سمعت الكثير من الثناء والاخبار الحلوة عن الرفيق أنطون اسبر، وذلك من الرفيق فرج كريشة ابن قريته "بدادا" الذي عرفته جيدا في البرازيل وكان يطري دائما عن الرفيق أنطون اسبر بخصاله بثقافته بقدراته الاذاعية والثقافية.
بدوري تعرفت على الأمين أنطون، وكنا معاً في اكثر من مسؤولية حزبية منها، عضوية المجلس الأعلى اذكره وسيماً، بهياً، وسيم الطلعة، نسج علاقات سياسية بالدوائر في منطقة صافيتا كان متمتعاً بوعي حزبي لافت وبكثير من فضائل الالتزام.
في الاحداث الشامية الأليمة افتقدت الأمين أنطون، الى ان عرفت بوفاته فنشرت عنه الكلمة التالية:
*
ألامين أنطون اسبر
تبقى حياً في وجداني ما بقيت لي حياة
الرفيق نبيل كريشة(1) هو أول من حدّثني عن ابن بلدته بدادا الرفيق أنطون اسبر، مطرياً على نشاطه وذكائه وتفانيه، وعلى حضوره اللافت حزبياً وشعبياً.
عندما وصلت سان باولو حدّثني عنه أكثر ابن بلدته، الآخر الرفيق حنا حجار(2)، فعقيلته الرفيقة كلود يورغاكي فهد(3) التي كانت تتردد الى "بدادا" فتتعرف أكثر على الرفيق أنطون اسبر وعلى تميّزه في الكثير. وعندما وصلت الى غويانيا ثم رحت ازورها وأتردد إليها فألتقي الرفيق الرائع فرج كريشة(4) كنت استمع إليه يحدثني عن الرفيق أنطون منذ الصغر وتابعه نهوضاً في المسؤوليات التي تنكبها بنجاح.
وعندما توليتُ المسؤوليات المركزية رحتُ اتعرّف على الحضور اللافت للرفيق أنطون اسبر، منفذاً ومشاركاً في الكثير من النشاطات الحزبية على مختلف تنوعها الإداري، الثقافي، الإذاعي والسياسي.
ثم التقيتُ الرفيق أنطون وقد منح رتبة الأمانة في عضوية المجلس الأعلى، فوجدت فيه ما كنت اسمع عنه فازددت صداقةً له ومودةً، استمرا حتى عندما افترقنا ادارياً(5).
عندما ابلغتني عقيلتي الامينة اخلاص انها قرأت في احد مواقع التواصل الاجتماعي عن رحيل الأمين أنطون اسبر، قلت بصوت متهدج "ضيعانو" ورحت اردد ذلك وانا اتابع صور الحشد الذي سار وراء نعشه في "بدادا".
لست ادري كم ستمضي من سنوات قبل ان يغيب الأمين أنطون اسبر عن ذاكرة رفقائه في منطقة صافيتا وفي كل مكان آخر عرف الأمين أنطون ورافقه في العديد من مسؤولياته المحلية والمركزية، كذلك كم ستمضي قبل ان تنتج منفذية صافيتا رفيقاً يملك المزايا الجميلة التي كان يتحلى بها الأمين أنطون اسبر.
اني حزين جداً لرحيل الأمين المميّز أنطون اسبر، وهو سيبقى حاضراً في وجداني وفي ذاكرتي ما بقيت لي حياة.
*
في محفوظاتي هذه الكلمة التي كان سلّمني إياها الأمين أنطون عن والده الرفيق المناضل اسبر:
آمل من الرفيق نبيل كريشة، في حال اطلاعه على هذه الكلمة ان يتصل بي وهو الصديق على مدى سنوات ليزوّدني بمزيد من المعلومات عن الأمين أنطون اسبر عن عمه الرفيق فرج كريشة وعن بدادا، القرية القومية الاجتماعية.
- الرفيق اسبر أنطانيوس اسبر، من مواليد قرية بدادا العام 1922.
- لا أعرف بالضبط التاريخ الذي انتمى فيه للحزب السوري القومي الاجتماعي. إلا أن أحاديثه العابرة عن بعض المحطات الحزبية في القرية وجوارها يجعلني أميل إلى التأكيد بأن ذلك حصل في بداية الأربعينات من القرن الماضي. خاصة وأنه ترعرع في بيت قومي اجتماعي حيث كان والده من أعضاء المجموعة الأولى التي انتمت للحزب في منطقة صافيتا والتي نشطت فيها أول مديرية باسم مديرية حوض الأبرش كما كان يخبرني المرحوم الشيخ إبراهيم عبد الرحيم من قرية بعمرة والد الشهيد يونس عبد الرحيم وكان يذكر من أعضاء المديرية بالإضافة إليه كل من ياسين ديب من بعمرة وعيسى سمعان من صافيتا وانطانيوس اسبر من بدادا وكان الشيخ إبراهيم يردد " أنا وهؤلاء التقينا مع أنطون سعاده حيث كنا في علاقتنا وسلوكنا ونظرتنا إلى الحياة نحمل نفس الأفكار التي جاء بها".
