الأمين نواف حردان
مهداة الى السيدة المناضلة عبلة بشارة شقيقة الرفيق فريد، زوجة الأمين المناضل جورج معلوف، ووالدة الرفيق الشهيد يوسف معلوف.
أمضت سنوات النضال الطويلة مع زوجها الأمين جورج وبنت معه عائلة قومية اجتماعية. سقط ابنهما شهيدا في معارك مشيخا-المتين، في الحرب اللبنانية، كما تعرض منزلهما للعدوان الإسرائيلي اكثر من مرّة.
رغم تقدمها بالعمر ما زالت متوقدة الذهن، وفي عنفوان شبابها.
احفظ لها الكثير من المحبة والاحترام واردد دائما تحية الاكبار الى الغالي الأمين الراحل جورج معلوف وأكبر معها حزنها على رحيل العزيز صهرها نقولا حداد زوج ابنتها سورية، الذي خسرناه باكراً.
*
دمشق المزه
بيت الرفيق بدر قلعجي
في 24 تموز 1944
ودعت الرفقاء بعد ذلك على تلك القمة من قمم حرمون، بعد ان أعلنت لهم بأن الثورة الاجتماعية الأولى قد انتهت باستشهاد الزعيم.. وأنهم احرار يمكنهم ان يذهبوا حيث يشاؤون، وبأنني لن استسلم وسأتابع طريقي الى دمشق بأية وسيلة، للاتصال بقياديي الحزب ومتابعة العمل.. والإعداد لمعارك أخرى جديدة نخوضها وننتصر..
بقي معي الرفيقان معروف قيس ويوسف صباغ فقط.
وقررت بعد ذهاب غالبية الرفقاء ان أتوجه الى عرنه نفسها مع علمي بأنها تعج برجال الجيش الشامي، على ان ادخلها ليلاً والجنود نيام من طريق الجبل، حيث يمكن ان يكون مرابطين، لكي أتوجه منها الى دمشق ولو سيراً على الاقدام ليلاً.. او زحفاً على البطن، لأتصل بالمسؤولين في الحزب ونقرر مصيره بعد الزعيم.
وفي اليوم التالي.. وصل مواطن من آل زويهد(1) من حاصبيا وطلب مني ان اسمح للرفيق معروف قيس بالعودة معه فسمحت له وبقي معي الرفيق يوسف صباغ فقط.
ورحت وإياه ننحدر شرقاً باتجاه بلدة عرنه.
كان الوقت مساء، والجوع قد أخذ منا كل مأخذ فتوقفنا قليلا نستريح، ثم طلبت من الرفيق صباغ ان يبحث عن أحد الرعاة في الجبل، ويحصل منه على قليل من الخبز نسد به رمقنا، ولجأت أنا الى مغارة رأيتها قريبة وجلست انتظره فيها.
تبدو لي من باب المغارة قمة جبل حرمون القريبة منتصبة شاهقة تتحدى الزمان والعصور.. برغم مرور الأزمنة والعصور وتقلب عناصر الطبيعة.
ولا ادري لماذا رحت أشبهها بحزبنا، وارغب وأتوق توقاً عارما بأن يبقى برغم استشهاد الزعيم.. منيعاً صامداً ثابتاً امام الاعاصير التي ستهب عليه من جهات عديدة.. والمؤامرات والملاحقات والاضطهادات التي ستلحق به لتسحقه سحقاً، مؤمناً محافظاً على عقيدته وتراثه.. قوياً جباراً كما أراده الزعيم.
وخيل الي اني أرى الزعيم يبتسم لجلاديه ويقول لهم "شكراً" عندما عصبوا عينيه وطلبوا منه الركوع، وربطوه الى خشبة ليطلقوا عليه الرصاص.
وتراءى لي، وهو يودعني الوداع الأخير في دمشق ورحت استعيد في ذاكرتي تفاصيل تلك المقابلة الأخيرة التي قابلته فيها.
وخطر لي وأنا جالس في تلك المغارة ، انتظر عودة الرفيق صباغ، ان أكتب رسالة الى احد الرفقاء في البرازيل، اخبره فيها باستشهاد الزعيم وما حدث للحزب، واطلب منه ان يطلع المنفذ العام الرفيق وليم بحليس والرفيق الياس حردان عليها، على ان اكلف احد الرفقاء في عرنه عند وصولي إليها، بوضعها في البريد.
