إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

من ابطال الحزب الرفيق نجيب بولس إعداد رينيه نجيب بولس

الامين لبيب ناصيف

نسخة للطباعة 2023-06-01

إقرأ ايضاً


رافق أنطون سعاده في فترة تواجده في دمشق، اعتقل اثناء الثورة القومية الاجتماعية، ثم اثناء الانقلاب الذي قام به الحزب في لبنان. كان دائماً رابط الجأش، جريئاً متمتعاً بروحية عالية تتناسب مع فخامة جسده وقوته البدنية.

عرفته جيداً بعد خروجه من السجن وطالما التقيت به في منزل الأمين مسعد حجل.

وردنا من ابنته السيدة رينيه هذه النبذة التي تضيء على بعض من سيرته الشخصية ومسيرته الحزبية، ننشرها كما وردت.

ل. ن.

*

ولد نجيب مسعد بولس في كفرعقا، في شهر أيار من العام 1922.

تلقى دروسه الإبتدائية في "مدرسة كفرعقا الرسمية" للذكور.

إنتقل إلى مدرسة "الأميركان" في طرابلس- الزاهرية، للمرحلتين التكميلية والثانوية، وهناك إلتحق بطلاب الحزب السوري القومي الإجتماعي، مع رفقاء له، ومنهم المرحوم خليل دياب (الأمين، العميد، المنفذ) وكانوا قد قاموا بنشاطات حزبية ولم تتجاوز أعمارهم آنذاك الـ 15 والـ 17 سنة.

في سنة 1938- 1939 إلتحق بـ"معهد التعليم المهني"- بيروت. كان في تلك الفترة مغرماً بإبنة عمه أسعد فارس بولس (الخوري متري، كاهن رعية كفرعقا ومتعهد شق طرقات في لبنان وفي سوريا، وقد قضى في مستشفى "النيني"- طرابلس إثر عملية جراحية أجريت له خطأً، عن عمر 38 عاماً).

في تلك السنة، 1938- 1939، كانت إبنة عمه سلام (والدتي) يتيمة الأبوين تعيش في كنف عائلة أحد إخوتها، وقد تقدم لطلب يدها شاب من المهجر، قريب من عائلة أختها. علم والدي بالخبر، فترك المعهد في بيروت قاصداً كفرعقا على الدراجة، وخطف إبنة عمه للزواج، لكن طائفة الروم الأرثوذكس كانت تحرّم الزواج من إبنة العم، فقصدا البطريرك عريضة، وكان مطراناً، وإنتميا إلى الطائفة المارونية وتكللا وهما بعد طالبين.

عاشا في كفرعقا بضعة أشهر قبل أن يلتحقا بجدي لأبي مسعد، الذي كان قد أسس مصلحة في حلب في سوريا منذ العام 1935. كان أول من أدخل معاصر الزيتون الحديثة إلى سوريا، وتشارك مع أصحاب الأملاك، خصوصاً في جبل الأكراد وفي سلقين وكامل محافظتي حلب وإدلب، ومارس تجارة الزيتون والزيت والصابون، وجمع ثروة طائلة.

وهناك في سوريا عاش العروسان (أبي وأمي) مع جدي، وهو عم أمي، أخو جدي لأمي.

كانت أمي حاملاً بي، وكانت قد إندلعت الحرب العالمية الثانية وبدأ القصف الجوي عندما وُلدت أنا. بعد عام ولد أخ لي ثم أخت.

كان والدي منذ مطلع شبابه إجتماعياً وقد إنخرط بالحزب السوري القومي الإجتماعي وأصبح ناشطاً في سوريا وفي لبنان. كانت في تلك الفترة مؤسستي الجمارك والأمن العام مشتركة بين البلدين قبل القطيعة التي حصلت في العام 1951- 1952. كان لأبي رفاق من كل أنحاء سورية: من السويداء إلى الساحل السوري إلى لبنان، ومنهم: الأمين خليل دياب، الرفيق ميشال الديك وشقيقه، حنا التعيم وعائلته، والكثير غيرهم من ضباط الجمارك والأمن العام في البلدين.