كل ما أعرفه عن نشاط الرفيق اسبر في الأربعينات هو ما كان يذكره عن حضور مهرجانات للحزب في مناطق مجاورة (صافيتا وعيون الغار، الفوّار، وغيرها). وكذلك عن محطات عملية بسيطة وعادية للحزب في القرية، وقد استمر ذلك حتى أواسط الخمسينات تاريخ حصول حادثة المالكي المعروفة وبدء ملاحقة الحزب وأعضائه في الشام.
هنا أذكر كيف كانت تقيم الشرطة العسكرية بأعداد كبيرة في القرية، أيام عديدة تنصب الخيم وتستقر وتمارس كل أنواع القهر على بيوت القوميين التي خلت إلا من النساء والأطفال الذين كانوا يتلذذون بالتنكيل بهم وتعذيبهم للحصول على معلومات عن أماكن اختباء الشباب القوميين. فقد اعتدت وأنا في السادسة من عمري على رؤية هؤلاء يضربون جدتي ووالدتي وعمّاتي في البيت، وعندما كنت أحتج وأصرخ وأنا الطفل أنال نصيبي من الركل والضرب. ثم يدخلون إلى البيت ويفتشون كل شيء حتى رأيتهم مرة يخلطون الطحين على البرغل في براميل المؤونة ويومها كنا نراهم يصطادون الدجاج أمام البيوت باستخدام العصي الطويلة.
كانت أراضي القرية ملجأ للقوميين من أكثر من منطقة لما يتوفر بها من غابات وبساتين وكهوف يستطيعون اللجوء إليها في كل الظروف دون أن تطالهم يد الشرطة العسكرية وكان بيتنا يقع في طرف القرية وعندما تفرج الأجواء قليلاً كانت تذهب بعض النسوة أو الأطفال إلى مناطق الاختباء لإعلامهم بالأمر. كما كانوا يقتربون تحت الخطر أحياناً من البيت بسبب عدم قدرتهم على الاحتمال وكم كان الرفيق اسبر يتسلل ليلاً ويصل فجأة إلى البيت ثم يصعد إلى السطح ويرمي سلم الخشب من جهة البرية ويبدأ الشباب بالصعود والدخول إلى غرفتين مبنيتين على سطح البيت ثم يمضي الليل منبطحاً على السطح يراقب حول البيت بعد أن يرسل عيون إلى مشارف القرية حتى إذا أطلّت سيارة من بعيد يأتي الخبر فوراً وقبل وصولها البطيء إلى القرية حيث الطريق الشاق وغير المعبّد.
كان هؤلاء يتسللون قبل نهاية الليل بنفس الطريقة بعد قسط من الراحة والطعام ولكن في بعض المرات كانوا يقضون اليوم الثاني في هاتين الغرفتين وعندها كان عليّ إيصال ما يحتاجونه نهاراً من طعام وشراب بسلال من قصب أنقلها إلى السطح على درج خارجي ظاهر وكأني ألعب بها هكذا كانوا يعلموني أن أفعل كنت أفتح باب الغرفة المغطاة بالفرش والرجال على صفين رؤوسهم إلى الجدارين الطويلين وأرجلهم إلى بعضها في الوسط يرحب بي الجميع وخاصة عندما أحضر القهوة صباحاً وبعض علب التبغ وكان عليّ أن أقف في باب الغرفة وأحيي كلما دخلت عليهم.
مرات عديدة كان أفراد الشرطة يصلون باب الدار ووالدي في وسطه فيصعد درج الحجر بسرعة البرق إلى السطح ويلقي بنفسه من أعلى الجدار الخلفي ويتوارى في البراري إلى أن كانت إحدى ليالي كانون أول لعام 1955، كان الجو عاصفاً جداً واستمر كذلك عدة أيام والشرطة لم تغادر القرية. فجأة خلت الشرطة وقدر البعض أنها اختفت في بعض البيوت بعد أن أرسلت السيارات بعيداً عن القرية. يومها ذهبت مع والدتي ليلاً إلى منطقة الكهوف لإعلام الشباب بالأمر. لكن أبي أصر على العودة معنا إلى البيت وعدم تركنا لوحدنا في هذا الليل نقطع مسافة مليئة بالغابات والوديان. توسلت والدتي وتدخل الرفقاء لكن دون جدوى فقد كان مشهوراً بعناده وهو في قراراته ومواقفه لا يعترف بالأعداد الواقعة بين الصفر والعشرة مهما كانت العواقب.
