في اكثر من مناسبة تحدثنا، ونشرنا عن الأمين الصديق المحامي عبد الوهاب بعاج احد اميّز رفقائنا في دير الزور لجهة توليه العديد من المسؤوليات وحضوره المتقدم في ميادين شتى.
مؤخراً صدر للامين بعاج كتابه الغني بعنوان "أقسم انا" وفيه الكثير عن احداث في سيرة حضرة الأمين ومسيرته الحزبية
اذ نشير الى الكتاب الغني بالمعلومات والوثائق نعمم ما كان وردنا من حضرة الأمين الدراسة القيمة بعنوان "ذكريات: من معاناة قومي اجتماعي"، مع شكرنا وتقديرنا وانتظارنا من حضرة الأمين الكثير من المؤلفات التي تغني تاريخ الحزب
الأمين لبيب ناصيف
*
مقدمة عامة
دير الزور، محافظة مترامية الأطراف، مساحتها تتجاوز مساحة لبنان. حدودها: شرقاً البوكمال على حدود العراق، شمالاً على مسافة 150 كم باتجاه الجزيرة (الحسكة)، غرباً ما يقرب 150 كم إلى حلب، بعد حدود الرقة، وجنوباً البادية الشامية، وكانت هذه الحدود تُسمّى محافظة الفرات. وهي وريثة سنجق دير الزور، في فترة الاحتلال العثماني، وكانت تشمل عانة وحدود الموصل.
دير الزور من الناحية الاجتماعية، تحكمها العلاقات والعادات العشائرية في المدينة، والقبلية في أريافها.
والناحية الاقتصادية، فهي منطقة زراعية حقلية، رعوية تربي الأغنام وما يتبع الأعمال، ومن الطبيعي أن تقوم صناعتها على ما تحتاجه الزراعة والرعي من النواعير والغراف، إلى المنجل.
وترتبط دير الزور بالمحافظات الأخرى بطرق بريّة، قديمة وضيّقة وتعبيدها بدائي، وأكثر صلاتها وارتباطها مع حلب مروراً بالرقة، وإلى دمشق من حلب عبر حماة وحمص، وكان السفر يشكّل معاناة، يوماً إلى حلب ويومان إلى دمشق، وكانت حلب تحتكر تجارة دير الزور.
التمثيل السياسي، كان يحتكره كبار الأغنياء والتجار من المدينة، وشيوخ القبائل والعشائر. في الريف، يشكّلون القوائم ويفرضونها، تشمل شخصيات ترتبط بالحزبَين المعروفين، الوطني والشعب.
أمّا التلوينات الحزبية والفكرية، فليس لها تواجد فاعل على الأرض سوى بعض الأسماء من هذا الحزب أو ذاك.
ومع ذلك، فقد عرفت دير الزور نوادٍ فكرية وإصدارات لمجلات أدبية وسياسية، ولكنّها سرعان ما تتوقف بسبب ضعف الإمكانات المادية، وكذلك الرقابة السلطوية أجنبية ووطنية.
*
البداية بعد الاستقلال
كانت مرحلة الاستعمار الفرنسي تجمع الناس لفكرة الخلاص من المستعمر، وهذه مهمة تجمع كلّ الأفكار والتوجهات.
المحور لكلّ الحركات، طلاب المدارس، وعلى رأسهم التجهيز (ثانوية الفرات)، وكانت وحيدة، وتقوم مظاهرات الطلاب لمطالب وطنية على رأسها فلسطين والإسكندرون، ومطالب معيشية، ولم يكن لها أي طابع حزبي معيّن.
أما بداية الوعي السياسي والحزبي، فقد بدأت مع انتشار الصحافة بشكل واسع، أهمها صحف دمشق والقاهرة وبيروت، وبدأت تتضح الاتجاهات الحزبية والسياسية من خلال هذه الصحف، وكان أول ظهور وأكثره الإخوان المسلمون، يليه الشيوعيون فشخصيات الحزبَين الوطني والشعب.
أما التعليم، فكان يقتصر على المراحل الابتدائية، والتجهيز (إعدادي)، التي أصبحت ثانوية الفرات، ولم يكن للبنات إلا الابتدائية، والدراسات العليا لم تكن ميسّرة إلا للقليل من أصحاب الإمكانات، الذين يبعثون أبناءهم إلى حلب ودمشق وبيروت.
أما الوظائف، في التعليم والإدارة، فالغالب لأبناء المحافظات الأخرى دمشق، حلب والساحل، من منطلق أنّ ابن المنطقة لا يصلح للخدمة بين أهله، يُضاف إلى ذلك قلّة المؤهّلين والمدرّبين، وهذا تبرير للسلطات التي لا تريد للمنطقة إلا أن تكون متأخرة.
*
بدء تواجد الأحزاب
أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات، بدأت عودة الدارسين في الجامعات، وخاصة السورية في دمشق، وأغلبهم مدرّسين غالبيّتهم ماركسيين ومن الأخوان المسلمين، وأخذوا ببث أفكارهم ومعتقداتهم، وميدانهم المدارس وخاصة الثانوية، وكانت الغلبة فيها للماركسيين، منهم من يعلن ارتباطه الشيوعي للدعوة إلى الانضمام إلى التنظيم، ومنهم من ينفي ارتباطه وهم مرتبطون سرّاً. أما الأخوان، فقد اتجهوا إلى ميدانهم الأوسع، دور العبادة، حيث يلتقي المصلّون، وكان غالبيّتهم من الأميّين. لذا، فقد وجد الأخوان في هذا الفراغ ضالّتهم، فقاموا بإجراء دورات محو أمية، وبذات الوقت توجيه ديني أخواني.
أما الاتجاه الثالث العروبي، فهو يبدأ بالنادي الثقافي العربي الذي يرأسه ويديره السياسي المعروف السيد جلال السيد، ويجمع عدداً من أصدقائه وأقاربه من العشيرة إلى جانب عدد من الطلبة، وكان هذا النادي يصدر مجلة أدبية فكرية تدعو إلى الأمة العربية الواحدة. عندما التقى جلال السيد مع ميشيل عفلق وصلاح البيطار، أعلن جلال السيد تحول النادي إلى فرع لحزب البعث العربي بمكوّناته من الأصدقاء والأقارب والطلاب.
حتى هذا الوقت، لا اسم للحزب السوري القومي الاجتماعي على مسرح التداول، رغم وجود بعض الأسماء، من دون نشاط أو فاعليّة. هذا مع استثناء ما تبيّن لنا بعد ذلك من نشاط قومي اجتماعي منحصر بالعمل ضدّ المحتل الفرنسي، كان يقوم به قوميّون من غير أبناء البلد، خصّصنا لهم فصلاً خاصاً.
على إثر الثورة القومية الاجتماعية، الطريقة التي خُطف فيها سعاده، بخيانة من حسني الزعيم وبمؤامرة شاركت فيها دول وعلى رأسها "إسرائيل"، وثمّ محاكمته وإعدامه بليلة واحدة.
كان لهاذ الفعل الصدى المدوّي الذي أظهر القوميين إلى العلن، وبدأت طلائع الهاربين من القوميين من ملاحقة حكومة لبنان، وشكّلت قيادة في دمشق بعد انتقام الضباط القوميين بإعدامهم حسني الزعيم ورئيس حكومته حسني البرازي.
بدأت الصحافة العربية تنشر الأخبار والمقالات، بمختلف الاتجاهات، لكل حزب صحفه ومجلاته، إضافة إلى صحف لبنان ومصر.
كانت مجلة الدنيا لصاحبها ومديرها عبد الغني العطري، تحمل أخبار الحزب ومقالات عنه، وكانت المنبر الأول له في دمشق، إلى أن صدرت جريدة الجيل الجديد.