ولم يكن ينقصني قلم وورق عندئذ، فكتبت الرسالة التالية:
رفيق العزيز خطار نعمه(2)
انت الوحيد بين الرفقاء في البرازيل الذي لا يزال عنوانه عالقاً بذهني، لذلك أبادر للكتابة إليك، وسوف لا أطيل الشرح، لأني لست بحالة تمكنني الآن من الشرح والاستفاضة بالكتابة.
كنت أتمنى من أعماق قلبي ان تكون يدي مشلولة لا حراك فيها، قبل ان انقل أليك الخبر المشؤوم التالي:
لقد قتل زعيمنا سعادة نعم، قتله المجرمون الطغاة رجال الحكومة اللبنانية، رمياً بالرصاص.. ولا استطيع ان أقول لك اكثر من هذا الآن.. ولكني استطيع ان أقول لك ان سعاده كان عظيماً أمام الموت، كما كان عظيماً في الحياة، تتضاءل امام عظمته عظمات كبار الابطال الافذاذ الخالدين في التاريخ.
إننا لا نبكيه لأنه سقط شهيداً على مذبح قضيته المقدسة، ولكننا نبكيه لأنه ذهب باكراً جداً، وحرمنا من ذكائه ونبوغه وعبقريته، إذ كان لديه الكثير الكثير ليعطي بعد، دروساً قيمة كبيرة عظيمة، لنا وللأجيال الصاعدة والتي لم تولد بعد.
أنا فار الآن من لبنان يا رفيقي، لأن السلطات اللبنانية، تلاحقني، كما تلاحق الألوف من رفقائنا السوريين القوميين الاجتماعيين.
لقد كنت في جبل الشيخ عندما فوجئت بخبر مقتل الزعيم، بعد ان سلمه رئيس الجمهورية الشامية الخائن حسني الزعيم، للسلطات اللبنانية، فحاكمته محاكمة صورية ثم قتلته بأقل من 24 ساعة.
في راشيا ألقي القبض على عدد من الرفقاء كان بينهم جورج معلوف(3) وفؤاد حنا.
الأمين جورج معلوف الرفيق الياس حردان
بعد ان عرفت بمقتل الزعيم، رأيت ان الثورة التي كان قد أعلنها الحزب قد انتهت، وطلبت من الرفقاء الذين كانوا معي في الجبل ان يتركوني، فعادوا الى راشيا حيث سيقبض عليهم ولا شك حال وصولهم.
يحتل راشيا اليوم أكثر من 200 جندي من الجيش اللبناني، والدرك و"زلم" المير مجيد أرسلان وزير الدفاع اللبناني.
أكثر الرفقاء ضربوا وجلدوا بالسياط والعصي، كما ألقي القبض على والدتي وبعض الأمهات الأخريات، وصودرت الطروش واصطيد الدجاج.
كانت زوجتي في الفراش لم يمر على توليدها يومان، وعندما وصل رجال الجيش بيتنا لتفتيشه، وجدوها في تلك الحالة، فلم يمنعهم ذلك من قلب فراشها بحثاً عن السلاح.
وعندما أرادوا الحفر تحت جدار بيتنا لكي يضعوا الديناميت وينسفوه، تقدم منهم جدي الشيخ الجليل، وراح يقنعهم ان البيت ملكه وليس ملكي، فلم يصدقوه إلا بعد ان أبرز لهم أوراق الملكية الثبوتية، فذهبوا عند ذاك الى بيت أبي ونسفوه.
أكتب لك الآن من مغارة ضائعة من مغاور جبل الشيخ، وأنا في طريقي الى دمشق للقاء بعض المسؤولين في الحزب، لكي ندرس الأوضاع المستجدة ونضع خطة جديدة لاستئناف الصراع، ومتابعة السير على نفس الطريق التي شقها سعادة.
ان الحزب سيعود وينتصر على الحكومة اللبنانية الخائنة ولا شك، وما انتصارها الحالي الذي حازته بالمكر والغش والبرطيل والغدر والخيانة، سوى انتصار موقت، سنقلب عليها كما السحر على الساحر، وتدفع ثمن غدرها وخيانتها وقتلها لسعاده.
علمت ان رجال الامن اللبناني، سيبقون في القرى، يفرضون الأتاوات والضرائب على أهالي القوميين الى ان يستسلموا.
