أن يقوم بالحركة الانقلابية.

عرف الأمين نبيه بصلابته ومناقبيته وبإيمانه المطلق بالنهضة، وهو فارق الحياة أواخر العام 1961 أما

الرفيقة ناديا خوري نعمة فقد وافتها المنية في العام 1986 وشيعت في مأتم حزبي حاشد إلى متواها الأخير

في مشتى الحلو.

• أبرزت الصحف اللبنانية، والكثير من الصحف العربية والأجنبية خبر الجريمة التي أودت بالشهداء الثلاثة. فيما نشرت صحيفتا "صدى لبنان" اليومية و"الزوابع" الأسبوعية، تغطية وافية عن الجريمة، وعن المأتم الحاشد الذي أقيم في اليوم التالي.

ومن بين الصحف الأجنبية نشرت جريدة نيويورك تايمس في عددها الصادر في 5/1/1958 الخبر في

عامود كامل.

• جاء في كتاب "أيام في الذاكرة" للرفيق أنور فهد: "مع بزوغ فجر أحد أيام 1958 كنت نائماً في مركز الحزب ورنّ عندي جرس الهاتف، وعندما رفعت سماعة الهاتف سمعت صوت الأمين نبيه نعمة وهو يقول لي، "رفيق أنور، البقاء للأمة، لقد فجروا منزلي واستشهد الرفقاء زخور الخال، شهدا الخوري وطفلي نهاد، إن عليك فوراً تبليغ المسؤولين في المراكز الحزبية" .

ويضيف أنه اتصل فوراً بمنزل الأمين عبد الله قبرصي، وبحضرة عميد الداخلية، ثم توجه إلى منزل الأمين

نبيه في محلة فسوح – الأشرفية "وكان المنزل محوطاً بقوى الأمن، صعدت السلم لأرى أثاث البيت

المتناثر، وجثث الشهداء الثلاثة وقد غطيت بالشراشف.

*

• يفيد الأمين صلاح دبا أن الأمين نبيه نعمة كان يصرّ في العام 1961، وهو مريض بالقلب، أن يتواجد يومياً في مركز الحزب في شارع بلس – رأس بيروت، صاعداً إلى الطابق الثالث، غير آبه بنصائح الأطباء، ومنهم الأمين الدكتور عبدالله سعاده. كان يقول أنه سيتابع نضاله الحزبي حتى آخر زفرة من حياته، وقد تحقق ذلك.

*

الى الامين نبيه نعمة

نشرت جريدة "الزوابع " في عددها الصادر يوم السبت 11 كانون الثاني 1958 الرسالة التالية الى الامين نبيه نعمة بتوقيع فهمي، (نرجح أنه الرفيق فهمي شريح الذي كان تولى مسؤولية منفذ عام حزور – منطقة مشتى حلو، كفرون، نبع كركر الخ ...).

" كل صدمة.. لك فيها نصيب.. وكل ضربة لك فيها كدمة.. وكل نازلة لك فيها بلاء.. وانت.. انت.. من عرفناك في مدلهم الليالي، وبارقات الأمل.. تعطينا الامثولة تلو الأمثولة، وجبينك الوضاء.. وثغرك البسام، كعهدنا دائماً.. يهزآن بالموت.. ويتغذيان بالألم.. ويتحديان الفناء...!

أيها الامين..!

في ولدك الشهيد.. لأبنائنا قدوة.. وفي رجولتك الصامتة.. لأجيالنا عبرة.. وفي هدوئك الرزين.. عزم ماض وقوة لا تلين.. !

في نفس كل قومي اجتماعي لك منزلة.. وفي صفحات تاريخ صراعنا لك مقام.. وفي أعماق أعماق اولئك الذين عرفوك.. تجلة واحترام.

فإليك أيها الأمين.. عزاءنا القومي الاجتماعي.. بنهادك الشهيد وبرفيقيك الشهيدين.. عزاء كله محبة.. تفيض بالحق والخير والجمال.. ننشره من دماء شهدائنا.. على دروب أمتنا.. في سيرها الحثيث نحو النصر الذي ليس لنا منه مفر...!

إليك.. والى رفيقتنا أم نهاد.. والى رفقائنا أعمامه الابطال.. ما تعجز دونه الكلمات تعبيراً.. نختمه بالصبر الذي لا بد منه.. الى ان يحين الوقت.. وتأزن الساعة التي لا ريب فيها.