التقى القوميون الاجتماعيون أبناء البلد، الذين سبق لهم الدراسة والانتماء في المحافظات الأخرى، وشكّلوا تجمّعاً بين السر والعلن، انضمّ إليهم عدداً آخر ممّن اطّلعوا وتأثروا وانتموا.
تشكّلت مديرية مستقلة مديرها الرفيق محمد كافي الرحبي (موظف بمكتب محافظ دير الزور)، وكان معه آنذاك على ما أذكر محمد سعيد أحبش البعاج (مدرس لغة عربية)، عبد المنعم الرحبي (مدرس وشاعر)، أنور حباش (طالب ثانوي – لاعب كرة قدم معروف)، حسن الحاج محمود (طالب)، صبحي خلوصي الكطاف (موظف).
أصبح اللقاء والاجتماع علنياً في البيوت الخاصة أولاً، وفيما بعد بمكتب يحمل اسم الحزب، يقبل عليه الآخرون للإطلاع على مفاهيم هذا الحزب، وبالأخص شخصية زعيمه، وكان من اللافت للنظر الانضباط والتنظيم الذي يتحلّى به أعضاء الحزب.
ما ساعد على انتشار الحزب في المنطقة (الفرات) حركة المركز، التي ساهمت بإرسال الموفدين القياديين، وكان الأمين إلياس جرجي قنيزح يرافقه الأمين جميل مخلوف أول القادمين، وكان في كل مرة يحضر يُستقبَل استقبالاً رسمياً بنظام وانضباط وهتافات لم يكن البلد اعتاد على رؤيتها من الأحزاب والتنظيمات الأخرى.
ولم تكن زيارة عميد الداخلية (الأمين إلياس) تقتصر على الشأن الداخلي للمديرية وشؤونها، بل كانت المديرية تدعو المواطنين، إضافة للقوميين، إلى محاضرة أو ندوة فكرية يتحدث فيها، ويجيب على الأسئلة والتساؤلات بأسلوب محبوب يختص به الأمين إلياس.
وكان الحضور يشمل من الشباب والكبار، من مختلف أطياف المجتمع، وحتى الاتجاهات.
لم تمرّ أشهر إلا والمديرية أصبحت منفذية، مديريتان في المدينة، وواحدة في الميادين والرابعة في البوكمال.
في هذه الفترة كان النشاط الفكري والحوارات هو الغالب، يعتمد الشيوعيون على ما يغذّيهم الاتحاد السوفياتي من المنشورات الماركسية – اللينينية، أما حزبنا فقد بدأ بصحيفة "الجيل الجديد"، وقتها من أفضل الصحف تحليلات صحافية سياسية، محلية ودولية، ثقافة في الأدب والتاريخ السوري. إضافة لدورية النظام الجديد، التي تحوي كتابات الزعيم.
أما البعث، فليس لديه من الثقافة إلا جريدة "البعث" الأسبوعية، وينحصر فكره في "أمة عربية واحدة – ذات رسالة خالدة"، وكل تاريخ أمتهم لا يتجاوز عهد الرسالة المحمدية.
ولما كان الانتشار الأخواني بين جمهور المتديّنين – وغالبهم دون ارتباط أو التزام – كان الشيوعيون بين الطلبة بتأثير من المدرسين ومن الفئات الفقيرة، التي تأمل تحسين وضعها المعيشي وفقاً للرعاية المدعومة من دولة كبرى.
بعد تشكّل المنفذية في العام 1952، تناوب على إدارتها ومسؤوليّتها كلّ من الرفقاء حسن عياش(1)، نديم سليمان وصالح عبود. ولهيئة المنفذية كان النظّار أسعد كمال ورفيق ملحم للتدريب، نديم سليمان وعبد الوهاب رداوي للمالية، إبراهيم هنيدي ناموساً، وللإذاعة صالح عبود وعبد الوهاب بعاج.
في الميادين مديرية يديرها محمد صلاح حريب، شقيق الأمين علاء، وكلّ من عبد المجيد وفوزي فريح ونجم وفريح، ونلحظ تأثير الأمين علاء رغم أنه غير مقيم في الميادين، وأيضاً إسماعيل الزركان وشاكر عوجان.
وفي البوكمال، نذكر المدير عزيز عثمان المرعي، رشيد العساف وآخرون لا نستطيع تذكّرهم. والمحطة الثانية (T-2) محطة ضخ النفط لشركة بترول العراق، حيث مجموعة نذكر منها جوزيف بحادي، وليم سيمون، جعفر صياح، إسماعيل عفدل، عطالله فطوط. كان الأمين نبيه نعمة يعمل في هذه الشركة بحمص، ويتردّد مشرفاً على المحطة الثانية، وكان له فاعلية بدعم الرفقاء المتواجدين فيها.
*
جماهير الأحزاب عامة
الأحزاب التقليدية ليس لها جمهور منظّم، يقتصر جمهورها على أموال الأغنياء منهم وعلى كتلة أبناء الريف المتحالفة، في فترة الانتخابات فقط.
الحزب الشيوعي الأممي، يعتمد كما ذكرنا على دعوة الفقراء لتأييده، لأنه سيرفع من شأنهم ويحسّن أوضاعهم المعاشية، معتمداً كما ذكرنا على دولة الاتحاد السوفياتي، الذي يقدّم له كل أسباب الدعم المادي والمعنوي، وبالتالي فقد شكّل جمهوراً واسعاً.
الأخوان، منهجهم الدين المحمدي بمذهبه السني – برؤى سياسية – والجمهور التابع ليس شرطاً أن ينتظم في صفوفه، لذلك رغم العدد بقي ضعيف الفعالية، وبقي نشاطه الفكري منحصراً في الخطابات الدينية، كما استفاد من انتشار الأمية فعرف كيف يستغلّها.
والبعث، قلنا إن منشأه عشائريّ، شخصي، تابع لعشيرة مؤسسه الأول السيد جلال السيد، وعشيرته الخرشان ومحالفيها، بقي زمناً محصوراً في هذا النطاق، إلى أن انجذب إليه بعض من الطلبة بتأثير من بعض المدرسين القادمين إلى المدينة من خارجها. وأصبح يضمّ مجموعاتٍ غير منضبطة سلوكياً وأخلاقياً، مع عطالة تجعل منهم أداة كل فعل مخالف، وأدوات تتحرّك لكل فعل شائن، مجموعة تسمّى "حارة الكجلان" يبدو أنهم انضموا للحزب حين افتتح مكتبه في ذات الحارة.
في هذه الحالة، أصبحنا جبهة منفردة بمواجهة مجموعة، جامعها الوحيد معاداتنا، ليس فكرياً فقط، بل قوة شعبية وقوة في الأفراد.
*
سياسة الانتخابات
على إثر استشهاد الزعيم وانتشار الحزب في الشام، شارك بالانتخابات للمجلس التأسيسي، ففاز عصام المحايري بعضويته، رغم تحالف القوى الأخرى ضدّه وخاصة الشيوعيين والأخوان.
في دير الزور، كانت التجربة تختلف من حيث القوى الاجتماعية والسياسية. في العام 1952 بعد عدة انقلابات، تسلّم أديب الشيشكلي رئاسة الدولة، لم يشترك معه الحزب مع أنه معروف أنه عضو في الحزب، حتى الآن الأمر واضح في هذه الناحية، لم يظهر على العلن، ولم يُكتب في تاريخ الحزب، هل أصاب الحزب أم أخطأ؟
انفرد الشيشكلي والتفت حوله مجموعة من الطامعين، ألغى الأحزاب وفرض جمع الصحف وشكّل حزباً بِاسم منظمة التحرير العربي، ألزم الموظفين الانتماء إليها، إضافة للطامعين بالسلطة والانتهازيين، وأجرى انتخابات عامة وفق هذا المخطط والبرنامج.