القصد من هذه الرسالة هو الطلب منك ان تتصل بمنفذ عام الحزب في البرازيل، وتطلب منه ان يعمل لحمل المغتربين على ارسال برقيات الى الحكومة اللبنانية، يحتجون فيها على تصرفاتها البربرية والاضطهادات الوحشية التي تنزلها بالشعب.
أبرقوا.. أبرقوا.. الى رئيس الجمهورية.. الى هيئة الأمم.. الى لجان حقوق الانسان.. الى الأرض والسماء.. وسارعوا للعمل كي ترفعوا الاضطهاد عن رفقائكم.
واسلم للحق والجهاد
ولرفيقك نواف حردان.
وما ان انهيت كتابة الرسالة ووقعتها حتى وصل الرفيق صباغ، حاملاً رغيفين إعطاني واحداً منهما واستبقى الثاني له، فجلسنا نأكلهما "ناشف" بشهية كبيرة، كأننا نأكل أطيب المأكولات.
وبقينا جالسين بعد ذلك في تلك المغارة، ننتظر هبوط الظلام، لكي نتابع سيرنا الى عرنه، فنصلها ليلا والجنود المرابطون فيها نيام.
ورحنا نهبط الجبل عندما خيم الظلام، منحدرين شرقا في الأراضي الشامية، الى ان بدت لنا انوار بلدة عرنه نحو الساعة العاشرة ليلاً، فانحرفنا شمالاً، قاصدين ان نصلها من جهة دمشق حيث كنت أتوقع ان لا يكون الجنود مرابطين.
وصلنا مدخل البلدة من جهة الشمال، فلم نجد أحدا، وجلسنا حابسين أنفاسنا، تحت شجرة جوز عتيقة ضخمة، الى جانب ربعة عالية، لنرى اذا كان يظهر بعض الجنود فلم يظهر احد.
وطلبت من الرفيق الصباغ عندئذ، ان يدخل البلدة بحذر، ويقصد بيت مدير مديرية عرنه الرفيق رشيد مجاعص، ويقول له بأني موجود في ذلك المكاني، وبأني سأقصد بيته لكي استريح فيه وأنام بقية الليل، فسار ينفذ طلبي وعاد بعد قليل يقول لي:
- أخبرني المدير ان بيته تحت المراقبة الشديدة، وان ذهابك اليه يشكل خطراً كبيراً عليك وعليه.
شعرت بالخيبة عندما سمعت ذلك وأصبحت في حيرة من أمري.
أين أذهب في هذا الظلام وأي مكان أقصد؟
كنت قد بدأت أشعر بتعب مضن ونعاس ضاغط، واني بحاجة ماسة للاستلقاء على فراش ما داخل أحد البيوت، لكي استسلم لنوم عميق ثقيل، بعد تعب الأيام الماضية وسهر الليالي الطويلة.
كان قد مر علي خمسة وعشرون يوماً، دون ان أنام ليلة بكاملها، ودون ان آوي الى فراش ما داخل احد البيوت.
كنت في حالة توتر مستمر شديد تلك الأيام، أما تلك الساعة، بعد تلقي الصدمة العنيفة الكبيرة المفاجئة التي هزتني عندما عرفت باستشهاد الزعيم، وكنت أرزح تحت عنفها وثقلها، ولكن بعد ان زال توتري وتأهبي النفسي، عندما علمت بانتهاء الثورة، أشعر بتعب كبير ونعاس شديد، كانا قد تراكما خلال الأيام الماضية.. وجاءا الآن يستوليان علي دفعة واحدة.
الى أين أذهب في هذا الليل؟ وأي باب أطرق؟ وأين أنام؟
بهذا رحت أفكر عندما سمعت جواب الرفيق الصباغ.. والتعب والنعاس يعذبانني والحيرة تستبد بي.. الى ان تذكرت فجأة بأني أعرف في عرنه شخصاً كان صديقا لي أيام الطفولة، سبق وعمل أجيرا في بيتنا، وكنت أعامله معاملة حسنة أثناء عمله.
كنت قد سألت عنه عندما أتيت عرنه المرة الأولى، فقيل لي انه من أعضاء الحزب الشيوعي.