*

الرفيقة ناديا خوري نعمة:

الرفيقة ناديا مع ولديها

من مواليد مدينة حمص، وهي عرفت النضال القومي الاجتماعي رفيقة، وزوجة للأمين المناضل نبيه نعمة، شقيقها الرفيق شهدا استشهد في المتفجرة، وشقيقها الآخر الرفيق أنطون كان غادر إلى التشيلي حيث عمل حزبياً وتولى فيها مسؤوليات محلية إلى جانب الرفيقين المرحومين لويس خوري وحسني قرنفلي، والرفيق الثابت على إيمانه وتفانيه ونشاطه المستمر، لويس كباش .

من كتاب "أنا والتنين" لفقيد الأدب الرفيق سعيد تقي الدين، هذه الرسالة الموجهة منها إلى طفلها الشهيد:

" إلى طفلي

كنت يا حبيبي غافياً تحتضن لعبتك حين أطفأت النار شعلة الحياة في عينيك الغاليتين وتأججت في قلبي... ترى أية أحلام كانت رؤاك تغزو؟. أكنت تحلم ببيتنا الحبيب الذي تشردنا عنه؟ أم كنت ترود الغد القريب تحلم بشبابك المقبل، يا ما كان أروع شبابك لو بلغته.

كان يشرد بي الخيال أحياناً وأتصور انك كبرت وكبرت معك بندقيتك الصغيرة وآمالك، لو بلغت شبابك واستشهدت دفاعاً عن الوطن لكنت تعزيت، أما الآن... ترى ماذا يجني الوطن من تمزيق الأطفال؟.. من يستطيع الجواب؟ أترى يجيبني سفاحو الأطفال،.. ميتمو الأطفال،.. مشردو الأطفال عن صدور أمهاتهم.

آه يا أطفال دمشق، النار التي أطفأت شعلة الحياة في عيني صغيري تتأجج في صدري، لقد جمدت خطى ابني وصمتت تفتفته وأغاريده وانطفأ غده وغاب بلا شروق...

يا أطفال دمشق سلمت عيونكم، أيقظوا الإنسانية التي تحتضر فأنتم عزائي.

هامش

(1) نهلا نعمة، نشطت في ستينات القرن الماضي، وكانت طالبة ثانوية، غادرت الى الولايات المتحدة، مستمرة على ايمانها القومي الاجتماعي.

***

الرفيق الشهيد محمود نعمة

الأمين عدنان كردية والرفيق محمود نعمة

كانت حياة الرفيق محمود نعمة، على قصرها، مملوءة بالأحداث إنما الحدث الأهم والأبرز والذي ما زال مثلاً في الجرأة والذكاء، فهو فراره من سجن المزة، الذي كان مجرد ذكر اسمه في مرحلة السراج وطغمته يسبب الهلع الكبير .

مع ذلك تمكن ضابط هو من أذكى وأجرأ ضباط أمتنا، كما يصفه العارفون، من أن ينفذ عملية فرار أسطورية من السجن الرهيب، لقد كان ذلك السجن محاطاً بحصون منيعة وبحراسة شديدة وحواجز تجعل إختراقها مستحيلاً وتلغي حتى مجرّد التفكير في القرار. لكن الرفيق محمود نعمة خطط ونفذ وإخترق الحواجز بشكل مذهل:

حفر إسمنت الجدار وإنتزع حديد النافذة، صنع حبلاً من البطانيات وتدلى عليه إلى الخارج، قطع الكهرباء في السجن فأحدث ظلاماً وذعراً، ونفذ عمليته المدهشة.

كيف حصل كل ذلك ؟ إنه سيناريو يصلح لفيلم طويل، لكننا نورد بعض الخطوط الرئيسية بإختصار(1).

1. استعمل كأداة لحفر الإسمنت المحيط بنافذة زنزانة الانفراد الحديدية مسماراً في المرحلة الأولى، ثم استبدله بمفتاح علب سردين. دامت هذه العملية ما يناهز الشهر بحيث أصبح من السهل خلع النافذة الحديدية ساعة يشاء.

2. كان يضع مكان الإسمنت لب السندويش الذي كان يقدم له مع الطعام، بعد أن يمزجه ويرشه بالغبار الناتج عن الحفر بحيث بات لون لب السندويش بلون الحائط.

3. غزل من الليف الذي كان يحصل على البعض منه كلما توجه إلى الحمام، خيطاناً ليربط بها قطع الحرامات الخمسة التي تمكن من الحصول عليها بحجة البرد والمرض، فتحول إلى حبل طويل.