أصبح والدي يعمل في السياسة مع القوميين، وهو أول من إلتحق بالزعيم أنطون سعادة بعد عودته من الأرجنتين.

قبل تلك الفترة، كان أبي منخرطاً في العمل السياسي، وكان صديقاً لكثير من المسؤولين الفرنسيين والإنكليز في سورية، وبفعل هذه الصداقة التي كانت ترتكز على تسهيل عمل جدي والأصدقاء المقاومين، إستطاع والدي أن ينقذ العديد من الأصدقاء الذين صدرت بحقهم أحكام بالإعدام شنقاً، ومن بينهم، عمّه أخو أبيه، الدكتور في الحقوق والمناضل ضد الإنتداب، وكان مسجوناً في طرطوس، فتوسّط مع الجنرال "سبيرز" وحصل له على عفو خاص فأطلق سراحه وعاد إلى لبنان.

إلى علاقاته تلك، كانت له صداقة مع شخصيات من العشائر العربية من ضواحي حلب بدأت منذ مراحل الدراسة.

من خلال نشاطه السياسي، توسّط مع الجنرال "سبيرز" نفسه لخدمة أصدقاء ومحازبين من سوريا، وكان ملتقى كل هؤلاء على مائدة أمي في بيتنا في حلب. كان عمله مع سلطات الإنتداب ومسؤليه شبيهاً بعمل أسمهان مع الجنرالات الإنكليز والفرنسيين، (فهي لم تكن "عميلة" لهم، بل كانت ناشطة فعّالة تعمل من أجل سورية، راكمت الديون في هذا المجال). أما والدي فكان يتكل على ثروة أبيه من عمله في تجارة الزيتون ومشتقاته والتي كانت تدر الملايين.

في هذه الفترة كان لأبي وأمي 4 أولاد، بنتان وصبيان، وفقدت العائلة بنتاً، وبقينا نحن الثلاثة حتى إنتهاء الحرب العالمية الثانية في 1945.

ما زلت أذكر كل رفقاء أبي، اللبنانيين والسورين، وأكثرهم من الساحل ومن جبل الدروز، حيث إنتسب الكثير منهم غلى الحزب آنذاك، حتى فريد الأطرش في مصر كان منتسباً قبل أن يحصل على الجنسية المصرية التي سهّلت عمله الموسيقي في مصر.

منذ عودة الزعيم من الأرجنتين، رافقه والدي، رغم تحامل عائلة الأخير عليه، لكونها كانت منخرطة في السياسة اللبنانية بفعالية، نيابة ووزارة وقضاءً، فلامته العائلة: هو إبن تلك العائلة كيف "يتنازل" ويرافق أنطون سعادة؟ لم يأبه بهم، هو مسجّل في بطاقته في ميليشيا الحزب.

رافق الزعيم في سوريا وفي لبنان خصوصاً، رغم كل المضايقات التي واجهت الحزب في تلك الأثناء، والحرب على فلسطين وغيرها...

قبل أن يسلّمه حسني الزعيم إلى السلطات اللبنانية، كان أنطون سعادة قد قابل سلطان باشا الأطرش ثم توجه إلى الحدود اللبنانية يرافقه أبي وصبحي فرحات(1) اللذين قررا أن يعرّجا على الأردن ولا يوصلوه إلى لبنان، ليهربوه كونهم عرفا ما يُضمر له. لكنه مع الأسف أعطاهما أمراً حزبياً بألا يقوموا بذلك وأن يوصلوه إلى الحدود ليتسلمه الجنرال شهاب (وهو غير فؤاد شهاب) ويسلمه للسلطات اللبنانية في عهد بشارة الخوري وحكومة رياض الصلح.

بقي أبي ورفاقه في سورية ولم يعانوا مما حصل للزعيم ومن معه في لبنان.