الحزب، رسمياً ممنوع كما الأحزاب الأخرى، لكن نشاطه شبه علنيّ لا يعترض أحد عليه.
قرر الحزب المشاركة في هذه الانتخابات بدير الزور، وكان المرشّح الرفيق حسن عياش. من الطبيعي فوز قائمة حركة التحرير ومؤيّدي السلطة، مع مقاطعة بقيّة الأحزاب، وفاز الرفيق زكي نظام الدين عن الجزيرة تزكية، أما باقي مرشّحي الحزب فقد أُسقِطوا.
هذا الموقف السياسي، إلى جانب الخلافات والمواقف السابقة، أكسبتنا جديداً ومزيداً من العداء والصدامات مع هذه الأحزاب. وقد اكتملت هذه الصورة حين تجمّعت هذه الأحزاب والقوى السياسية، مع مجموعة من العسكريين للانقلاب على حكم الشيشكلي، ورفضت أن يكون الحزب السوري القومي الاجتماعي شريكاً في هذا الانقلاب، لاعتبار وفق نظرهم، وجزء من الواقع أنّ حزبنا كان مع الشيشكلي، رغم أنّ الرفيق زكي نظام الدين ساهم بإقناع الشيشكلي بالتخلي عن الحكم ومغادرة البلد، حقناً للدماء، لأنّ الصدام بين القوات المنقلبة والقوات المؤيدة كانت جاهزة للصدام. إنّ هذا الموقف لم يؤخذ بالحسبان.
بعد أن تمّ الانقلاب على الشيشكلي، كانت دعوة لانتخابات جديدة (عام 1953)، وكان إصرار قيادة الحزب على دخول هذه الانتخابات، وكان مرشّح دير الزور، ... الرفيق حسن عياش.
الجو الانتخابي في المنطقة تحكمه العلاقات المالية، والعشائرية القبلية، من المرشحين شيوخ العشائر وأقطاب المال محمد العايش (والد الرفيقَين عبد اللطيف ويحيى، وابن عم الرفيق حسن) وعبد الرحمن الهنيدي، من أقطاب المال في حلب، عضو حزب الشعب. لهذا الجو وفقر الإمكانات البشرية والمالية لتغطية هذه الانتخابات، كانت هيئة المنفذية معارضة للترشّح. بينما المركز والرفيق حسن داعمين له، بدون مال ولا رجال. الرفيق حسن يظنّ أن علاقاته مع بعض أفراد العشائر ومكانة الحزب في دير الزور، كانت كافية لخوض المعركة، مع فكرة كسب الدعاية للحزب حتى ولو لم ينجح المرشح.
بدأت الانتخابات بتشكيل قائمة العشائر ومقاطعة من الأحزاب، وبقي المرشح المنافس الوحيد حسن عياش، لم تأخذ أهمية له تلك القائمة.
بدأت حركة الحزب في تنظيم دعايتها وتوزيع بياناتها ونشراتها، خاصة في المدينة، إلا أنّ المنطقة واسعة مئات الكيلو مترات في كل اتجاه، مدن وقرى تحتاج إلى تغطية بالدعاية والمال، الآليات والسيارات رغم قلتها، فقد حجزتها إمكانات القائمة عدا عن سياراتهم الخاصة.
قامت الحسكة بإرسال سيارة وحيدة مع بعض الرفقاء للمساعدة، ولكن أين منها قوة وإمكانات القائمة، والمدعومة أيضاً من السلطات الرسمية.
في المرحلة الأولى من هذه المعركة، كان عدم الاهتمام بمرشّح الحزب ظاهراً عند القائمة، إلا أنّ حركة الأصوات الانتخابية بدأت تُظهر جدية لصالح مرشّح الحزب.
كانت بعض الفئات من المدينة غير راضية على تلك القائمة، لاستبعاد بعض الشخصيات، لذا كان لها موقف قرّرته بإعطاء صوتها لمرشّح الحزب، الأمر الذي أزعج القائمة وحرّكها تجاه مرشح الحزب، طالبة إليه الانسحاب، عارضة بعض المال، مستغلة قرابته من محمد العايش.
لم تكتمل الانتخابات في اليوم الأول، ومُدّدت إلى نهاية اليوم التالي. هنا وجّه السيد محمد الفتيّح، من أعضاء الحزب الوطني، عضو سابق لمجلس المبعوثان ونائب عن دير الزور ومن شخصياتها العشائرية، والمعارض للقائمة، وجّه أنصاره لانتخاب حسن عياش بقوله إنّ الأحزاب المقاطعة كانت على خطأ، وموقف الحزب السوري القومي الاجتماعي الصحيح، لذلك على مناصريه منحه أصواتهم.
هنا ننقل بعض ما كتب الرفيق حسن عياش في هذا الصدد "عادت المساومات مع مرشّح الحزب، ولكن ليس عن طريق أقاربه، بل عن طريق السلطة"، يقول: "فبينما كان سائراً على قدميه لتفقّد أحد المراكز، وإذ بسيارة قائد الشرطة تقف بجانبه، يقودها هو بنفسه، ولم يكن معه أحد، وطلب منه أن يوصله حيث يريد، فاعتذر (الرفيق حسن)، ولكنه ألحّ وقال إنّ له شغلاً معه، فركب بجانبه وأخذ يلمّح بعض التلميحات حول فشل الحزب بالمعركة وتكبّده الخسارة المادية، وجلب نقمة من الفئات الأخرى المقاطعة للانتخابات، ومن الأفضل الانسحاب من المعركة". ثم يتابع على لسان قائد الشرطة: "إنك تستطيع أن تجد الأسباب الكثيرة لتبرير انسحابك، وإنني، إذا وافقت، مستعد لأن أدفع لك مبلغ خمسة وسبعين ألف ليرة سورية، دون أن يعلم بذلك أحد، فطلبت منه إيقاف السيارة ونزلت منها، وأعلمت المنفذية بذلك".
تمّت الانتخابات وجرى الفرز بتدخّل السلطة، وربح الحزب آنذاك موقفاً، وزيادة وحدّة في مخاصمة الآخرين من الجهات السياسية.
*
التحرشات والصدامات
ذكرنا أن نموّ قوة القوميين الاجتماعيين في دير الزور المدينة العشائرية – القبلية، ذات الاتجاه العروبي بمفهوم "نحن عرب"، ويقود هذا الاتجاه البعث مدعوماً بالعشيرة التي ينتمي إليها غالبية الأعضاء (الخرشان وحلفائهم بما فيهم عشيرة الشيوخ التي عائلتنا محسوبة عليها).
الشيوعيون والأخوان، غالبية جمهورهم من الفئات العشائرية الضعيفة، لذا فهم وإن كانوا في هذا الموقف من الحزب السوري القومي الاجتماعي ومعاداته، إلا أنهم لا يحاولون الصدام أو التحرّش.
يقول الرفيق حسن عياش: "أصدر بعام 1953 – 1954 كلّ من الحزب الشيوعي والبعث أمراً إلى أعضائهما، بعدم الدخول في نقاشات فكرية مع أعضاء الحزب السوري القومي الاجتماعي".
كان البعث بتكوينه المذكور يشكّل رأس حربة للتحرّش والاعتداء، ولكنهم يخشون المواجهة، ولكن يبقى الجو في حالة من التوتر وخشية الصّدام، وعلى هذا يذكر الرفيق حسن عياش: قام محافظ دير الزور بـ" جمع مسؤولي الطرفين (لقومي والبعث)، وطلب إليهم إيجاد حلّ لهذه الاصطدامات. فاتفق الطرفان على أنّ أي عضو من أعضاء الحزبين يتعرّض إلى نوع من الإهانة أو التحرّش، عليه أن يراجع مسؤوليه، وهم يتصلون بمسؤولي الفريق الآخر ويسوّون الأمر".