4. في لحظة التنفيذ عند الساعة الثالثة إلا الثلث بعد منتصف الليل، وضع قطعة نقود معدنية من فئة الخمسة قروش بين المصباح الكهربائي و"الدوي"، ما أحدث احتكاكاً شديداً في الأسلاك امتد إلى كافة فروع الشبكة في السجن، وأحدث حالة من الذعر والظلام الدامس، وهنا انتزع الرفيق محمود حديد النافذة وخرج عبرها متدلياً بواسطة "الحبل"، ثم تمكن من الوصول إلى خارج سور السجن بواسطة عمود الكهرباء، بعدها راح يزحف من تحت الأسلاك الشائكة حتى أصبح خارج حيز السجن، ثم أخذ يركض في العتمة الحالكة عبر الجبل، إلى أن أمكنه الصعود إلى بوسطة تنقل الجنود صباحاً وجلس في المقعد الخلفي قرب الباب ليتسنى له النزول بسرعة إذا اقتضت الحاجة(2) .

5. نزل حيث يريد وذهب إلى إحدى صديقاته، وكن كثيرات. وهذه واحدة لا يشتبه بها، حال دخوله طلب كازاً وممسحة ومسح المدخل لكي يضلّل الكلاب. في اليوم الثاني حملها رسالة إلى أخيه الأمين نبيه في لبنان، وبعدها تمت الاتصالات لحين تهريبه إلى لبنان. "نبيه قال لي أنه لم يصدق حين قرأ رسالة محمود معتقداً أنها خدعة لأن من المستحيل الهرب من سجن المزة"(3).

6. انتدب الحزب الخفير الجمركي الرفيق حسن الأحدب إلى دمشق، الذي رافق الرفيق محمود نعمة إلى منطقة دير العشاير – ينطا حيث كان بانتظاره الرقيبان الجمركيان، الرفيق خليل دياب (الأمين لاحقاً) وكان يتولى رئاسة مفرزة بيروت البحرية، والرفيق بشور الديك (شقيق الشهيد ميشال الديك) الذي كان مسؤولاً عن مفرزة بيروت السياره،

الأمين خليل دياب شرح ذلك(4) موضحاً أن رفيقين من المنطقة رافقاهما، وأنهم حين وصولهم إلى المفرق المتفق عليه، ووصول الرفيق محمود نعمة، وبعد أن ساروا مسافة قصيرة فوجئوا بمسلحين يقطعون الطريق ويقودونهم إلى منزل النائب سليم الداود .

الاتصالات الحزبية – السياسية أسفرت عن إخلاء سبيلهما، وسبيل الرفيق محمود نعمة الذي كان متخفياً باسم

"مستعار"، إنما كان حقيقياً وهو للرفيق المناضل المحامي رزق الله عرنوق (من طرطوس) .

هذا موجز عن فرار أسطوري ما كان لأحد غير الرفيق محمود نعمة أن يقوم به. ليس فقط لأنه "من أذكى وأجرأ الضباط " إنما لأنه كان سبق وأن تخصص في الولايات المتحدة في شؤون السجون موفداً من قيادة الجيش الشامي، وبات خبيراً في شؤون الكيمياء والفيزياء.

بعد فرار الرفيق محمود نعمة بأقل من شهر حصل الانفجار - الجريمة في منزل أخيه الأمين نبيه وأودى بحياة الرفيقين شهدا خوري وزخور الخال وبالطفل نهاد ابن الأمين نبيه.

حوادث العام 1958 ومعركة شملان

بتاريخ 24 أيار 1958 رفع الرفيق محمود نعمة اقتراحاً إلى رئيس الحزب (كان يتولى الرئاسة آنذاك الأمين أسد الأشقر) يعرض فيه للوضع العام في المنطقة، خصوصاً في الشام ولبنان، ويخلص إلى ضرورة استنفار القوى الحزبية، وجمعها في أمكنة تستطيع أن تقوم فيها بدور حاسم، "إذ من العبث بقاء القوميين منشورين في مناطقهم، فإن حصل عليهم هجوم مسلح يضطرون للصمود بمفردهم"، لذلك – كما جاء في الرسالة – "لا يمكن للقوميين أن يقوموا وحدهم برد الاعتداءات إلا من الطراز الانتحاري، وفي هذه الحال يجدر بقيادة الحزب جمع قوى الحزب في مكان واحد لتقوم بمعركتها الفاصلة".