وخطر لي ان ارسل الرفيق الصباغ لكي يستدعيه بالرغم من ذلك فقلت له:
- اذهب وابحث عن شخص في عرنه يدعى نعيم شاهين، وقل له باني بحاجة إليه:
وذهب يوسف الصباغ يبحث عن بيته في الظلام، وبقيت انا تحت الجوزة انتظر عودته متكئاً على حجر.
لم ادر عند ذاك كم طال غياب الرفيق الصباغ، لأني بقيت بين المستيقظ والنائم تحت الجوزة، الى ان سمعت وقع أقدام فتأهبت.. ثم رأيت الصباغ عائداً والى جانبه شخص آخر، ما لبثت ان عرفت عندما اقترب بأنه نعيم شاهين نفسه، الشيوعي المتعصب، وسمعته يقول، وهو يمد يده لي من فوق الربعة:
- هات يدك هات..
- الى أين نمضي – سألته.
- الى بيتنا.. وسط البلدة.. حيث تستريح.
- أليس من خطر علي في بيتكم ؟
- الجنود نيام.. وليس من المعقول ان يكتشفوا وجودك في بيتنا وسط البلدة.. انهم ينتظرونك في مدخل البلدة من جهة الجبل.
وأعطيته يدي.. فشد بها وقفزت الى جانبه فوق الربعة.. وصافحته.. ثم رحت أسير الى جانبه والصباغ يرافقنا، الى ان بلغنا بيته، حيث أصعدني علية منفردة جلست فيها أقول له:
- أريد ان أتناول قليلاً من الطعام.. ثم أنام.. لأني تعب جداً.
وغاب ليعود بعد قليل بفراش ووسادة وطعام، تناولته بسرعة، ثم استلقيت ونمت نوماً عميقاً ثقيلاً.
لم ادر كم بقيت نائماً.. ولكن نعيم أخبرني مساء اليوم التالي، بأني نمت تلك الليلة وطيلة النهار الثاني، وبأنه لو لم يوقظني، لكنت بقيت نائماً ليلة أخرى.
قال لي بأنه ليس من المناسب ان أبقى في بيته في وسط البلدة التي تعج بالجنود، ولذلك اتفق مع الرفيقين فارس مسعود ومحمد كبّول، ان يأتيا عند منتصف الليل، لكي يأخذاني الى بستان يقع شرقي البلدة، يوجد فيه كوخ صغير يصلح لايوائي.
وحضر الرفيقان المذكوران عند منتصف الليل، وسارا أمامي في وسط البلدة بحذر بالغ، ثم اتجها شرقاً، وراحا يتغلغلان أمامي بين البساتين العديدة التي تكثر في تلك الناحية، بسبب كثرة الينابيع التي تنبع على مقربة من عرنه في سفح جبل الشيخ الشرقي، حتى ليقال ان عدد تلك الينابيع يبلغ عدد أيام السنة، 365 ينبوعاً.
بقينا نسير الى ان بلغنا بستان تفاح كبير، قام في جانبه كوخ صغير الى جانب ينبوع رقراق.. فتركني الرفيقان في الكوخ وعادا الى البلدة، بعد ان قالا لي ان البستان يخص عم الرفيق فارس مسعود.
بت تلك الليلة في ذلك الكوخ على سرير من خشب، وعندما استيقظت صباح اليوم التالي شعرت بالجوع، فرحت أقطف تفاحاً يانعاً من الأشجار وآكله.
قضيت ذلك النهار في البستان وحيداً، دون ان يزورني أحد، ودون ان اتناول طعاماً سوى التفاح.. الى ان جاء الرفيقان فارس مسعود ومحمد كبّول مع حلول الظلام، فاخبرتهما عن عزمي على التوجه الى دمشق، فقالا لي ان ذلك مستحيل، لأن الجنود يدققون بهوية كل من يغادر البلدة، في سيارة الركاب الكبيرة الوحيدة التي تذهب الى دمشق كل صباح.
قر رأيي عندئذ ان أتوجه جنوباً الى القنيطرة – الجولان حيث يوجد أصدقاء لي، وحيث لا أعدم وسيلة أتصل بواسطتها برجال الحزب في دمشق.. وسالت الرفيقين اذا كان بالإمكان تدبير دليل، يسير معي الى القنيطرة، لأني لا أعرف الطريق أليها.. فأجاباني بأنهما سيعودان في مساء اليوم التالي بالدليل.