في هذا الجو من التصادم والصدام، تجمّعت القوى السياسية وبعض من العسكريين وقامت بانقلابها على حكم الشيشكلي، عام 1954، وقلنا أيضاً إنّ هذه القوى لم تقبل مشاركتنا معها في الانقلاب، على أساس أننا محسوبين على حكم الشيشكلي وعهده، مما زاد في الأمر حراجة في موقفنا السياسي، بعد إصدار الحزب بياناً في سياسة الحزب فُسِّر على أنه تقارب مع الأميركان، بينما الجو العام يتجه أكثر يسارية وتقرّباً من الاتحاد السوفياتي.
*
الصدام والاعتداء على المكتب
تزايد القوى اليسارية ووضع يدها على مراكز في السلطة، في الجيش والقوى الأمنية، وسائر الوظائف في أجهزة الدولة، مما أعطى الإشارة إلى عناصر البعث أن ترتب اعتداءً مبيتاً على الحزب.
قلنا إن ثانوية الفرات هي المدرسة الوحيدة في البلد التي تحوي عنصر الشباب، الذين يمثلون الأحزاب (بعث – شيوعي – أخوان – قومي)، وكانت هذه المدرسة هي المطبخ للقيام بالتظاهرات الوطنية والمطلبية والمعاشية.
كان يلتقي في هذا المطبخ ممثلو الأحزاب من الطلاب، ويتدارسون اقتراح القيام بالتظاهر، إن نال الموافقة شارك الكل، وإن لم تنل الموافقة تُلغى الفكرة، أما إذا نالت أكثرية فللجهة المخالفة الحق بعدم المشاركة. يُضاف إلى ذلك تحديد نوع اللافتات والشعارات.
في أوائل العام 1955، تقرّر إجراء مظاهرة امتنع القوميون عن المشاركة فيها. انطلقت هذه المظاهرة من أقصى الغرب، حيث موقع الثانوية، سائرة باتجاه الشرق حيث مركز المدينة (حيث قيادة الجيش – قيادة الشرطة – المحافظ)، يقع مكتب الحزب في أوائل هذه المسيرة، عند وصول التظاهرة أمام مكتب الحزب، وقفت ورفع البعثيون شعارات معادية للحزب، لم تكن من ضمن برنامج التظاهرة، ولم يكتفوا بذلك بل بدأت هتافات مشينة للحزب.
لم يكن وقتها من المتواجدين سوى عدد قليل، من بينهم الرفيق عبد الرزاق بعاج مدير المديرية، أحمد مضحي المدرب، والرفقاء عصام خوري (والده القس جميل ممثل الطائفة الإنجيلية التابعة للمشفى الأميركي)، جبرا توما ماروكي (أبو نصر)، فتح باب المكتب وصرخ المدرب "قوميون"، واتجه الموجودون باتجاه التظاهرة، فصاح أحد المتظاهرين "إجاكم القوميون"، وإذ بالجمع ينفرط ويذهب كل واحد بجهة. التحق الرفيق عبدالله طه بالرفقاء عند رؤيته الحدث من محله التجاري المقابل.
عاد البعثيون بالتجمع بعد أن قام أحد قيادييهم الذي كان يرافق التظاهرة، وبدأ بإطلاق العيارات النارية من مسدس حربي كان بحوزته. هجم البعثيون على المكتب الذي دخله الرفقاء وتمترسوا فيه، محاولين فتحه، فلم يستطيعوا. وهنا حضرت قوة عسكرية من قيادة الجيش القريبة من المكتب وسيطرت على الوضع، لكن السلطات لم تقم بأي إجراء ضدّ المعتدين، بمن فيهم مطلق النار (قاسم حداوي من قياديي البعث آنذاك).
أُصيب بعض الرفقاء بجروح، كان أشدّها إصابة المدير الرفيق عبد الرزاق بعاج. يقول الرفيق حسن عياش (المنفذ)، اجتمعت هيئة المنفذية وقررت الردّ بهجوم على مقر البعث (الواقع أقصى الشرق بالنسبة لمكتب الحزب ولامتداد الشارع الرئيسي للبلد) لإحراقه، وبقي توقيف الخطة موقوفاً على موافقة رئاسة الحزب. يقول الرفيق حسن عياش: "فاتصل المنفذ العام بالرئيس، الأمين جورج عبد المسيح، الذي منعه من القيام بأية حركة، وحذّره بقوله إنّ هناك مؤامرة تُحاك حول الحزب، وعلينا أن لا نعطي الفرصة لخصومنا".
بقي التوتر والحذر هو المسيطر، وقامت هيئة المنفذية بنقل وثائق وسجلات الحزب إلى أماكن، المفروض أنها آمنة.
*
اغتيال الرفيق محمد أمين جمعة
إنّ العار الذي لحق بالمهاجمين على مكتب الحزب، وقدرة العدد القليل من القوميين للتصدي لهم، وخذلانهم، بعد الدعم المسلح، من الدخول إلى داخل المكتب، وصمود الرفقاء البطولي. يُضاف إلى هذا الحدث، المعلومة التي تنتشر عن أنّ القوميين الاجتماعيين أشدّاء وهم حملة سلاح، وأن مواجهتهم خاسرة، لذا كان مخطط الغدر.
في ليل 21 كانون ثاني 1955، حيث يجتمع كالعادة القوميون في المكتب، وإذ بالهاتف من مجهول يقول إنّ ناظر المالية آنذاك الرفيق نديم سليمان قد يتعرّض لاعتداء مبيّت له (الرفيق نديم يعمل في تجارة الفواكه مع والده والأخوة، ومحلهم في وسط المدينة، وسط الشارع الذي يمتدّ من الغرب إلى الشرق، حيث مكتب البعث). من دون التأكد من المكالمة، وباندفاع، يمتطي الرفيقان محمد أمين وعبد الحميد منديل دراجة هوائية موجودة في المكتب، لأحد الرفقاء، متجهين حيث مكان الرفيق نديم، الذي يلي أسواق مظلمة لأنها لا تفتح ليلاً، تظهر لهم مجموعة من البعثيين وتهاجمهم، من دون أن يتمكن الرفقاء من المواجهة، فتوجّه إليهم الطعنات بالظهر أوقعتهم أرضاً مضرّجين بدمائهم.
نُقل الرفقاء إلى المشفى، وكان الرفيق محمد أمين حيّاً استجوبته شرطة المشفى، وكان الطبيب الوحيد المتواجد هو عبد الخالق نقشبندي، قيادي بعثي، وزير فيما بعد. تحرّكت السلطات وقيادة البعث لجعل الحادث مشاجرة أدت إلى وفاة، كما أُطلقت الإشاعات أنّ الرفيق محمد أمين يحمل مسدساً حربياً (بكرة)، إنما عملياً لم يكن لهذا السلاح وجود حتى في ضبط الشرطة، مع ملاحظة غياب قيادة الحزب عن التحقيق والإسعاف، بقي الرفيق ينزف إلى أن مات.
وكان أحد الممرضين ينقل بعض الكلمات التي ينطق بها وهو في النزع الأخير، وكانت آخر كلماته: "خذي يا سورية، دمي فداك".
أسفر تدخّل السلطات، مع قيادة البعث، وغياب دور قيادتنا في تلك اللحظات وكأنها أُصيبت بصدمة شلّت فكرها وحركتها.