ربما كانت هذه الرسالة – الاقتراح دافعاً لإنشاء المخيم القومي الاجتماعي في شملان، حيث فيها حسم الحزب الجانب العسكري من حوادث العام 1958 وحقق انتصاراً باهراً تحدث عنه المطلعون والمراقبون بإعجاب كبير.

لم يكن الرفيق الضابط محمود نعمة بعيداً عن قيادة معارك شملان(5)، إلى جانب رفقاء عسكريين آخرين كانوا يتولون المسؤولية في عمدة الدفاع (فضل الله أبو منصور) أو انتدبوا إلى شملان للمساهمة في إدارة المخيم أو لقيادة المعارك (مهيب خوري، عفيف الجوهري، معين عرنوق، أنور فهد وغيرهم)،

حتى إذا انتهت المعركة، ثم أحداث العام 1958، اضطر الرفيق محمود نعمة إلى مغادرة لبنان بضغط من السلطات اللبنانية مع مجموعة أخرى من الرفقاء الشاميين العسكريين، (كان تولى اللواء فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية).

اختار الرفيق محمود أن يغادر إلى الولايات المتحدة، ففيها خضع لدورة اختصاص في شؤون السجون، وفيها أيضاً شقيقه الرفيق غصن. إلى هناك التحقت به الرفيقة سهام بشير وقد كانا أزمعا على الزواج بعد فترة حب متبادل.

*

الثورة الانقلابية 1961-1962

عندما راح الحزب يخطط للانقلاب الذي تمّ تنفيذه ليل 30/31 كانون أول 1961 بالاشتراك مع عسكريين قوميين اجتماعيين في الجيش اللبناني (أبرزهم الأمينين فؤاد عوض وشوقي خير الله والرفيق علي الحاج حسن) وجد أن قيادة الجرائد والزمر الحزبية تحتاج إلى رفقاء عسكريين لديهم الخبرة الجيدة في هذا المجال. لذلك استدعى من المغترب عدداً من الرفقاء العسكريين الذين كانوا غادروا لبنان في نهاية حوادث العام 1958، كان منهم الرفقاء محمود نعمة، عبد الله الجبيلي، أحمد شمنق.

تولى الرفيق محمود، إلى المشاركة في خطة الانقلاب، قيادة عملية اعتقال رئيس الجمهورية اللواء فؤاد شهاب من منزله في منطقة الكسليك – صربا.

فشل الانقلاب جعل الرفيق نعمة ينتقل إلى البقاع محاولاً الوصول إلى الشام وقد ترافق مع الرفيقين عبد الوهاب تركماني (الأمين لاحقاً)، وعفيف القطريب. في البقاع أمكن للرفيق عبد الوهاب أن يجتاز الحدود عبر المسالك الجبلية وصولاً إلى الشام، فيما تمّ اعتقال الرفيقين نعمة والقطريب جراء وشاية من أحد الرفقاء الخونة، واقتيدا مخفوران إلى ثكنة الأمير بشير في بيروت حيث جرى تعذيبهما بوحشية كاملة، خاصة الرفيق محمود الذي حوله التعذيب إلى كتلة لحم ودم وعظام(6) .

أجهزة المكتب الثاني أشاعت أن الرفيق محمود نعمة حاول انتزاع بندقية الخفير فيما كان يقوده إلى غرفة المحقق، والهرب، فعاجله الجندي بطلق ناري أرداه قتيلاً.

طبعاً، هذا الكلام لم يقنع أحداً. وجاءت لاحقاً شهادات الرفقاء الذين كانوا مع الرفيق نعمة في ثكنة الأمير بشير تدحض الادعاءات الكاذبة. الرفيق عفيف القطريب يروي أنه استدعي إلى عند الجلاد أنطون عازوري (الملقب بـ أبو أحمد) الذي عندما سأله عن اسمه وأجاب أنه عفيف القطريب، صاح بالخفير كي يعيد الرفيق عفيف إلى القاووش ويأتيه بمحمود. وجيء بالرفيق نعمة محمولاً لأنه لم يكن قادراً على المشي بسبب التعذيب الوحشي الذي تعرض له، وبعد أقل من ساعة "هرب".

بدوره يروي الملازم الرفيق الشهيد علي الحاج حسن أنه سمع جلبة في بهو الزنزانات وشاهد من طاقة انفراده عناصر الشعبة الثانية يأخذون محمود نعمة من زنزانته المجاورة له، دون رجعة.