صعد معنا إلى البيت وبعد حمّام ساخن تناول طعام العشاء وطلب إليه جدي ووالدتي العودة، لكنه رفض وأصر على النوم في البيت. أذكر أنه استلقى على سرير عريض وصعدت أنا وأخي هانيبعل ونام كل منا على ذراع من ذراعيه. بعد منتصف الليل استفقنا على طرق عنيف على الباب. ردت والدتي فجاء صوت جدّي افتحي الشرطة على الباب وما أن فتح الباب حتى تدفق عدد من الشرطة العسكرية مندفعين إلى الداخل. وصل أولهم وكان يحمل رتبة لا أعرفها إلى السرير ومد يده تحت الوسادة وسأل والدي أين مسدسك. والدي لم يتحرك رد عليه بكل هدوء أنظر إلى الغرفة هل فيها منفذ غير الباب الذي تقفون به؟ قال له: لا،
قال: إذاً أنا لا أستطيع الهروب. وعليك أن تُخرج الجميع خارجاً وتخلع القبعة الحمراء لأنه إن صرخ أحد الأطفال فلن تكونوا بخير أنت وجماعتك وإن تمّ كل شيء بهدوء، فأنا بين أيديكم، صرخ الرجل بعناصره بأن يخرجوا ويبقى البعض على الباب دون قبعات وخلع قبعته. فنهض والدي بهدوء وطلب ثيابه.
رأيت أمي تعطيه ثياب أكثر من العادة وتقول له البس بيردّوا البرد والقتل.
فأجابها: البرد صحيح، لكن القتل لا.
وخرج معهم مقيداً، وقد علمنا في اليوم التالي أنهم ألقوا القبض على شابين معه من القرية، واخذوا الجميع يبحثون عن أسلحة مخبأة في البيوت، أو البراري حيث استمروا بحفر أرض البيوت وبعض النقاط حول القرية إلى ما بعد الصباح.
نقلوهم إلى طرطوس حيث أمضوا فيها يومين ثم إلى اللاذقية لعدة أيام بعدها إلى المزة بعد أن قضوا ليلة في حمص.
خرج من المزة بعد بضعة أشهر بلحية طويلة ولقب الحاج وكم كان يتندر مع بعض الرفقاء الذين كانوا معه عن قصة الحاج واللحية، بعدها سافر إلى لبنان وبقي حتى محاولة انقلاب 1961، حيث عاد إلى البيت ليعيش متخفياً حوالي ستة أشهر بعدها سلم نفسه للشرطة وبعد توقيف لبضعة أيام أطلقوا سراحه.
بعد أن استقرت الأمور وهدأت الملاحقات وتراجع الضغط صار يحدثنا عن عمليات نقل الأسلحة وبعض النوادر الجميلة التي كانت تحصل أثناء العمل، وأجمل هذه النوادر وأكثرها دلالة وتعبيراً كانت التي ذكره بها علم الدين إبراهيم عبد الرحيم، ففي أول لقاء في الثمانينات، قال لي هذا الأخير بحضرة والدي الرفيق اسبر اسبر "هل تعلم أن والدك من جوش الحزب"؟
وسرد القصة التالية، قال: "كنا مرة ننقل السلاح على حوالي ثلاثين حماراً وكل حمار مسؤول عنه واحد منا. والدك الرفيق اسبر أصر على حمل ثمان بندقيات على ظهره. قالوا له: مستحيل أن تكمل الطريق الطويل عشرات الكيلومترات بهذا الحمل الثقيل فأصّر وسار خلف دابته. وعند اجتياز طريق عام صافيتا – حمص ومع إطلالة نور سيارة قادمة وقعت إحدى الدواب أرضاً في منتصف الطريق فأسرع عدد من الشباب وحملوا الدابة لتقف على رجليها لكنها كانت تعود وتسقط أرضاً وعبثاً تكررت المحاولات وكادت السيارة تصل وأصبح الجميع تحت الضوء تقريباً، عندها عاد الرفيق اسبر من مسافة حوالي 50 متر لأنه كان دائماً يسير بالمقدمة بصفته مسؤولاً عن الطريق. عاد مسرعاً وهو يحمل كامل حمله ودفع بمجموعة الشباب المحيطة بالدابة يميناً ويساراً مبعداً إياهم عنها وانقض عليها كالبرق وحملها وهي في الأرض مع حملها وسار بها مسافة حوالي 20 متراً خارج شعاع ضوء السيارة ورماها أرضاً وهو يقول: "هلق قيموها ع مهلكن" وعاد إلى المقدمة متابعاً سيره".