المجموعة المهاجمة، وبترتيب من قيادتها، منها عناصر من أبناء العوائل المحسوبة على العشائر المؤيدة للبعث، ومنها من هو من عائلة ضعيفة فقيرة، تحمل الجرم منفرداً بأمل تخليصه ومساعدته (يسمى دموس البطاح ليس من عائلة الرفيق خضر البطاح الحصني)، تولّى الدفاع عن القاتل عدد من البعثيين، أبرزهم من كان يأتي من حلب المحامي عبد الفتاح الزلط (اتّهم فيما بعد بالمشاركة بتهريب يهود حلب إلى إسرائيل الأرض المحتلة)، وكان الرفيق صالح عبود وكيلاً للادعاء.
على أثر الحدث، حصل السيد جلال السيد على تفويض من قيادة البعث (القيادة القطرية)، وأغلق مكتب البعث وحلّ قيادته، وذلك لأن السيد جلال السيد يعرف البلد وتكوينته العشائرية، وأن الرفيقان محمد أمين من عشيرة لها وزنها وبدأت تتحرك للثأر، وعبد الحميد من ذات عشيرة جلال السيد.
إلا أنّ قيادة الفرع التي كانت وراء الحدث، والمدعومة من السلطات الحكومية، انقلبت على جلال السيد وأعادت فتح المكتب، الأمر الذي دعا جلال السيد للانكفاء في بيته. قامت قيادة الجيش بوضع حراسة على مكاتب الحزبين، وكان رئيس المفرزة في كلّ حادث ممّن يتولّى الحراسة على مكتبنا رقيب اسمه عفيف، عُرف أنّه قومي اجتماعي بعد تسريحه، كان صاحب محلّ في أحد مناطق شارع الحمرا في بيروت.
تشييع الشهيد
الغضب ملأ النفوس، وفكرة الثأر تشمل بعض أفراد عشيرة الرفيق الشهيد، ودافع القوميين الذين يشعرون بأنهم غُدروا، وأن هذا ما نال من مكانتهم وكرامتهم.
لُفّ النعش بعلم الزوبعة، وقرّر القوميون أن تكون مسيرة الجنازة عبر الشارع الرئيسي من مكتب الحزب غرباً عبر الشارع، مروراً بالدوائر الرسمية ومركز البلد، حتى مكتب البعث في أقصى الشرق.
تدخلت شخصيات رسمية وغير رسمية لمنع هذه المسيرة، لما قد تخلقه من شجارات لا تقتصر على الحزبين.
يتدخل من أقارب الشهيد وعائلته، سارت الجنازة بموكب .... القوميون، ويرافقه أمواج من الأهالي، مقربين وغير مقربين، إلى أن وصل الموكب إلى المقبرة التي تواجدت فيها ثلّة من الجيش، أدت التحية للجنازة. وبعد مواراة الجثمان الثرى أُلقيت بعض الكلمات ووضعت أكاليل الزهور بِاسم رئيس الحزب والمنفذية، وكان إكليل الرئاسة كُتب عليه عبارة "نعزي آل الفقيد... ونعتز بالشهيد". ونُشرت بعض الكلمات التي قيلت وأُلقيت في جريدة البناء، وأهمها الكلمة التي ألقاها في دمشق الأمين عصام المحايري في الأول من آذار، معلناً أن الغدر البعثي الذي أودى بحياة رفيق لنا، جاء فيها: "إن حربنا هذه، لم تتهاون فئة نؤمن أنها تضلل الشعب، أياً كانت، لأن في نفوسنا الثقة والإيمان بأمتنا، ما هو زادنا في المعركة والصراع، وما نؤمن معه بالانتصار الذي لا مفرّ منه.
في هذا الصراع الواعي نسير بجراحنا، لأنها جراح أعزاء لا جراح أذلاء، مرحبين بالسجن والاستشهاد، وبطعنات الغدر تُساق إلينا بأيدٍ مجرمة في ......".
وكان الرفيق محمد خلف الحمود قد كتب واصفاً الجنازة بالكلمة التالية: "سارت الجنازة بخطى ...... في طريقها إلى المقبرة، اكتظت الشوارع الشاغرة بالمخلوقات، وكان الناس ينظرون بذهول إلى ذلك التابوت، بل يحدقون تحديقاً دعاني أهمس لنفسي وأقول: يا ترى.. ألم يمت بطل قبل هذا الشهيد، ثمّ أعدت الكرّة وقلت لا. إنهم لم يشاهدوا جنازة مثل هذه الجنازة الرائعة".
*
التأبين
في أوائل نيسان، وبعد أن مرّ على استشهاد الرفيق محمد أمين أربعون يوماً، حضر إلى دير الزور الأمين كامل حسان وكان يشغل منصب وكيل لعميد الداخلية، حاملاً مرسوماً بتسمية الرفيق محمد أمين جمعة شهيداً للحزب.
تمّت الدعوة لحفل تأبين الشهيد، وكان الترتيب أن يتمّ ذلك على مرحلتين؛ الأولى نهاراً، حيث تواجد القوميون الاجتماعيون والمناصرون في مكتب الحزب، وبصفوف نظامية مع أعلام الزوبعة، متجهين إلى الضريح الذي تمّ بناؤه من الرخام الأبيض مزيّناً بالزوبعة الحمراء، وكُتب عليه من شعر الأمين محمد يوسف حمود "لا تلوموه إن مضى تاركاً خلفه دمه ... فالطريق الذي ارتضى سار فيه وتمّمه".
تقديم الرفيق بهيج أديب عريفاً للحفل، منوّهاً بمزايا الشهيد، تلاه الأمين كامل مرتجلاً كلمة عن قيمة الشهادة، وُضعت الأكاليل وعاد الموكب إلى مكتب الحزب. وفقاً للدعوة الجماهيرية التي حُدّدت للاحتفال العام مساءً في مقرّ الحزب، حيث توافد الجمهور من كافة الأعمار والاتجاهات، وغصّت صالات المكتب وغرفه بالوافدين وبدأ الحفل بكلمة من العريف الرفيق بهيج أديب، مقدّماً المندوب المركزي الأمين كامل حسان، الذي بدأ كلمته "الرفيق محمد أمين جمعة لم يمت، لم يزل، ولا يزول. إنه حيّ فينا في نفس كل قومي اجتماعي. إنه بطل، شهيد، والشهيد البطل لا يموت". وتابع: "شهداؤنا وإن سقطوا على أيدي غادرة من داخليين، فإنهم لا يجدفون ولا يشتمون هذه الأيادي، لأن نفوس القوميين الاجتماعيين لا تعرف الحقد على أيّ سوريّ من أبناء هذا الوطن".
*
المالكي قتيلاً والقوميون سجناء
القوميون الاجتماعيون في أساهم على رفيقهم محمد أمين، الذين اغتالتهم أيادٍ مجرمة تنتسب إلى البعث، أيادٍ تنتظر من القوميين رداً مماثلاً، إلا أنّ ما أُعلن من على منابر دمشق (الأمين محايري) ودير الزور (كامل حسان)، أننا جماعة لا تؤمن بالثأر الشخصي، وتعتبر ذلك من مخلفات القبلية والعشائرية التي جئنا نعمل على تغييرها. إلا أنّ ما نؤمن به غير ما يراه الآخرون من البعث وعامة الشعب في محيط بلدنا دير الزور.
وبينما نحن في هذا الجو، تنطلق رصاصات في الملعب البلدي بدمشق بتاريخ الجمعة 22 نيسان 1955، ليُعلن شوكت شقير رئيس الأركان العامة من على قاعة نادي ضباط دمشق فوراً، أنّ الحزب السوري القومي الاجتماعي قد أقدم على قتل العقيد عدنان المالكي.
هذا الخبر كان وقعه على جماهير دير الزور بأنه ردّ على اغتيال الرفيق محمد أمين، بحسبانهم أنّ القوميين لا يتنازلون عن دمهم، ويختارون الهدف.