أذكر أن والدي وصبحي فرحات اللذين كانا يرافقا الزعيم قد فكّرا بالذهاب إلى الأردن وعدم تسليمه للسلطات اللبنانية، لكنه أمرهم بألا يفعلوا حرصاً منه على محازبيه لأنه كان على يقين بأن هذه السلطات المتآمرة الغاشمة ستنتقم من القوميين في لبنان وتزج بهم في السجون، فما كان منهما إلاّ أن يطيعا الأوامر.

لم يسلم والدي من محاربة عائلته له، لكنه لم يأبه لهم، فهو متى إلتزم لا يتراجع ولا يغيّر ولا "يتوب".

بقينا في حلب حتى سنة 1953، وعانينا في السنوات الأخيرة من القطيعة بين سورية ولبنان التي حصلت في 1951- 1952.

كان لجدي ولأبي ولأعمامي ديون في السوق السورية لم تُسدد لهم، وكان عليهم مستحقات يجب دفعها. ساءت معاملة السوريين للبنانيين نتيجة سياسة لبنان المعادية والإنفصالية، فأضطرنا للمجيء إلى لبنان وكنا قد أصبحنا 5 أطفال، أنا أكبرهم، وأصغرهم أخي محمود بسام وكان عمره سنة ونصف.

طبعاً ذقنا شظف العيش. جدي بقي في سوريا لتصفية أعماله- كنا نملك آليات زراعية ضخمة من حصادات وفرازات وغيرها في القامشلي، وكانت مواسمنا من قمح وقطن قد فسُدت بسب الدود الذي قضى على المحاصيل - لم يستطع جدي تصفية كامل أعماله بالحسنى رغم أصدقائه وشركائه... ظلّ حتى سنة 1956. خسر كل شيء حتى ديونه التي لم يُدفع منها إلاّ القليل، فعاد إلى أراضيه في الكورة لتعويض خسارته.

جدّي هو الذي ربانا وأمي إبنة أخيه، لكنه كان في وارد إصلاح حاله وتولى رئاسة البلدية...

بدأت معركة العائلة المعيشية: عائلة من خمسة أولاد كلهم في المدارس وولد على الطريق. أبي الوحيد المسؤول عن العائلة بعد أن أوكل ذلك لأبيه جدي. وحالة الحزب في الويل والرفقاء كلهم يعانون، منهم من هاجر ومنهم من سُجن... والعائلة تحاربنا...

وُلدت لنا أخت وكان طالعها فأل سعيد على العائلة الصغيرة. أحد أصدقاء أبي وكانوا كثر، تدبّر له وظيفة في "الإنتربول" الدولي، لمكافحة تجارة المخدرات، فهو يعرف تماماً تركيا التي كانت أحد مصادر التهريب.

كان عمل أبي في شيكاغو بين أوساط مافيا التهريب والتي كانت بمعظمها تتعامل مع مصادر المخدرات في اسطنبول. كان الملك فاروق حينها في زيارة إلى إيطاليا وأميركا من وقت لآخر.

طبعاً لأبي عائلة كبيرة لها إحتياجاتها: إيجار بيت، أقساط مدرسية، ملابس، ضرورات معيشية...أكبرهم أنا لم أبلغ بعد الرابعة عشرة من عمري...

باب فرج فُتح لنا رغم المخاطر، وأبي إعتاد المخاطر الحزبية والقتال والنشاط الحزبي...

*

مرحلة العمل مع "الإنتربول" (خمسة أشهر تقريباً)

كانت هذه المرحلة محددة بالمسؤوليات والمدة. الهدف مكافحة المخدرات التي تعمل بين شيكاغو واسطنبول.

كَشَف والدي المعمل الذي يحضّر المكوّن الذي يُصنع منه الهيرويين في اسطنبول وتوزعه المافيا في الولايات المتحدة.

كان والدي يضطلع بمهمة كشف طرقهم وأصابع أخطبوطهم مع مخبرين من الإنتربول، وقام بهذه المهمة على أكمل وجه حتى أخذ دور الملك فاروق فهو يشبهه إلى حد ما.

إستطاع أبي أن يصل إلى رأس الحربة المغذي الرئيسي في المعمل في اسطنبول حيث ادار معركة هو وزملاء له مع صاحب المعمل قُتل فيها إبن صاحب المعمل في اسطنبول ودُمّر المعمل.