في لبنان عمل في مركز الحزب حتى أحداث عام 1958، حيث شارك في معارك شملان والمتن والكورة، كما شارك في أكثر من مخيم تدريبي وفي إدارة أحد المخيمات معاوناً للرفيق المرحوم يوسف معماري. وفي مخيم آخر كان مسؤولاً عن العتاد والتموين. وبعد الأحداث كلف بمهمة أمنية في سعدنايل حيث كانت تعتبر أهم أوكار عبد الحميد السراج في البقاع بسبب ولاء أهلها المطلق لعبد الناصر لا بل عبادتهم له.
استمرت مهمته هناك حوالي 3 سنوات أمضيت معه الأربعة أشهر منها وكان اسمي ضاحي وكان هو يدعى أبا ضاحي، وقد نجح في استقطاب أهالي القرية ونيل ثقتهم بشكل ممتاز فكان مرجعاً للجميع يستشيرونه بكل شيء، ويحل لهم جميع مشاكلهم.
ومرة أثناء وجودنا مع عدد من أهل القرية في مكان عمل صاخب، وصل الرفيق جميل صوايا بسيارة بيجو ستيشن كحلية، وقبل أن يصل إلى والدي قال لي: كيفك أنطون؟.
ومع أنه لم يسمع أحد الكلمة فقد جن جنون والدي وحاول ضربه بسكين كبير مهدداً إياه بعدم العودة ثانية ثم اتصل بأحدهم فحضر بعد ساعات رفيق اسمه ولسن مجدلاني، واذكر أنه رجل هادئ وسيم أنيق فاجتمع بوالدي وهدأه وسمعت بعده بأن جميل لن يعود ثانية إلى هنا.
في سجن المزة وبعد الخروج من الانفرادي وهو يحمل لقب الحاج على أثر حادثة مع سجّان بدوي. اشتهر الرفيق اسبر برعاية الرفقاء وتوجيههم حتى أن أحدهم قال له: أنا ابن فلان منذ ولدت وحتى اليوم. أما بعد اليوم فأنت والدي، وفعلاً بقي يناديه والدي، ويناديني أخي حتى وفاته، وهو الرفيق امطانيوس وسوف الذي توفي عام 1975، وكان من اشهر وأكثر الذين عُذبوا بصمت ودون أن ينطق إلا بكلمة ما بعرف. وأذكر أنه عندما خرج من السجن كان لحم ظهره قد نما فوق أجزاء من قميصه الداخلي.
هذه لمحة موجزة اذكرها عن سيرة والدي الرفيق اسبر اسبر.
هوامش:
(1) نبيل كريشة: من بلدة "بدادا" نشط حزبياً في بلدته ثم في بيروت عندما انتقل إليها في سبعينات القرن الماضي، فمتولياً مسؤولية ناموس عمدة الثقافة محققاً حضوراً حزبياً ونشاطاً جيداً في كل من مركز الحزب ومنفذية بيروت، تحت اسم نبيل سلامة (وهو غير الأمين نبيل سلامة، من "الكرك" الذي كان تولى بنجاح مسؤولية منفذ عام زحلة والذي يجدر بي ان أكتب عنه).
(2) حنا حجار: من بلدة "بدادا"، بعد ان نشط حزبياً في بلدته ومنطقة صافيتا غادر الى البرازيل، ناشطاً حزبياً فمتولياً مسؤولية منفذ عام البرازيل، وكنت أشرت إليه في أكثر من نبذة. للاطلاع الدخول الى موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية ssnp.info
(3) كلود يورغاكي فهد: تربت في عائلة قومية اجتماعية. كنت عرفت والدها الرفيق يورغاكي فهد مقيماً في منطقة المزرعة في بيروت، وناشطاً حزبياً. الرفيقة كلود حائزة على شهادة دكتوراة في علم النفس محققة حضوراً لافتاً في اتحاد المؤسسات العربية (الفياراب)، ناشرة كتاب عن الاغتراب ومقيمة علاقات جيدة في الجالية ومع الأجهزة الشامية المعنية بالاغتراب.
(4) فرج كريشة: من "بدادا" ايضاً. نشط جيداً في بلدته قبل ان يغادر في أواخر الخمسينات الى البرازيل، مستقراً في مدينة "غويانيا" حيث كان الى سنوات طوال متولياً مسؤولية ناموس المديرية. يتحلى الرفيق فرج (وهو عم الرفيق نبيل) بوعي عقائدي جيد والتزام حزبي متقدم. كنت على علاقة مودة معه، لما تحلى به من تجسيد حقيقي لمفاهيم الحزب. اشرتً إليه في اكثر من نبذة. مراجعة الموقع المشار إليه آنفاً.
(5) انتقل الأمين أنطون الى تنظيم حزبي آخر، (المعروف باسم تنظيم عبد المسيح) برئاسة الوزير السابق الرفيق الدكتور علي حيدر.
|