انقلبت الأمور إلى الضدّ حين وضع الجيش يده على مكتب الحزب، وأغلقه بعد تفتيش محتوياته والاستيلاء عليها. وجاء اعتقال أعضاء هيئة المنفذية، منهم حسن عياش، صالح عبود، نديم سليمان، ووالدي جلال الدين بعاج (بديلاً عن عبد الوهاب بعاج ناظر الإذاعة، إضافة إلى أنّ بيته يُعتبر أحد مكاتب الحزب، ثلاثة من أولاده أعضاء ناشطين).
هنا، بدأ ردّ العناصر المعادية التي وجدت الفرصة قد جاءتها على غير المتوقع.
تولّى الجيش إجراءات الأمن والاعتقالات، باعتبار أن القتيل ضابط وأن الهدف مؤامرة ضدّ الجيش والدولة.
في دمشق شوكت شقير رئيس الأركان، عبد الحميد السراج المسيطر على المكتب الثاني (المخابرات) وأكرم الديري قائد الشرطة العسكرية.
وفي دير الزور، المكتب الثاني يرأسه الضابط فوزي شعيبي، يعاونه عدد قليل من المساعدين، منهم عبد الجبار خلوصي، صالح مطر، عبد المجيد تدمري، مصطفى درويش، نافع فاكوش، وكلّهم برتبة مساعد، وجرجيس مطر مدني، كلّهم من دير الزور ويستعملون للاعتقال والتعذيب عناصر الشرطة العسكرية التي يقودها المساعدان جاسم ويس (أصبح ضابطاً فيما بعد، ذكرته الأمينة الأولى في مذكراتها واعتبرت أنّه كان يتآمر على قتلها، بعد الانفصال أصبح لاجئاً في مصر، وعاد متقاعداً إلى الوطن) وجاسم العتيقة.
الشرطة تعتقل وتعذّب بالفلق واللذعات الكهربائية، بواسطة جهاز هاتف يدوي مع سكب الماء زيادة في لسعات الكهرباء. وكان التحقيق مجرّد تعذيب وتحقير، والسؤال عن عناصر عسكرية في الجيش وأعضاء آخرين في الحزب. وكان يلاحَظ وقتها أنّ بعضاً من هؤلاء العناصر يتهرّب من الضرب والتعذيب، ومنهم إن أُلزموا يكون ضربهم خفيفاً.
لم أتوارى في بداية الأمر رغم اعتقال والدي (الذي أُطلق سراحه مجرّد وصوله دمشق، ربما لمعرفة كونه غير منتمٍ للحزب، أو بتدخل من أكرم الديري الذي تربطه بالعائلة الكبرى علاقة قربى)، وتمّ اعتقال الرفقاء عبد الرزاق بعاج، رفيق الملحم وآخرون، وسيقوا إلى دمشق. هنا اشتدّ البحث عنّي فتواريت، وأقمت في بيت عبد الوهاب سبع الدير، كونه بيت عمتي وأخي الأكبر صهراً لهم، وبعد اشتداد البحث عني التجأت إلى بيت صديق العائلة، الرجل الطيب عيد الصياح، وأقمت عنده أياماً إلى أن تم اعتقالي وإياه بعد أن دلّ على مكاني أخي عبد الفتاح الذي لم يتحمّل كثيراً من الضغط والتعذيب. كان مكان تجمّع المعتقلين من الرفقاء وبعض من الأصدقاء ثكنة الهجانة، وهي ثكنة قديمة من عهد الاحتلال الفرنسي الذي شكّل فرقة عسكرية تستعمل الجمال في تحرّكاتها في البادية.
وقد تجمع عدد كبير من الرفقاء، بحيث غصّت هذه الغرف التي هي عبارة عن مترين عرض بأربعة، ولا تحتمل منّا أي حركة إلا اصطفافنا كسمك السردين.
بعد جولة التعذيب وما يسمّى التحقيق الذي لم يعطِ أي نتيجة، قامت هذه السلطة بالتصفية فأخلي سبيل كلّ من ليس عضواً في الحزب، ومنهم مضيفي العم عيد الصياح، كما أُخلي سبيل عدد من الأعضاء، لأُنقل أنا وبعض ممن لم أعد أذكر في شاحنة عسكرية إلى حلب، حيث أودعت ليلة في سجن الشرطة العسكرية، التقيت فيها بالرفيق الطالب الضابط في كلية الاحتياط أدونيس (الذي كنت تعرّفت عليه سابقاً في دار الجيل الجديد – دمشق)، وقد أودعني بيتين من الشعر من وحي ذلك المكان، ضاعت مع الأيام من الحفظ ومن الذاكرة.
نُقلنا بذات الطريقة إلى دمشق، إلى السجن لموقع الشرطة العسكرية المقابل للجامعة السورية، وهنا التقيت بأخي الرفيق عبد الرزاق والرفيق جودت عياش، وجدتهما قد نالا من التعذيب ما يفوق التصور كيف استطاعوا البقاء أحياء من شدته، التي تركت آثار ضربات بوط العسكر على صدورهم وأنحاء من جسمهم، خاصة وأنّ كليهما بالأصل ضعيفا البنية، لهذا كانا يضعان عجينة الخبز (الصمون العسكري السميك) على مكان الإصابة تخفيفاً للآلام.
*
القلعة والمهجع رقم 9
يتوارد المعتقلون من القوميين الاجتماعيين، ومن كافة المناطق إلى مقرّ الشرطة العسكرية، البعض يتم التحقيق معهم وينالون النصيب من السباب والشتائم، مع رفسات العسكريين بأبواطهم التي قد تصيب رأساً أو بطناً، صدراً أو ظهراً، المتلقي ونصيبه. والبعض يرسَل إلى سجن المزة للتحقيق معهم، القادمون معي من دير الزور كان حظهم أفضل، حيث اكتفت الشرطة بالضبط التحقيقي المرسَل معنا، وسلمنا من اللبط والطيارات من الأكف التي تصرع الرأس، وتغيّب العقل عن الوعي. تم تجميعنا في قلعة دمشق التي كانت تُستعمل كسجن مركزي، وفي المهجع الذي يحمل الرقم (9) يُصعَد إليه عبر درجات ربما عددها بين الستة والثمانية درجات. يُفتح الباب الحديدي المكوّن من القضبان غير المغلقة، تبقى مفتوحة للهواء وللصوت الذي يستمع إليه عناصر الحراسة، حيث مقرّهم أسفل الدرج. شكّل هذا المهجع حرف تاء معكوسة، لا منافذ إلا في أعلى القبو التي تبلغ من الارتفاع ما قد يتجاوز الخمسة أمتار، البساط الأرضي من الإسمنت مساحته بين الجدارين بحدود السبعة أمتار، يتخللها في الوسط خندق يقر من المتر عرضاً وعمقاً، يفصل الأرضية إلى مصطبتين، والخندق يشكّل مسيلاً للماء للاستعمال والتنظيف. يوجد شبه غرفة مقسومة إلى قسمين؛ المدخل وفيه فتحة أرضية كبلوعة المياه، والقسم الداخلي فيه شق أرضي كمرحاض، حسب ما أفاد عناصر الشرطة المدنية التي تستودعنا أمانة لحساب المخابرات العسكرية وتحت إمرتها، إنّ هذا المهجع مخصص لعدد بين الأربعين إلى الخمسين حداً أقصى من السجناء الجنائيين.