وهكذا حدث فعلاً.. وصل الرفيقان مع هبوط الظلام، ومعهما الرفيق يوسف الصباغ والدليل، فودعنا الرفيقين فارس مسعود ومحمد كبول، ورحنا نسير جنوبا في سفح جبل الشيخ الشرقي، قاصدين القنيطرة.
كان علينا ان نمر في بلدة بيت جن، التي يوجد فيها مخفر للدرك.. وبعد ساعتين بلغناها.. فقال لي الدليل، بأنه علينا ان نقوم بدورة طويلة، لكي نتجنب المرور أمام مخفر الدرك في البلدة، فقلت له بأنه لا لزوم لذلك، لأنه من غير المعقول، ان يكون رجال الدرك ساهرين في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وانهم يتوقعون مرور شخص ملاحق امام مخفرهم.
وتابعنا طريقنا.. ومررنا امام المخفر دون ان يعترضنا احد، ورحنا نضرب في سفح الجبل الى ان كاد يطلع الفجر.. وعند ذاك انحرفنا شرقاً ومضينا نبتعد عن السفح.. الى ان اقتربنا مع الصباح من مزرعة تدعى "الحميدية" تخص احد الملاكين الاقطاعيين، قال لي الدليل ان وكيلها صديق له يدعى حميد أيوب، وان سكان المزرعة من البدو فطلبت منه ان يقصدها.
نحو الساعة التاسعة صباحاً، كنا ندخل تلك المزرعة التي تبعد عن القنيطرة شمالاً ثلاثة كيلو مترات، ونقصد بيت الوكيل السابق ذكره، الذي استقبلنا بلطف دون ان يسألنا عن اسمائنا وقصدنا، وبسط لنا طعاماً لنأكل.. الى ان ذكرت أمامه فيما نحن نتناول الطعام، بأننا نقصد القنيطره لكي نشتري غنما منها.. فتظاهر بالتصديق ولم يعقب بشيء.
ولكن عندما نهضنا لكي نتابع سيرنا قال لنا:
- ليس من المناسب ان تتابعوا سيركم وتدخلوا القنيطره اليوم.
- ولماذا؟ سألته.
- ان القنيطره تعج برجال المكتب الثاني.. فإذا دخلتموها اليوم يلفت دخولكم إليها الأنظار.. ومن المرجح ان يقبض عليكم.
- ولماذا يقبض علينا؟ - اجبته – نحن مسالمون وقصدنا شراء غنم لا غير.
- لا يبدو عليكم أنكم تجار غنم.. أنتم من رجال الحزب القومي السوري فارين من لبنان.. كما أنتم مطاردون في سورية.. لذلك لا اشير عليكم بدخول القنيطره اليوم.. انتظروا الى غد الجمعة.. ففي يوم الجمعة من كل أسبوع يقام سوق كبير في القنيطره، يقصده المزارعون والبدو من المناطق المجاورة بالالوف.. لذلك اقترح عليكم البقاء هنا الى صباح الغد.. فتتابعون سيركم موفقين.. وتدخلون القنيطره مع الوف الداخلين اليها.. فلا يلفت دخولكم الأنظار.
أعجبت بالرجل وذكائه ودقة ملاحظته ونبله وغيرته، وشكرته بحرارة على نصيحته وحسن ضيافته وكرم أخلاقه، وبقينا عنده نتناول معه مختلف الاحاديث.
في اليوم التالي ودعنا ذلك الرجل النبيل الكريم حميد أيوب، وتابعنا سيرنا الى القنيطره من الجهة الشمالية.
كنت قد درست في القنيطرة عام 1939 وأقمت فيها ما يقارب العام.. وقد تمكنت أواصر صداقة عميقة بيني وبين عائلة سليمان النداف، أثناء إقامتي وتدريسي لأولاد تلك العائلة، لذلك عزمت على ان اقصد بيتها وهكذا كان.
قصدت بيت عائلة النداف لدى وصولي، فرحبت بي تلك العائلة الكريمة، وأظهرت سرورها عندما رأتني، لأن اخبار ما حدث في راشيا واحتلال الجيش والدرك لها، وأخبار ملاحقتنا كانت قد بلغتها.