طبعاً حصل على مكافأة من مؤسسة الإنتربول بفرعها في الولايات المتحدة، دُفع جزء منه بالدولار، وتنكروا للجزء المتبقي والبالغ 23000 دولار، تقاسمها رؤساء أميركيين فيما بينهم. أصبحت الدولة الأميركية مطالبة بتسديد المبلغ.

لم يُسدد المبلغ، وكانت رئاسة جون كينيدي الذي بعث في تلك الأثناء مندوباً إلى لبنان من آل العريجي، وكان مستشاراً له، وتزوجت إبنته فيما بعد من شقيق الرئيس إدوارد. جاء العريجي إلى لبنان، وزار زغرتا. حمّله والدي رسالة إلى الرئيس كينيدي يشرح له فيها كيف استولت الأنتربول – فرع أميركا، على جزء من مكافأته، وقد قمتُ أنا بترجمة هذه الرسالة إلى اللغة الفرنسية، وحملها المبعوث إلى الرئيس.

هذا تفصيل مهم لأنه بعد أكثر من 20 سنة، عندما تقدّم والدي بطلب للحصول على الجنسية الأميركية، واجه مماطلة بحجة ضرورة النجاح في إمتحان تاريخ أميركا. لم يحصل على الجواز الأميركي إلاّ سنة وفاته بسرطان الكبد، الذي ما زلت أعتقد أنه مدبّر بعقل فاعل، كما دبّر لخليل دياب، ولشوقي الخال(2) ولوزير التعليم المهني والتقني من عكار حسن عز الدين (الأمين، الوزير) وجبران العريجي (الأمين، رئيس الحزب) وغيرهم الكثير من القوميين الملتزمين الأوفياء...

لا أحد يمكن أن يقنعني بأن كل هؤلاء أصيبوا بسرطان الكبد وعلى مراحل دون أن تكون هناك أيدٍ خفية فعلت ذلك من خلال الطعام أو الحقن أو...

لما سأل لماذا لا يحصل على جواز سفر أميركي قال له أحدهم: أنتَ نسيتَ أنك قدّمت شكوى على الحكومة الأميركية من سنين؟

عاد أبي ليعمل في شركة الترابة الجديدة في أنفه بمعاش بالكاد يكفي العائلة حتى جاءت ثورة 1958 حيث كان للحزب باع طويل فيها، وكان مخيم الكورة الذي كان يرأسه عبدالله الجبيلي(3) - الضابط السوري السابق في الجبيش، وكان أبي من المحاربين الأشدّاء، خاض عدة معارك حتى قال لي أحد رفقاءه (كان والدي جسيم يزن فوق الـ 100 كيلو): "مَن يرى والدك في المعارك في طرابلس وهو يقفز بخفة من مكان إلى مكان يتعجّب على هذه الحركة الخفيفة رغم ضخامة جسمه".

كنا نسكن في طرابلس، لكن بعد الثورة إضطررنا أن نسكن في كفرعقا حيث رممنا منزل عم لأبي وأمي وسكنّا فيه.

تقرر بعد إنتهاء الثورة التضييق على القوميين في كل إحتفال في ذكرى حزبية.

كان والدي يحمل رشاشاً مرخصاً لكن الأمن سحب منه هذا الترخيص ومزقه وسجنه ظلماً للتخلص منه.

إبن عمه فؤاد بولس رئيس محكمة التمييز وكان يحبه رغم إختلاف العقيدة، إستطاع إخراجه من السجن.

بقينا نسكن في دار عم البابا والماما حتى حلول إنتخابات سنة 1960.

كان الحزب قد رشّح الدكتور عبدالله سعادة (الأمين، رئيس الحزب) لمقعد في الكورة لكن السلطة جمعت الأخصام فيليب بولس وفؤاد غصن وترشح سعادة منفرداً.

طبعاً والدي يأتمر بأوامر الحزب مع عبدالله سعادة، ما يعني أن هذا الوضع جعل من أبي خصماً مع عائلته، العائلة الإقطاعية التي حاربته منذ رافق الزعيم.