بلغ عددنا في المرحلة الأولى ما يقرب الأربعمائة، أذكر منهم الأقل، وذلك بسبب مرور الخمسة والستون عاماً. من دير الزور، الرفقاء حسن عياش (فترة أُعيد إلى المزة للتحقيق)، فؤاد الشواف، أديب عازار وولده (لا أذكر اسمه)، علي زغيبي، سعيد مخلوف، محمود مخلوف، عبد الرحمن الخير من السويداء، غالب الأطرش، زيد الأطرش ويحي الأطرش. من حلب عدنان أورخان. من الكسوة حنا الكسواني (رجل كبير في السن فلاح وبلباس الفلاح، جيء به بديلاً عن النائب المحامي حنا الكسواني الهارب من الاعتقال، وقبل أن يدخل المجلس النيابي). هذا ما سمحت به الذاكرة.
المعيشة: لا اتصال لنا خارج هذا المهجع، كل شيء ممنوع، الطعام، الدخان، الصحف والكتب. يتكرّم الجيش بإطعامنا، توزّع يومياً لكل شخص قطعة خبز، يسمّى آنذاك "كماج"، وهو قرص قطره بحدود الخمسة والعشرين سنتمتراً، سماكته من الوسط بحدود الخمسة سنتميترات، سواؤه من الأعلى جيد وأقله للوجه الثاني، أما الوسط عجين. وكان لهذا العجين فوائد طبية، حيث يوضع على مكان ازرقاق الجسم للرفيق الذي تلقى ضربة بوط، يُصنع منه حجر الطاولة والدامة والشطرنج. أما الطبخ فهو غالباً مرق نصطاد فيه بعض البطاطا أو حبات الفاصوليا، مرة من هذه المرات تكرّموا علينا بشوربة عدس، ما أن حطت رحالها في المعدة حتى بدأت حركة من القرقعة في البطن وتفتحت المصارين لإبعاد هذا المحتوى، ولكن كيف ولا يوجد إلا هذا المسمى مرحاض ونحن بحدود الأربعمائة.
تولّى المسؤولون تنظيم الدور بالجلوس حسب تسلسل الأولويات، على أن لا يطيل الداخل أكثر من دقائق معدودة، ولمّا كان هذا غير كافٍ، فقد سُمح باستعمال الفتحة في المدخل "البلوعة" ما دام ما يخرج عبارة عن ماء أو شبه، لهذا استطعنا التغلّب على الوضع.
أعلمت الشرطة الجهة المودعة، فحضر في اليوم التالي عسكري قيل إنه طبيب، إلا أنه لم يعطِ دواءً ولم يوصف غذاء، إنما سمح للشرطة أن تدخل لنا بعضاً من الخضار، فكانت الشرطة تبيعنا ليمونة، بندورة، خيارة، بصلة، بليرة سورية، بهذه تشتري وقتها كيلوات. كما أصبح الدخان وقتها متوفراً بيعاً.
كان بعض الأهل يأتي إلى السجن، إنما لا يحق له رؤية سجينه، وأغلب من يحضر كان محملاً بالدخان والسكاكر والفواكه، تتسلّمها الشرطة لإيصالها لأصحابها بيعاً بالمفرّق. استناداً لهذا الحدث، فقد تمّ فتح مهجع آخر برقم (14) تم نقل قسم من الرفقاء من المهجع (9) ولمن يأتي لاحقاً.
هل أنتم من جنس البشر: نتيجة الضيق بالانقطاع التام عن العالم الخارجي وعن الأهل والعمل، والتفكير بمصير من هم خارج السجن من الرفقاء والأهل وكيف تتدبر هذه الأمور، كل هذا يحدث شجارات باليد أو اللسان. ومع هذا لم تحدث إلا مرة تشاجر رفيقان، أذكر أن أحدهما ابن أديب عازار، وبضربة كف على الوجه أسالت الدم من الأنف، وكان هذا بلحظة دخول الرقيب رئيس المخفر، فأصرّ على عقابهما رغم تدخّل الوالد أديب والباقين، وبإصراره اكتفى بأن يسكب عليهما بعض الماء، ثم التفت إلى من حوله وقال بصيغة السؤال والجواب: "هل أنتم من جنس البشر؟". وأجاب: "لو كان جزء من هذا العدد من السجناء العاديين مكانهم، لحدثت يومياً جريمة قتل".
القضاء على الوقت:
الوقت له حدّان، إما أن تنتفع به وتقتله، وإما أن يقضي عليك ويقتلك. نحن مجموعة قومية اجتماعية وُضعنا بمحيط ضاغط، نجهل مصيرنا، لا نعرف شيئاً عمّا يحدث حولنا في هذا المحيط. لا نعرف ماذا حلّ برفقاء لنا في السجون الأخرى، والذين لم يطلهم الاعتقال. أهلنا الذين نحن بحاجة إليهم، أم هم بحاجة إلينا، حتى في الأمور المعاشية. في هذا الجو، إن قعدنا نضع يدنا على الخد، فإن الوقت سيقتلنا كمداً غير مأسوف علينا. لنتذكر أننا لسنا من جنس هذا البشر، كما عبّر عن ذلك رئيس مخفر الشرطة. نحن أبناء سعاده المعلم القدوة الذي وضع كتاب "نشوء الأمم" وهو في السجن الأول، ووضع المبادئ وهو في السجن، وبعد سماعه حكم الإعدام ذهب في نومٍ عميق، صارفاً فكره عن الموت حتى تحين لحظته.
إذن، لا بدّ ونحن أبناء النظام، فلا بدّ من عمل ينظّم حياتنا في هذا المحيط – كما هو – تشكلت منا لجان إذاعية، إدارية من المسؤولين المتواجدين، تقوم بالإشراف على كلّ أمور هذا السجن فكراً وإدارة.
يبدأ اليوم في الساعة السابعة صباحاً بالاستيقاظ العام، تقوم المجموعة التي عليها دور التنظيف بمهمتها وفق ما يجب، الإفطار بالمتيسّر، تتشكل حلقات.. هذه يلعب مجموعها الشطرنج وتلك الدامة ( قلنا أننا صنعنا من عجينة الخبز تلك الأحجار، وأخرى تلعب الشدة (من كرتونات علب السجائر – كانت علب سجائر البافرا من الكرتون)، إلى حين حضور ..... وبعد ذلك ينصرف كثيرون إلى بعض الراحة، ومنهم من يغتنم وجود مكان يغفو به قليلاً لأن نوم الليل لم يكن كافياً.
تبدأ السهرة في الساعة السادسة مساءً، وتكون اللجنة الإذاعية المؤلفة من عنصرين رئيسيين؛ الرفيق المهندس قاسم شواف، والرفيق المحامي صالح عبود، وقد يشترك معهم آخرون.
البرنامج منوّع، بين التوجيه الإذاعي القومي وبعض من المقتطفات الشعرية لمن يحفظ منها، إلى تمثيلية مسلية وبعض القصص والنوادر لإبعاد السأم والضيق. ينتهي هذا البرنامج في الساعة التاسعة (هي ساعة النوم في السجن)، يبدأ توزع وجبات النوم، ينقسم الرفقاء قسمان، لينام القسم الأول من التاسعة حتى الواحدة، بينما القسم الآخر ساهراً يجلس على حافة الخندق، من دون أن يكون له صوت إلا همساً إن لزم، ثمّ يستفيق النائمون ليحلّ محلهم الساهرون حتى الساعة السابعة وقت الاستيقاظ العام.
