من الرفقاء الذين لم اتعرف اليهم شخصياً، انما عرفتهم جيداً عبر المتابعة الحزبية، كما عبر ما سمعت من الرفقاء المقربين منهم، فاحتلوا لدي مكانة ومودة واحتراماً، اذكر بكثير من التقدير الرفيق الراحل الياس تقلا.
لم يكن الرفيق الياس، مديراً لمديرية كليفلند، حائزاً على ثقة الرفقاء ومحبتهم، فقط. انما كان ايضاً مرجعاً لهم، بيته بيتاً لكل منهم، يحتضنهم بالاهتمام ويفتح لهم قلبه وعقله ووجدانه.
كان الامين القدوة، الدكتور اميل حمود مكارم، اول من اطلعني على ما تميّز به الرفيق الياس تقلا في كليفلند. فالامين اميل كان درس في كليفلند ثم تابع تخصصه في ديترويت وتولى مسؤولية مير مديرية ديترويت في العام 1970، وكان معه على ما اذكر الرفقاء ايلي ساسين، عجاج العنداري، جهاد الخطيب، والاب الرفيق حنا اسطفان الذي يصح ان نعيد بالنص الحرفي، ما كان ورد عنه في رسالة للامين مكارم بتاريخ 28102008:
" من الامور التي حصلت في فترة تولي للمسؤولية في ديترويت، ان طلب منا الشيخ محمد شري – امام جامع ديربورن - المشاركة في ندوة تعقد في المسجد الجامع يتكلم فيها حضرته، ونائبان بريطانيان كانا وقفا ضد الهجوم الثلاثي على مصر.
" وافقت هيئة المديرية على المشاركة وطلبت من الرفيق الاب حنا اسطفان المشاركة في هذه الندوة لبلاغته في اللغة الانكليزية وقدرته على التعبير وتفهمه لمبادئ الحزب واطلاعه الجيد على المسألة الفلسطينية.
" عقدت الندوة، وتكلم كل من: الشيخ شري، احد النائبين البريطانيين والاب الرفيق اسطفان، فكان لكلمة الرفيق حنا تأثير كبير على الحضور من اميركيين وعرب، حتى ان الشيخ شري الذي لم يكن يعلم ان الرفيق الاب حنا اسطفان قومي اجتماعي قام بعد انتهاء الندوة بتهنئة الاب حنا ويهنئ المديرية على اختياره ".
*
ومن الامين اميل حصلت على اكثر من رسم وصورة للرفيق تقلا، كما على قصيدتين له. اولى القاها في ذكرى الاول من اذار، وثانية بمناسبة الثامن من تموز.
من عيتنيت، تلك القرية الرابضة قرب مشغرة، انطلق الرفيق الياس تقلا الى كليفلند وفيها عمّر، الى بيته واعماله، نفوساً عرفت الحزب مناقب وجسر عبور لنهضة هي التي نريدها ان تنتصر في امتنا.
ومثله غادر بلدته عيتنيت الرفيق وجيه رحال الذي، رغم تقدمه بالعمر، ما زال عند ايمانه والتزامه، وهتافه مستمر لتحي سورية.
واذ نذكر رفقاءنا من عيتنيت لا بد ان نذكر بفرح وحزن كبيرين ابن "باب مارع"، المجاورة لـ"عيتنيت"، الرفيق طوني روكز، احد المع رفقائنا الطلبة، الذي، الى تولّيه مسؤولية منفذ عام الطلبة، مارس دوراً بطولياً في فترة الاجتياح الاسرائيلي لبيروت عام 1982، وهذا الدور يعرفه جيداً من لم يغادر العاصمة اللبنانية طيلة تلك الاشهر الصعبة، حصاراً فاجتياحاً.
ولانه كان قدوة مناقبية ونضالية، واوجد حضوراً قومياً اجتماعياً ممتازاً في الوسط الطالبي، فقد تعرّض للخطف على ايدي القوات المرتهنة للعدو الصهيوني، وما زال مصيره مجهولاً.
الرفيق طوني روكز، اسم يجب ان يحفر في ذاكرة حزبه، الى جانب الشهداء والافذاذ من المناضلين.
*
في رسالته المشار إليها آنفاً، يضيء الامين اميل مكارم على الفترة التي امضاها في كليفلند، فيقول:
" كانت مديرية كليفلند في الفترة الزمنية التي تمتد من اوائل الخمسينات لغاية نهاية الستينات من انشط المديريات عبر الحدود. وكانت نشيطة ومميزة خاصة في اوساط الجالية السورية. في تلك الحقبة كان للمديرية انشطتها بين ابناء الجالية خاصة فيما يتعلق بالمسألة الفلسطينية. فكانت على تواصل دائم مع عدد كبير من ابناء الجالية، كما كان لنا اتصالات مع عدد من الاميركيين الذين كانت لهم اهتمامات بوطننا وبالعالم العربي.