طبعاً، نحن العائلة، أمي إبنة العالئة ونحن أولادها. أمي بين شاقوفين، العائلة وزوجها إبن عمها.

أنا في ذلك الوقت كنت متحمسة ضد العائلة، أقنعت أمي أن تقترع سعادة ففعلت، وأقنعت بعض رفيقاتي اللواتي يكبرنني سناً، لكنهن شكوني للعائلة، فأكلت بهدلة وأسكتوني. كنت قد أصبحت في الجامعة وكنت متفوقة رغم أنني كنت أحضر يوماً واحداً في الأسبوع.

حوربت رغم أنني لست حزبية لكنني أؤمن بمبادىء سعادة.

إنتهت الإنتحابات. عادتنا العائلة وأقام عم أبي وأمي دعوى فأخرجنا من بيته غير عابىء بتشريد العائلة رغم كون والديّ أولاد أخويه.

إستأجرنا منزلاً في أميون سنة 1961 قبل محاولة الإنقلاب بعدة أشهر.

قبل ذلك في سنة 1960 – 1961 كان أحد الأصدقاء قد تدبّر لي عملاً في مدرسة الأميركان لتدريس الأدب العربي لصفي البكالوريا، ولم أكن تجاوزت سن العشرين. كما درّست الرياضيات والطبيعيات والجغرافيا في المرحلة التكميلية وصف البريفيه في مدرسة الروم بطرابلس...

كان معاشي يساعد أبي في معاشه قبل انتقالنا إلى أميون، وساعدت أبي في إرسال أخي الذي يصغرني بسنة بالسفر إلى ألمانيا لمتابعة دراسته، كان ذلك في سنة 1960- 1961.

درست الصحافة بالمراسلة وحصلت على دبلوم.

عملتُ في صحيفة "البيدر" لوليم صعب، وكان من جماعة عبد المسيح، وتعرفت عنده على كل محازبي عبد المسيح.

بعد انتقالنا إلى أميون، تركت التعليم والإنصراف لدراستي الجامعية، فاستضافتني عائلة خليل دياب ("عمو خليل") ليلتين في الأسبوع، وكنت في السنة الثالثة في إختصاص الأدب الفرنسي. كان ذلك في خريف 1961، أي قبل الإنقلاب بثلاث شهور.

كانت أول سنة أواظب فيها على حضور المحاضرات لأن بيت "عمو خليل" كان في أنطلياس.

أخي، أكبر ذكور العائلة، يتدبّر أمره في ألمانيا. أبي يعمل في الشركة في أنفه. إخوتي في المدارس، وأخي الثاني كان في البكالوريا- فرع الرياضيات.

على مدى شهرين، كان أبي يذهب بعد العمل إلى قصر الرئاسة في صربا من وقت لآخر، لمراقبة الزوار. يبدو أنه كان مكلفاً من الحزب بمهمة ما، عرفنا فيما بعد أنه كان يتحرّى عن أحد الحزبيين الذي كان يتعامل مع المكتب الثاني.

كانت السلطات قد بدأت تضيّق على الحزب في كل إحتفالاته. ففي إحتفالية حضرتها في أول آذار أو 8 تموز، لا أذكر التاريخ بالتحديد، كان المسؤولين يزمعون على زيارة العرزال فضيقوا عليهم وحاولوا منعهم لكنهم أصروا، فجرت مشادة ولم يسمحوا لهم بالزيارة.

تردده على القصر الرئاسي بعد دوام عمله في شركة الترابة كان لشكه بأحد رفقائه أو من يدعي أنه حزبي، وهو جاسوس شك بأمره لكن الإنقلاب حصل قبل أن يتأكد لما لهذا الجاسوس من حنكة وحيطة.

يوم الإنقلاب، استفاق والدي من نومه وقد حلم حلماً مزعجاً رواه لوالدتي: حلم أن الحزب وضعه في قفص الإتهام واستجوبه، فقالت أمي: "هل تعتقد أنه سيحصل مكروه للحزب؟". لم يُجب، لكنه ذهب إلى عمله في شركة الترابة ولم يعد...