لم أشأ البقاء في بيت النداف، كي لا اعرضهم لمكروه فيما اذا اكتشف امر وجودي عندهم، وقررت ان ارسل من يستدعي الرفيق فريد بشاره، الذي كنت قد علمت بأنه انتمى للحزب، أثناء دراسته في مدرسة الفنون الأميركية في صيدا.
أرسلت تلميذي السابق سليم النداف ابن العائلة المضيفة كي يستدعي فريد، وجلست في غرفة منعزلة أنتظر وصوله، بعد ان ودعت الرفيق يوسف الصبّاغ الذي أظهر رغبته بالعودة الى لبنان.
بعد انتظار ما يقارب الساعة، وصل الرفيق فريد بشاره، فقلت له انه ليس من المناسب بقائي في بيت عائلة النداف، فأعرّضها لمكروه، فضلاً عن انني أريد التوجه الى دمشق بأي طريقة كانت، فدعاني عندئذ الى بيته، فنهضت وودعت عائلىة النداف وسرت الى جانب فريد.
سار الى جانبي في حارة الداغستان غرباً، متجنباً المرور في الشوارع التي تتوسط البلدة، فدرنا دورة كبيرة ثم انعطفنا شرقاً الى ان بلغنا بيته.. وقد لجأ الى ذلك كي لا نلتقي بأحد يعرفني.
قدمني لوالدته وزوجته وشقيقته عندما وصلنا، وقال لهن بأني سأبقى ضيف عندهم بضعة أيام، دون ان يعلم أحد غير أفراد العائلة بوجودي، وأفرد لي بعد ذلك غرفة خاصة، دخلتها وبقيت مطمئناً.
بقيت في تلك الغرفة أربعة أيام، طلبت بعدها من فريد ان يدبر لي طريقة أتمكن بواسطتها من بلوغ دمشق فوعدني خيراً.
في صباح اليوم الخامس.. فيما أنا جالس أتسلى بكتابة بعض الرسائل، فتح باب الغرفة فجأة بعنف، وأطل منه ضابط طويل القامة صبوح الوجه أخضر العينين، بادرني حالاً عندما رآني بلهجة غاضبة:
- خربتم لبنان.. وبدكم تخربوا سورية، ماذا تفعل هنا؟
انتشلتني لهجته الغاضبة من دهشتي وأدركت عندما رأيته يدخل بتلك الطريقة، ويقول ما قال.. أنه قضي الامر واكتشف أمري، وان ذلك الضابط آت لكي يقبض علي.. فانتفضت عندئذ واستولى علي غضب جارف، اثارته في لهجته الشامتة المتحدية، فنهضت وأجبته بصوت عال متحدي:
- نحن لا نخرب لبنان.. نحن نبنيه من جديد.. وننقذه من جلاديه وسفاحيه.
وطرفت عيناه عندما سمعني أقول ذلك.. ولبث برهة يحدق بي.. ثم افتر ثغره عن ابتسامة صبوحة أدهشتني.. فيما كان يدخل الرفيق فريد بشاره وهو يبتسم أيضاً ويقول لي:
- لا تخش شراً.. هذا رفيقنا الضابط غسان جديد.
وفجأة.. قفز الى ذاكرتي عندما سمعت ذلك، ما كنت قد قرأته في احدى منشورات الحزب، عن هذا الرفيق الضابط، وما اظهره من بطولة في مقارعة الفرنسيين في حمص، أثناء انتفاضة الشعب السوري في سبيل الاستقلال، فعادت لي الطمأنينة ورحت احدق بالضابط. الذي ابتسم من جديد، ثم تقدم نحوي ومد يده لي مصافحاً.. ثم عانقني عناقا حاراً.
ثم جلس على كرسي أمامي، وطلب مني ان أروي له ما جرى معي، فمضيت أحكي له ما جرى منذ ان قابلت الزعيم في دمشق المقابلة الأخيرة، وهو يصغي بانتباه، وعلى وجهه تبدو مظاهرة التأثر والحزن والغضب، الى ان قال لي عندما انتهيت:
- سوف يدفع الخائن حسني الزعيم ثمن خيانته.. وليس ذلك ببعيد.
قال هذا وصرف بأسنانه واشتد بريق عينيه.. وصمت قليلاً يفكر.. ثم سألني:
- وماذا تريد الآن؟ الى اين تريد ان تذهب؟
- الى دمشق.. للألتقاء بمسؤولي الحزب – اجبت.