كان الرفيق المرحوم الياس تقلا مديراً للمديرية كل هذه الفترة والرفيقة جوليا – زوجته - تقوم بما يطلب منها حتى اصبح منزلهما مركزاً للحزب، تقام فيه الاجتماعات الدورية والحفلات الحزبية والاجتماعات الاعلامية، واذكر من اعضاء المديرية الرفقاء:
الياس تقلا (مديرا)، البرت قيم، وجيه رحال، انيس مكارم، جميل نادر، د. اميل مكارم، الشهيد د. جمال موسى، الشهيد المرحوم محمود نعمة.
كانت المديرية تعقد اجتماعاتها الدورية كل ثلاثة اسابيع وكانت على اتصال دائم بالمركز. كما كانت على اتصال دائم بكل القوميين. وكانت تقيم الاحتفالات الحزبية والاذاعية وتدعو عددا كبيرا من ابناء الجالية واصدقاء الحزب للمشاركة فيها. ومن انشطة العمل الحزبي مواجهة الدعايات الصهيونية، المكتوبة والمسموعة في كليفلند وجوارها. فكنا نرد على مقالاتهم المكتوبة في جرائد كليفلند ومجلاتها. كما كنا نتصل بالمحطات الاذاعية لنرد على ما يذاع من دعاوات صهيونية، كما كنا نلبي دعوات بعض الجمعيات للتكلم عن القضية الفلسطينية خاصة الجمعيات المهتمة بالشؤون العربية والشرق الاوسطية ".
*
في عدد "صباح الخير – البناء" بتاريخ 29/8/1981 نشر الامين عبد الله قبرصي كلمة وداع "للرفيق الطيب الياس تقلا" نورد معظم ما جاء فيها:
" من مساوئ الاغتراب انه يقطع العلائق احيانا بين الناس فيعرفون بالصدفة – كما عرفت انا- بوفاة اعز رفقائهم على قلوبهم واطيبهم نفسا.
هل يعقل والرفيق الياس تقلا من واضعي احجار الاساس للحزب السوري القومي الاجتماعي في كليفلند -اوهايو، والعين الساهرة على القضية بالامكانات المتوافرة لديه، ان يموت ويدفن، وان يقام له مهرجان يوم مأتمه، دون ان اعرف بموته الا صدفة، انا الذي تمكنت بيني وبينه وبين عائلته روابط الصداقة والمحبة، فضلا عن الروابط الرفاقية العقائدية!
من هو الياس تقلا؟
غادر مسقط رأسه عيتنيت منذ اكثر من ربع جيل، فكان مهندس مديرية كليفلاند مسؤولاً وعضواً، متحملاً مسؤولية إدارتها او الاشتراك في ادارتها السنوات الطوال. لا يكل ولا يمل، ايمانه بالنهضة يزحزح الجبال، قلبه وكفه وبيته مشرعة الابواب للقوميين وانصارهم ولكل قارع بابه.
ما كان الياس تقلا مناضلا – باشكال النضال المتيسرة في المغتربات- بل كان ايضاً شاعراً يغني القضية والزعيم وتراب الوطن، شعراً زجلياً ينبض بالحب واللهفة والاشواق. اصغيت اليه مرة في اول اذار سنة 1967 فادهشني بمشاعره المتدفقة من ايمانه كنبع هادر، كما ادهشني بتعبيره الحي عن هذه المشاعر العميقة.
حمّلني مرة او مرتين عندما كنت اتفقد مديرية كليفلند عتبه على مركز الحزب، لعدم اتصاله الدائم بعبر الحدود. كان يريد ان يكون مركز الحزب كل صباح في داره. كان يطمح بأن يكون الحزب كله في كليفلند... كان يتشوق ان يكون خزاناً يوزع الحرارة على الفروع دون توقف... عبثاً كنت ادافع. الرفيق الياس تقلا يرد على الحجة بالحجة،... ذاك هو الايمان الحق. الرفيق البعيد يرفض ان يتجسد بعد المركز عن مديريته انقطاعاً او إهمالاً!...
غير المؤمنين وغير العاملين لا يهمهم ان تنقطع صلات المركز بهم، اما الياس تقلا فلا يقبل لنا عذرا ولا دفاعا. كان مسؤولاً وبالوقت نفسه سائلاً. كان يعتقد من شدة حبه وإخلاصه ان المركز يجب ان يكون كل يوم في مديرية كليفلند حضورا وابلاغا.
عزاؤنا ان الحزب في امريكانيا وكندا وافاه حقه يوم مأتمه، فقد اقام له مهرجاناً تعبيراً عن تقديره وحبه، ولف نعشه بالزوبعة الحمراء التي احبها حتى العبادة، واحتشد ممثلوه من كل حدب وصوب، ليودعوا رفيقهم المناضل الصامد الامين.
اننا هنا على تراب الوطن ننحني بخشوع امام ذكرى الرفيق الذي فقدنا، نذرف دمعة وفاء ولو من بعيد، ونعلن إننا لن نقبل بأقل من حمل رفاته الى مسقط رأسه، ليرقد بسلام في تراب الاباء والاجداد الذي نقدس.