والسبب كما ذكرنا أنّ المكان لا يتّسع لأكثر من أربعين شخصاً، علماً أنّ حصة النائم من المساحة لا تتجاوز مساحة الظّهر أو الجنب، وللنائم أن ينقلب بين الظهر والجنب في حدود هذه المساحة. الساهرون، غالباً تجمعهم اثنان لا أكثر، فإما أن يتسليّا بلعبة أو حديث، أو كتابة على كرتونة. وما أذكره، كنت غالباً ما أرافق الرفيق عدنان أورخان الفنان المعروف، الذي لم تكن تسمع له صوتاً في أيّ وقت، نجلس ليلاً، لديه بعض الورق لا أعرف كيف حصل عليها، قطع صغيرة، يبدأ بالرسم لمشاريع ربما ترى النور فيما بعد، وكان لي اهتمام في هذا المجال، وعملت بعض الرسوم وكنت أشاركه في بعض الأفكار والملاحظات، لكنني لم ألتقِ الرفيق عدنان بعد ذلك أبداً لأعرف ما حلّ بتلك المشاريع.
ومن الأحداث التي تُذكر، كان الأخوان محمود وسعيد مخلوف، هما من نبع واحد، إلا أنهما يختلفان تكويناً وطبعاً، محمود على ما عرفنا هو الأكبر، يجلس صامتاً لا يكلّم أحداً ولا يشارك في حديث مقطّب الحاجبين، قد يكون منشغلاً بالتفكير بالعائلة، بوضعه، لا نعرف، لأنه صامت. سعيد يتحرّك يتحرش بهذا أو ذاك لافتعال حادثة أو نكتة تغيّر من جو الكرب، يبعث بنا على التوالي إلى أخيه محمود، يمرّ الأول مسلّماً.. مرحبا سعيد.. يردّ عليه: أنا محمود.... يأتي الثاني مكرراً هذا السيناريو، فيرد محمود بصوت أعلى وحدّة أكثر... أنا محمود. ليأتي الثالث، فيكون الجواب بالصوت العالي والصورة المسموعة للجميع: قرد أنا محموووود، فينطلق الجميع بالضحك.
*
الاستقالة من الحزب مقابل الإفراج: التهمة بالنسبة لعضوية الحزب "انتماء إلى جمعية سرية"، وأخذت أـبواق الجهات المعادية من الأحزاب، وبتوجيه المخابرات العسكرية، بالنشر بصحفها: "استقالات من الحزب للبعض من خارج السجن". البعض صحيح نتيجة ضغط أو خوف الأهل ركبوا هذه الموجة، وأخذ البعض منهم يحضر، ومعه صحافي أو محامٍ، ليوقّع على ورقة مكتوبة مسبقاً بالاستقالة، مع الوعد بإخلاء السبيل، إلا أنّ الغالبية كانت ترفض التوقيع، والبعض زوّر توقعهم أو شوّهت كتاباتهم، وكانت الصحف المأجورة فرحة بذلك.
*
المحاكمات
نحن المتهمون بالانتماء إلى جمعية سرية، بدأت محاكماتنا في ما كان يوماً القصر الجموري الذي اقتيد منه حسني الزعيم إلى الإعدام.
تُنقل مجموعة بواسطة ملالة عسكرية، هي شبه سيارة، سقفها وأرضها والجوانب حديد من دون مقاعد، نكوّم فيها برفقة عناصر من الشرطة العسكرية، لنصل إلى مكان المحكمة.
المرحلة الأولى أمام النيابة العسكرية، التي لديها تحقيقات الأمن العسكري، ومع ذلك فعي تعيد التحقيق. في الأصول القانونية تعتبر تحقيق سلطات الأمن، مأخوذة بالإكراه إلى أن يثبت العكس.
أما النيابة العسكرية التي واجهناها، وجدناها جزءاً من المخابرات بدرجة أعلى، ويقوم بالتحقيق ليس النائب العام أو من يمثله، بل يشاركه عناصر من الضباط تساعده في الاعتداء والضرب للمستجوَب.
صفعات لا تُنسى:
التهمة أصلاً جنحة إن صحّت، وموجّه التهمة يعلم أن الحزب قائم بترخيص رسمي له مقرات وصحافة. في منفذية دير الزور، قبل الحدث، نُقلت سجلات المنفذية إلى من ظنّ أنها يد آمنة، إلا أنها خانت هذه السجلات وسلّمت السجلات للمخابرات، ومع ذلك فالتحقيق يسأل من هم أعضاء الحزب.
توجّه إليّ السؤال، فأجبت مبيناً أسماء الرفقاء المعتقلين فقط. تكرر السؤال: وغيرهم؟ فقلت لا أعرف. فكان الجواب من أحد الضباط الواقفين بصفعة على وجهي شعرت أن ضوءاً لمع في عيني، وأن راسي التصق بالجدار المقابل، مع عبارة "لا أعرف"، وما أن وقفت حتى كرّر الصفعة وانتهى التحقيق.
وأنا في هذه الحالة، تذكرت أنها ليست المرة الأولى أتلقى صفعة بسبب انتمائي وعملي الحزبي.
كان مرشّح الحزب في دير الزور الرفيق حسن عياش، مقابل شخصيات عشائرية وقبلية تمثّل تركيبة مجتمع دير الزور.
كُلّفت شأن الآخرين بتوزيع نشرات الحزب دعاية لانتخاب حسن عياش، وكان نصيبي ومن يرافقني المرور بالجرداق (المقهى صيفي) الذي يرتاده أغلبية من أقاربي، ومنها أخي الأكبر "فصيح"، وكان معه مجموعة من الأقارب. مررت ووزّعت، وبعد انتهاء مهمتي وبشكل طبيعي، عدت إلى البيت، لأفاجأ بحضور أخي (يقيم وعائلته في بيت مستقل) وكان كلّ من الوالد والوالدة يجلسان في الرواق المشرف على الحوش الكبير، حيث تتوسط حديقة صغيرة.
ناداني أخي يسأل سؤال العارف: أين كنت؟ كنت أوزذع منشور الحزب، دعاية لمرشّح الحزب حسن عياش. كرّر السؤال: ألا تعرف أن مرشّح العشيرة طه حداد، وأن بيت أبيك مفتوح للدعاية له. فأجبت: أنا مرشّحي حسن عياش مرشّح الحزب. وإذ بي أتلقى صفعة على الوجه، من دون توقّع، جعلتني من الصدمة أقف وكأني خشبة بدون كلام، هذا ليس من تركيبة عائلتنا، رغم أننا في هذا البيت سبعة من ذكور وأربع من الإناث.
صاح الوالد بصوت عال: لماذا تضرب أخاك؟ فردّ عليه: ألم تسمع ما يقول؟ ردّ الوالد: لم يقل غلطاً.
كررت الوالدة استنكارها للضرب، قائلة لماذا تضرب أخاك؟
إذن أنتم معه، وغادر البيت.
صاحب هذه الصفعة كان يلاحقنا من سجن لآخر، محاولاً إخلاء سبيلنا وتقديم ما يستطيع من أجلنا.
أُحيلت الأوراق إلى قاضي الفرد العسكري وفق اتهام النيابة، وكان القاضي الضابط زهير غزال، وكان معروفاً عنه أنه قاضٍ يفهم عمله، وسولك راقٍ يمثّل القضاء بوجهه الصحيح (كان المسموع عنه قربه من الحزب، وربما انتماء).
رفض إصدار حكم وفقاً للاتهام بتعليل أنّ هذا الجرم إن صحّ، فهو اختصاص القضاء المدني.
غضبوا منه ونُقل خارج سلك القضاء، إلا أنه من حيث النتيجة جاء رأي محكمة النقض (التمييز) موافقاً لرأيه، وأُحيلت الأوراق إلى القضاء المدني الذي من حيث النتيجة أعلن البراءة من هذه التهمة. لتبقى محاكمة الحزب الجنائية حول القتل، وما أضيف إليها من اتهامات، وأغلب الرفقاء قضى بهذه التهمة توقيفاً ثلاثة أشهر على الأقل، والبعض امتدّ بهم التوقيف أكثر من ذلك.
|