كانت مهمته مع فرقته في الإنقلاب الوصول إلى القصر الجمهوري وخطف الرئيس. طبعاً كان من أهداف زيارته إلى القصر، التعرّف على مداخله وغير ذلك، فهو شديد الإنتباه وسريع الملاحظة.

فشل الإنقلاب كان سببه عدم القدرة على خطف الرئيس، وهذه تفاصيل الفشل: كانت فرقة خطف الرئيس مؤلفة من سيارة جيب فيها رجال المهمة وكانت تسير أمامهم سيارة من ماركة أميركية من المفترض أن تتبعها سيارة الجيب لترشدهم إلى الطريق الفرعية الواجب سلوكها. إنطلقت السيارة القائدة بسرعة فائقة لم يتمكن الجيب من الحاق بها حتى وصلوا إلى مفترق طرقات. توقفوا محتارين: أي إتجاه يسلكون؟ فتعثرت مهمتهم التي كانت دقيقة وعليهم إتمامها في وقت محدد. لما إحتار اللسائق وأخذ يتحذّر كان الوقت الضروري قد مرّ. نزل من سيارة الجيب وسأل عن "رفيق" حديث كان يشك بأمره. وحين لم يجده قال "لقد فشل الإنقلاب لأن حجز الرئيس باء بالفشل بسبب الخيانة".

كان والدي يشك بأحد الرفقاء الجدد بأنه دخيل وعميل مزروع من "المكتب الثاني" الذي كان قد بدأ عمله ضد الحزب. طبعاً الشك لا يحمل من يشك على اليقين حتى يتلبس المشكوك بأمره بالجرم المشهود.

إذاً، بعد فشل الإنقلاب كان الإنتقام، فسُجن من سُجن وقُتل من قُتل بحجة الفرار، ومات من مات تحت تأثير التعذيب الذي فاق في تلك الأيام كل الوحشية التي صدرت عن "داعش" و"جبهة النصرة"، لأن التعذيب وإماتة كل عضو كانت عبر حرمان عائلته من العيش ومن المساعدة حتى من أقرب الناس له. أذكر تماماً أننا عائلة نجيب بولس وهو في السجن كان الهدف إماتتها جوعاً وتعذيباً وسجناً. أنا كنت أكبر الأولاد وكنت في العشرين من العمر في الجامعة، وقد إختفيت لمدة 17 يوماً لأنهم كانوا يريدون إعتقالي وسجني رغم كوني لست حزبية. إختفيت في مكانين في كفرعقا لدى عائلة لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد، بالحزب. ولما علم صهرهم بأمري خافوا وطلبوا مني ترك منزلهم حتى لا يعاقبوا وأساق إلى السجن، فذهبت وإختبأت عند فلاح جدي، وهو قريب من مدير البيت البطريركي الماروني، من بيت العويض. كنت أختبىء في غرفة مظلمة عندما يزورهم أحد من القرية خوفاً من أن يشوا بي. وطوال مدة الزيارة كنت لا أستطيع حتى الخروج إلى الحمام. والغرفة المظلمة لكي لا يتمكن أحدٌ من أن يلاحظ النور. تحوّل كل الناس إلى "مكتب ثان" يُعطى مكافأة عند تسليم أي فرد من عائلة قومي، مشترك أم لا، في الإنقلاب. العقاب عشوائي.

أخي أيضاً، إبن الـ 16 سنة، الطالب الثانوي في فرع الرياضيات إختبأ، ولما عاد إلى البيت إعتقل لمدة 4 أيام، ورغم غيابه عن المدرسة، وصغر سنه نجح بتفوق.

لم يكن أحد يقبل بتوظيفه من بين الصدقاء...

أخي الثاني، الذي أرسله والدي إلى ألمانيا للدراسة إضطر للعمل في تجارة السيارات حتى يكسب عيشه ولم يكن قد مضى على سفره بضعة اشهر. كان من أوائل الذين أدخلوا هذا النوع من التجارة إلى لبنان، عبر قيادة السيارات براً إلى لبنان، ثم العودة، وهكذا...