إلى زوجته العزيزة وابنائه السائرين على دربه والى معتمدية امريكانيا ومديرية كليفلاند خاصة، نرفع احر تعازينا... ان جنودنا المجهولين كالرفيق الياس تقلا سيظلون – رغم ان المغترب ابعدهم عنا- في سجلات الحزب، يخلدون فينا، وفي مسيرة هذه النهضة العظيمة الى العز والمجد ".
*
اوردت النشرة الرسمية في عددها السابع، في شهر ايار 1959 الخبر التالي:
" احتفال مديرية كليفلند المستقلة – الولايات المتحدة
احيت هذه المديرية حفلة اذاعية ساهرة بمناسبة اول آذار، في بيت المدير الرفيق الياس تقلا. وقد لبى الدعوة عدد من المواطنين فضلاً عن الرفيقات والرفقاء. وافتتح المدير الحفلة باسم سورية وسعاده ورحب بالحضور. وقدم بعدئذ مذيع المديرية الرفيق البرت قيم الذي القى بيان عمدة الاذاعة. وعاد المدير الى منصة الخطابة ليلقي قصيدة زجلية. وكانت الكلمة الاخيرة لناموس المديرية الرفيق اميل مكارم الذي تحدث عما يعنيه اول آذار.
وبعد انتهاء البرنامج الخطابي قدمت الحلوى واستمرت الحفلة حتى الساعة الثالثة صباحاً ".
*
من قصائده
الثامن من تموز
من تموز من خشبة الاعدام شعّ النور للجو علا وحلّق كشّح الغيمات
قديش كنت بملقى كاهنك مسرور مشيت معاهم ورحت توزع البسمات
عملولك محكمة وتهموك زور بزور وحكموا عليك شي بأربع خمس كلمات
رياض وبشارة كانوا معمرّين قصور وقالوا "سعاده" راح وحزبو مات
يا ليتني ساعتها كنت باقة زهور اما بضريحك كنت حبة رمل
حتى برموش عيني لملم الدمات
بحرية وواجب وقوة المبدأ الصحيح نشلتنا من بين العواصف والمواج
كل عام عالجناح بنزور الضريح عقد ما القدس ومكة بزورها حجاج
مين قال وصفة مغربي بتشفي الجريح ومن الذياب خيالات رح تحمي النعاج
من الدعارة والزنا المعبد يصيح اليوم اصعب من وقت بيع الدجاج
بدنا همزة وصل تنشوف المسيح توسطنا مع قداسة المطران كبوجي
يحكي معوا بلكي بيعِرنا الكرباج
الكرم شيمتنا وعنا للكرم عادات بنشفي العليل ولو ما التقى ترياق
هيدي بلاد الانبياء منزلي الايات قديش مشتاقة لينا ونحن عمنشتاق
حسبوا الضرف انخزق حسرة على الزيتات ودف المحبة انفخت وتفرقوا العشاق
بكره بنرجع فوقها منرفع الرايات مع جحافل الشام ومع جيش العراق
ايدو بدها تنقطع بشّروا السادات واللي معوا حملوا وصمة عار
كميل وبطرس الحداد والشدياق
من شامنا وعراقنا تلونت جبهة صمود من مواقع معرفة بعلم الحساب
قديش حلو الموت في ارض الجدود احلا واحلا نغيّر برمة الدولاب
كهول وشباب واحداث كلّنا جنود عجايز، صبايا، من ارض الكتاب
حتى نكون علقمة بحلق اليهود هي ارضنا مش داشرة الها صحاب
زوّروا التاريخ بالتورات والتلمود علّموا العالم مكر وعهر يهود
كيف البشر بصدقوا الَه كذاب
نحنا آمنا بحكمة القرآن والانجيل شعب واحد ما رح منقبل غريب
عشنا سوى من الف جيل وجيل وحدة حضارة هلالنا جذب الصليب
لو عطونا الكون ما منقبل بديل عن سوريانا من بعيد ومن قريب
من هواهها ومائها بتشفي العليل وتفاحها وعنباتها وصفة طبيب
مش رح منقبل لا كتير ولا قليل امة عظيمة كاملة وموحدة
وقبرص معاها نجمة هلال الخصيب
*
وان مضت سنوات طوال على رحيل الرفيق الياس تقلا، فذكراه قائمة في كليفلند ولدى كل رفيق عرفه في التزامه الحزبي المشع، ومستمر عبر رفيقة حياته الرفيقة جوليا، التي تصر على ان تبقي منزلها، بيتا للقوميين الاجتماعيين، ترافق المديرية في نشاطاتها المتنوعة، وتقول للجميع ان القومي الاجتماعي، وان تقدم به العمر، فإن ايمانه يبقى شابا، ونضاله يقاس بالعزيمة لا بعدد السنوات.
*
* في احدى رسالته بتاريخ 22 تموز 1939 يتوجه سعاده الى الرفيق ابراهيم حبيب طنوس (في بلدة اراشا – المثلث الميناوي، البرازيل) بـ"الرفيق الحي" .
|