معظم القوميين الاجتماعيين اطّلع على بيان الاول من حزيران 1935، الذي سمي بالخطاب المنهاجي الاول.
نشر هذا الخطاب في المحاضرات العشر، وفي الجزء الثاني من الاثار الكاملة. ويستحسن ان يعود إليه القوميون الاجتماعيون، كما الى كلمات القَسم، وكتيب التعاليم، ودستور الحزب، فهذه تعتبر من الاساس في البناء القومي الاجتماعي.
انما قلّة، هي التي اطلعت على وقائع اجتماع الاول من حزيران.
عنه كتب الامينان جبران جريج، في مجلده الاول من "من الجعبة"، والامين عبد الله قبرصي في الجزء الاول من "عبد الله قبرصي يتذكر".
*
من الامين جريج هذا العرض عن وقائع الاجتماع، ننقله بالنص الحرفي عن الجزء الاول من مجلده "من الجعبة" الصفحة 292.
كان علم الزوبعة يتصدر القاعة، واذ اعلن عريف الاجتماع عن قدوم "الزعيم" اوعز باداء التحية الرسمية التي كانت الايادي قد ارتفعت بها قبل الابعاز او معه. كان عريف الاجتماع عميد الحربية زكي النقاش.
كانت المرة الاولى التي اراه فيها ويدعى "الزعيم". كنا اعتدنا على تسميته "الاستاذ" وهي تسمية لم يعترض عليها يوماً. وزاد هيبته الآن ظهوره باللباس الحزبي الرسمي، اللباس الرصاصي، ومشيته العسكرية الموزونة. اشرأبت الاعناق تتطلع اليه واصخنا آذاننا نستمع الى ما سوف يقوله.
ان شكله الحالي محا من مخيلتي كل اشكاله السابقة، إن في اللحية على درب المنارة او في مطعم حداد او في الضيعة وقد طلّق لحيته ثلاثاً. ان شكله الحالي يوحي الرزانة والوقار والجدية.
بدأ يتكلم. بالاحرى بدأ يخطب. كان خطابه طويلاً ولكن طوله غير ممل. كانت لهجته الخطابية ممتازة. وكانت الالفاظ تنساب من على لسانه فياضة، واضحة، جلية. كانت المعاني صريحة تدخل الآذان دون استئذان وتمتلك القلوب بلا مقدمات. هكذا كان خطاب ذلك الاجتماع.
زاد تقديري للزعيم بعد هذا الخطاب الذي لم يترك شاردة او واردة إلا وتناولها. بحث كل المواضيع من اجتماعية، سياسية او دعائية، إن على الصعيد القومي او الصعيد الاجنبي، او من جهة المفهوم الحزبي لها ولمبادئ الحزب نفسه وتركيبه.
لاحظت وجود بضعة اشخاص في غرفة جانبية، كان بابها شبه مغلق، عرفت منهم فيما بعد الفنان يوسف الحويك(1).
*
يروي الامين جبران جريج (في الصفحة 296) "ان الرفيق صلاح لبكي القى قصيدة لم اعثر عليها، ثم الى قصيدة اخرى من الرفيق يوسف الدبس، اثبت فيما يلي الابيات التي وصلت الي بعد طول هذه السنوات..."
"نام شعـب علـى الظلامـة ثــارا ان يطـل نومه فـذلاً وعـارا"
وارتمت للحضيض منه اســــود صيرت تربة الحضيض نضارا
***
قـال قـوم، فـي الانتـداب حيــاة فاطعناهُـمُ رضـى واختيـارا
وعلى الحـب والولاء اقمنــــا لو يراعون حقنـا والجــوارا
إنما استأسـدوا علينـا وجـــاروا فأبيـنـا لجورهم إقـــرارا
حسـبونا مثـل الرمـاد ولكــــن جهلوا ان فـي الرماد شـرارا
نحن قوم مسـتضعفون ولكننــــا نحن نأبى مذلّـةً واحتقــارا
نحن شـعب نبني من المجد صرحـاً ينطح السُّحبَ عـزة وافتخـارا
***
لا تقـولـوا نـار الرمـاد تلاشـت ان بين الرماد نوراً ونـــارا
او ستقضي ثوارنا في المنـافـــي فسـنغـدو جميعنـا ثــوارا
قـل لسوريـة اطمئنـي فإنّــــا نحن ابناؤك الميامـــين دارا
فصلونا عن صـدرك الرحب رغماً فصبرنا صبر الكرام اضطـرارا
اشـركونا وليـس يدرون إنـــا نعبد الله واحـداً جـبــــارا
إن في الوحدة الحياة لشـعــــب عـدم المنصفـين والانصـارا
لا تبشـر بوحدة القـوم ما لــم يتوحد اسلامهم والنصـــارى
يضيف:
عند انتهاء إلقاء القصيدة اقترب الزعيم من الرفيق يوسف الدبس وربت على كتفه قائلاً "صحيح انك دبس". ثم انشدت بعض الاصوات الجميلة نشيد "انت سورية بلادي" منها صوت الرفيقة نجلا معتوق حداد (الامينة لاحقاً) والرفيقة استير مينا وبعدهن انشد الرفيق يوسف تاج(2) بصوته الرائع مقطوعة زجلية.
" وفي ختام الكلام عن الاجتماع العام في اول حزيران 1935 لا بد من التنويه بالاسلوب المدروس الذي اتبعه منفذ عام بيروت، الرفيق شارل سعد(3)، في ايصال المدعوين الى مكان الاجتماع بكل دقة وترتيب وكتمان، يعاونه في ذلك ناموس المنفذية الرفيق المهندس جورج حداد.