بدوري، سُـدّت بوجهي كل إمكانيات العمل. بعض المناصرين المعروفين وغير المعروفين بمناصرتهم، تدبرا لي فرصاً للتعليم في "زهرة الإحسان" في بيروت وإكمال شهادتي.

نجحت في تجربة صوتي في إذاعة لبنان، لكن وزير الأنباء آنذاك، فيليب بولس الموالي للسلطة وقف ضد تعييني.

كل العائلة، في مجال المحاماة والعدل، وقفوا ضدنا ولم يلتفتوا لأبي وهم الذين حاربوه لكونه حزبياً ومرافقاً للزعيم غصباً عنهم: فيليب بولس وفؤاد بولس رئيس محكمة التمييز وميشال بولس الذي خلّص أبي من حبل المشنقة.

حورب على كل الصعد من أجل إبادة عائلات القوميين.

إضطررنا أن نوكّل ميخائيل الضاهر محامياً عن أبي وصدرت الأحكام. حكم مخفض 7 سنوات سجن مع أشغال لتتحوّل بعد الإستئناف إلى عشر سنوات.

التأثير كان كبيراً على عائلة أبي وأمي وإخوتي، وكان كل باب موصد بوجهي، حتى رغم النجاح في المباراة والنقص في الطلب...

وفي السجن كان أبي مع الباقين "يسواه ما يسواهم" ونحن فقط من كنا نقوم بزيارته، ولا أحد من العائلة حتى إخوته.

هاجر إلى أميركا وأضطر عمي الأصغر، وهو مجنس أميركي، أن يأتي إلى لبنان ليساعده في نيل الإقامة والعمل في أميركا، وهكذا كان.

لستُ مطلعة على نشاطه الحزبي في هيوستن من سنة 1970 إلى 1980 لأنه كان ناشطاً جداً. ربما أحد إخوتي الذي كان معه يعرف.

كل العائلة كانت في هيوستن ما عداي. كنت متزوجة هنا وموظفة في مصلحة إعداد المعلمين، أعلّم اللغة والأدب الفرنسي.

في سن السبعين، تقاعد أبي وعاد إلى لبنان وعاد إلى نشاطه الحزبي، وهذا لا أعرف تفاصيله الدقيقة، لأنني كنت بعد الإحتلال الإسرائيلي قد تركت كل شيء وهاجرت مع عائلتي إلى أميركا.

*

من قتل فريد الأطرش؟

ويبقى السؤال الكبير الذي لاح على شفاه الناس وهم يذرفون الدموع على موسيقارهم المحبوب، هل هناك مرض القلب وحده؟

هل هناك العلاج الذي لم يكن واقياً؟

هل هناك الدواء الكثير؟

هل هو السهر الطويل؟

هل هو العذاب الدائم؟

هل هو الحب بدون أمل؟

هل هو في عد الإنقياد إلى رغبة الأطباء؟

هل هو في إحيائه الحفلات الغنائية الطويلة؟

هل هي نصيحة الدكتور دبغي: إما أن تغني وتموت، وإما أن تعتزل الغناء وتعيش؟

إن الذي قتل فريد الأطرش هو فريد الأطرش.

قتله حبه لفنه.

وقتله إحساسه بوجوده.

وقتله حبه لجمهوره الذي كان يطالب به إلى الأبد.

وقتله مع حقده على قلبه حبه الكبير للحياة، لكن الذي لم يقتله أبداً، هو إيمانه بالله تعالى.

ففي ذمة الله يا حبيب الملايين، يا من جفت دموع الملايين حزناً عليك ستبقى حياً في قلوبنا إلى الأبد.

*

نعي الرفيق نجيب بولس

هوامش:

(1) صبحي فرحات: للاطلاع على النبذة المعممة عنه الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية

الاجتماعية ssnp.info

(2) شوقي الخال: كما آنفاً.

(3) عبدالله جبيلي: كما آنفاً.



 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024