هكذا استشهد الرفيق البطل محمود نعمة. مأساته أنه لم يسقِ بدمائه أرض فلسطين ولا استشهد في معركة دفاعاً عن الوطن. اغتاله أبناء من شعبه أبوا إلا أن يروا الظلمة ويفرحوا بها. إنه قدر الرساليين الذين يحملون إيمانهم ويمشون، وليس لهم، كلما عظمت التضحيات، إلا أن يبقوا يسيرون وأمامهم سعاده يقول: "إن النهضة القومية الاجتماعية جاءت تحرق وتضيء، تحرق من أتى بها، تحرق من يقف في طريقها وتضيء لأمة ظن أعداؤها أنها انقرضت" .

*

من مقال الأمينة سهام جمال في جريدة " الديار " بتاريخ 28/12/1998

• طلبت إلى محمود بعد العودة إلى ديك المحدي وفشل اعتقال رئيس الجمهورية أن نهرب معاً قبل افتضاح أمر الانقلاب. وكانت الساعة تشير إلى الثالثة صباحاً وكنا في الباحة الخارجية لمنزل الأمين أسد الأشقر، ولا أستطيع أن أنسى قساوة البرد ليلتها. كنت أحمل معي ليلتها هويتي وهوية مزورة لبنانية لمحمود بإسم آخر مع صورته، وكان بإمكاننا أن نعبر الحدود بسهولة متذرعين بالزواج، فهو في الهوية مسلم وأنا مسيحية، لكنه رفض وبقي مع الشباب لغاية العاشرة والنصف صباحاً. ولما جاء منزلنا هو والرفيق عفيف القطريب قال لي عفيف: "هلكني، ما كان يترك إلى أن ساعد الكثيرين على الهرب بإعطائهم ما يلزم من المصاريف لتدبير أمورهم".

• ذهب الرفيق محمود نعمة إلى شملان قبل ليلة المعركة وكان عدد المقاتلين لا يتجاوز الثلاثين قومياً. وقف محمود نعمة على الطريق العام لشملان وأخذ يوقف مداورة السيارات المارة فينزل بها مضاءة إلى الطريق الفرعية ويعود بها بلا أضواء ليسلمها إلى أصحابها، بقي على هذه الحالة لساعات مما جعل الفريق الآخر يعتقد أن حشوداً هائلة من القوميين جاءت إلى أرض المعركة كونهم لا يرون السيارة وهي راجعة بدون نور.

*

كانت صحيفة "صدى لبنان" لصاحبها ورئيس تحريرها الرفيق محمد بعلبكي (نقيب الصحافة الحالي) أول جريدة تنشر خبر تَمَكن الرفيق الضابط محمود نعمة من الفرار من سجن المزة، وذلك في عددها الصادر بتاريخ 11 كانون الأول 1957.

في صفحتها الأولى، وبعنوان عريض نشرت "صدى لبنان" التالي: "فرار ضابط كبير من المزة".

وفي متن الخبر قال محرر الجريدة أن ما حصل قصة أشبه ما تكون بالأسطورة، إذ لم يحدث قبل اليوم أن تمكن أحد من الإفلات من قلعة محصنة كسجن المزة.

هوامش

(1) نجد ذلك في الكتاب الذي أصدره الرفيق جان دايه بعنوان "مذكرات محمود نعمة".

(2) الأمينة سهام بشير جمال عن مقالة لها في "الديار" بتاريخ 28/12/1998 .

(3) المصدر السابق .

(4) تمّ ذلك في لقاء مع الرفيق جان داية بتاريخ 6/11/1981 .

(5) تقول الأمينة سهام جمال في المقالة المنشورة في عدد الديار تاريخ 28/12/1998 أنها قرأت في إحدى الصحف الأجنبية لمراسلة المانية تقول "بأن تخطيط معركة شملان لم نر مثله منذ أيام هنيبعل، وتضيف: من مميزات القيادة عند محمود نعمة أنه كان يتفادى كثيراً في تخطيطه وقوع إصابات في صفوف مقاتليه".

(6) ورد ذلك في العديد من الصحف والمجلات والكتب، منها كتاب "أوراق قومية" للأمين الدكتور عبد الله سعاده، "الطريق إلى السلطة" للأمين فؤاد عوض، ومذكرات الأمين شوقي خير الله .


 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024