**
من جهته يروي الامين عبد الله قبرصي في الجزء الاول من "عبد الله قبرصي يتذكر"(ص 83)، ما يلي:
" كان الحزب قد اصبح حزباً بكل معنى الكلمة. انتشر في انحاء لبنان والشام. منفذياته تتحرك بانتظام. مركزه مكتمل. دستوره مكتوب بأبوابه الادارية: العمد والمنفذيات والمديريات، مع النظام المالي. اما مجالس المنفذيات ولجان المديريات ومرسوم رتبة الامانة وانشاء المجلس الاعلى فقد اضيفت بعد الخروج من السجن سنة 1936 او 1937.
كان سعاده عالماً نفسانياً. كان يدرك قيمة التفاعل بين الرفقاء كجماعة منظمة. ويدرك في الوقت نفسه التأثير الكبير على الروحية العامة نتيجة اجتماع عام لكل الاعضاء من كل اطراف لبنان. لم يكن يستخف بخطر الانفضاح ولكنه لم يكن يخشاه. لذلك وبعد التداول في مجلس العمد قرر الدعوة الى اجتماع اول حزيران في منزل الرئيس نعمة ثابت في بئر حسن.
كان المنزل قصراً صغيراً مسوراً وقائماً في حديقة غضة الاشجار، يلتقي فيها او حتى داخل القصر جمع غفير دون ان يلفت الانظار. فمكان الاجتماع إذن مؤمن، والسلامة مضمونة. وهنا مجال القول ان الحزب تأسس فعلاً بين الكوخ في رأس بيروت وبين قصر نعمة ثابت في بئر حسن.
طلب سعاده من كل عميد ان يقدم تقريراً مفصلاً عن عمدته، ما حققته من مشاريع وما تنوي تحقيقه، كما طلب ان تحول هذه التقارير بعد ان تمر به، الى عمدة الاذاعة.
لاحقت تنفيذ هذا القرار بدقة. فما ان اصبحت المواد بين يديّ، حتى انصرفت بكليتي الى جمعها في بيان شامل يصلح – لو استطعنا العثور عليه – اساساً لكتابة وتقييم مرحلة التأسيس، ولكن المؤسف ان هذا البيان – وكان مطبوعاً على الألة الكاتبة – ضبط من قبل دوائر الامن العام عند انكشاف الحزب، وكان من اهم الادلة الثبوتية لتحديد المسؤوليات.
حاول الحزب – كما حاولتُ انا شخصياً – ان اعثر على ملف دعوانا في المحكمة المختلطة التي انتهت بالحكم الصادر علينا في 27 كانون الثاني 1936، فلم اوفق. يبدو ان الملف ضم الى ملفات المحاكمة امام القضاء العسكري سنة 1940 وعندما رحل الفرنسيون اخذوا معهم كل هذه الملفات او اتلفوها.
كان برنامج الاجتماع، ان يتلى هذا البيان ثم ان نستمع الى خطاب الزعيم، وقصيدة من صلاح لبكي واخرى من يوسف الدبس وفي النهاية ان نستمع الى اغان قومية من يوسف تاج .... وسواه.
في ذلك اليوم، كما يوم قابلت مع فؤاد سليمان الدكتور زكي النقاش، كنت خالي الوفاض من المال. ركبت الترامواي حتى الحرج. ومن هنالك رحت مشياً على الاقدام الى قصر آل ثابت.
وصلت منبوش الشعر، العرق يتصبب من وجهي مدراراً.. وجدت على الباب السيد شارل سعد، يشرف مع بعض المسؤولين على تنظيم الاجتماع. كانت الحراسة من الباب الخارجي حتى قاعة الاحتفال مؤمنة بدقة.
في تمام الساعة الثامنة، وصل سعاده، وكنا بانتظاره على الباب الخارجي، ودخلنا معه، والقوميون وقوف يؤدون التحية.
افتتح الاجتماع وتلوت البيان، وتلا صلاح لبكي ويوسف الدبس كل منهما قصيدته والقى سعاده خطابه التاريخي.
بعد خطاب بعقلين(4) المرتجل، جاء هذا الخطاب المكتوب، يؤكد لي ان سعاده هو الضالة المنشودة، هو المنقذ. لم يعبر فقط عما يختلج في ضمائرنا، نحن ابناء ذلك الجيل، بل عبر عن ضمير الامة المثقل بالصبر والامال والمحن والكوارث والمثالب والمفاسد. عبر عن قواعد الحياة والعمل لبعث امة بكاملها ودفعها في الخط الحضاري الامثل".
هوامش
(1)نحات معروف، من اعماله نحت تمثال نصفي لسعاده. كنت كتبت عنه نبذة تعريفيه. لمن يرغب الاطلاع الدخول الى ارشيف تاريخ الحزب على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
(2)من مناضلي الحزب، وشعرائه ومطربيه. عُرف بصوته الرائع. للاطلاع على النبذة التعريفية عنه، الدخول الى الموقع الوارد آنفاً.
(3)طرد لاحقاً من الحزب. اسس مدرسة الشويفات الشهيرة، المعروفة باسمه.
(4)حصل في العام 1934، كما الاجتماع الذي تمّ في مغارة بزوز المجاورة لبعقلين. سنكتب عنهما لاحقاً.
|