- حسناً.. استعد إذا.. غدا صباحا تذهب الى دمشق.
- وكيف ذلك ؟
- سأرسل معك رقيباً من شرطة الجيش في سيارة جيب عسكرية.. فلا يعترضك احد على الطريق.. ويوصلك الى حيث تريد.
- شكراً لك.. آمل ان نلتقي مرة ثانية.
- سنلتقي ولا شك.. على طريق النهضة.. ونتابع أداء رسالة الزعيم.
ونهض وصافحني وهو يقول:
- عندما تصل دمشق.. بلغ المسؤولين في الحزب سلامي وقل لهم بأني سألقاهم قريباً.
وانتصب.. ورفع يده بالتحية السورية القومية الاجتماعية وقال:
- لتحي سورية.
فأجبته:
- ليحي سعادة.
وخرج بعد ذلك وهو يبتسم وأغلق الغرفة وراءه.
*
في صباح اليوم التالي وصل الرقيب بسيارته فودعت الرفيق فريد بشاره وشكرته فقال لي:
- كنت في دمشق اول امس.. وزرت بيت الرفيق سامي الخوري(4) واخوته، فأتوا على ذكرك وابدوا قلقهم عليك.. فقلت لهم إنك موجود عندي.. فسروا كثيراً واطمأنوا.. وطلبوا مني ان أبلغك سلامهم.. لذلك أرى ان تقصد بيتهم عندما تصل دمشق.
وأعطاني بعد ذلك عنوانهم في شارع القصاع في دمشق..
وسارت بي السيارة بعد ذلك يقودها الرقيب.. ولم يعترضنا احد على طريق دمشق..
وعندما وصلنا.. قصدنا حي القصاع القريب من حي باب توما، حيث اهتدينا الى بيت الرفيق سامي الخوري بعد السؤال.
واستقبلني بحرارة الرفقاء سامي وعادل وعارف وغالب وشقيقتهم عبلة(5)، أبناء شقيق فارس الخوري من بلدة الكفير، الذين كنت أعرفهم من قبل، ورحبوا بي.
كانت قد بلغتهم أخبار وصول الجيش اللبناني الى بلدتهم الكفير لملاحقتي، وجعل المقدم حيدر بيتهم مقرا له يدير منه عمليات الملاحقة.
بقيت في بيتهم يومين، مغموراً بعطفهم وكرم اخلاقهم وفي اليوم الثالث، حضر الرفيقان عصام المحايري وجورج بلدي للسلام علي، وطلبت مني مرافقتهما، لأنه من غير المناسب بقائي في بيت الرفيق سامي الخوري، الذي يقصده يومياً مواطنون عديدون، فنزلت عند طلبهما.
وسار بي الرفيق جورج بلدي الى بيت خاله في حي باب توما، الذي كان خالياً، فبقيت في ذلك البيت وحيداً ثلاثة أيام.. كان خلالها الرفيق بلدي يأتيني بالطعام اللازم وصحف لبنانية، تعج ىباخبار ملاحقة القوميين في لبنان.
وكنت لا أزال احتفظ بجريدة "الحياة" البيروتية التي كنت قد عرفت منها في جبل الشيخ خبر القاء القبض على الزعيم و"محاكمته" الشكلية وإعدامه رمياً بالرصاص.. وها أنا أنسخ هنا بكل أمانة، ما كانت قد نشرته تلك الجريدة عن الموضوع.. في عددها رقم 969 تاريخ 8 تموز 1949.
هوامش:
(1) عرفت فيما بعد ان ذلك المواطن كان والد الرفيق فارس زويهد الذي تسلم مسؤولية منفذ عام حاصبيا، وكان بطلاً كبيراً.
(2) خطار نعمه: سلم الرفيق خطار نعمه هذه الرسالة بعد ان تسلمها، لمنفذ عام الحزب في البرازيل، الرفيق وليم بحليس، فنشرها في جريدة "الحقيقة" التي كانت تصدر في الريو دي جانيرو فاحدث نشرها ضجة كبيرة بين المغتربين، وسببت استنكارا كبيراً واسعا لأعمال الحكومة اللبنانية وتصرفاتها الوحشية.
(3) جورج معلوف: الأمين المناضل. اقرأ عنه على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info
(4) سامي خوري: كما آنفاً.
(5) عبلة خوري: كما آنفاً.
|