بعد الفرار الأسطوري الذي نفذه الضابط الرفيق محمود نعمة من سجن المزة، وتمكنه من الوصول إلى لبنان، في العام 1957 راحت أعين المكتب الثاني الشامي تترصده إلى أن أمكن لها شراء جورج الداية الذي كان يقطن مع أهله على مقربة من منزل الأمين نبيه نعمة وكان بالتالي يتردد إلى منزل الأمين نبيه في الطابق الخامس من بناية منصور الفرزلي في منطقة فسوح الأشرفية، إلى جانب سينما كابري (سابقاً) مما سهّل له دس متفجرة تحت سرير في الغرفة التي اعتاد أن ينام فيها الرفيق محمود نعمة عندما يقوم بزيارة منزل شقيقه الأمين نبيه .
في تلك الليلة، حضر إلى بيروت الرفيقان زخور الخال (من عمار الحصن) وشهدا الخوري (شقيق الرفيقة ناديا، زوجة الأمين نبيه) فآثر الرفيق محمود أن يخلي لهما الغرفة التي كان مفترضاً أن يشغلها في ذلك اليوم، وعلى هذا الأساس عمد العميل الداية إلى وضع المتفجرة مطمئناً إلى أنها ستودي بحياة الضابط الرفيق محمود، وبالتالي سينال المكافأة التي وعده بها مدبرو جريمة الإغتيال .
في الساعة السادسة من صباح يوم السبت 4 كانون الثاني عام 1958 انفجرت القنبلة لتحوّل جسدي الرفيقين زخور الخال وشهدا الخوري إلى أشلاء، ومعهما الجسد الطري للطفل نهاد إبن الأمين نبيه الذي شاء القدر أن ينتقل ليلاً ليندس في سرير خاله.
بعد ظهر اليوم التالي، الأحد 5 كانون الثاني كان حشد من القوميين الاجتماعيين والمواطنين يتجمعون في باحة مستشفى أوتيل ديو مع أسرة الرفيق الشهيد زخور الخال وأصدقائه الذين حضروا من عمار الحصن لمواكبة جثمان الرفيق الشهيد. أنزل النعش محمولاً على الأكف، وتناوب المسؤولون المركزيون على حمله إلى السيارات التي انطلقت في موكب خاشع إلى طرابلس فالحدود اللبنانية، الشامية. وفيما عادت السيارات المرافقة للموكب، تابعت سيارات التشييع طريقها إلى عمار الحصن.
وعند منتصف ليل الثلثاء 7 كانون الثاني تجمع الرفقاء مرة جديدة أمام مستشفى أوتيل ديو يتقدمهم عدد من المسؤولين المركزيين وذلك لتشييع جثمان الرفيق الشهيد شهدا خوري الذي حضر أهله من حمص لحمل جثمانه إلى مسقط رأسه. وكذلك رافقه المشيعون حتى الحدود الشامية.
تشييع الطفل الشهيد
قبل ذلك، في صباح يوم الثلثاء كانت باحة مستشفى أوتيل ديو والطرق المحيطة تشهد تجمع جمهور حاشد من الرفقاء والمواطنين الذين توافدوا من أنحاء مختلفة من لبنان رغم الأمطار، والثلوج في ذلك اليوم العاصف من شهر كانون الثاني. عند الساعة الحادية عشرة وصل رئيس الحزب آنذاك الأمين أسد الأشقر مع والدي الطفل الشهيد، الأمين نبيه نعمة والرفيقة ناديا، وباقي أفراد العائلة، يرافقهم المسؤولون المركزيون.
في الغرفة حيث سجي الطفل نهاد وقف الأمين نبيه والرفيقة ناديا يودعان إبنهما الشهيد وسط حزن عميق لف المكان، وإذ أنزل النعش إلى ساحة المستشفى، إرتفعت آلاف الأيدي زاوية قائمة، ثم إنتظمت الصفوف يتقدمها عشرات الرفقاء من حملة الأكاليل،
أبى الرفقاء إلا أن يحملوا جثمان الطفل عالياً فوق الأكف، وسارت الجنازة على الأقدام من مستشفى أوتيل ديو حتى كنيسة مار متر وسط الأشرفية على إيقاع أجراس الحزن، فيما كان آلاف المواطنين من أهالي وسكان الأشرفية على الطرقات ومن على الشرفات يشهدون أحد أضخم الجنازات التي عرفتها .
بعد الصلاة، ألقى رئيس الحزب الأمين أسد الأشقر كلمة بليغة مؤثرة، وبعد أن إنتهت مراسم الدفن وقف مع أسرة الطفل الشهيد يتقبل التعازي.
***
من كلمة رئيس الحزب الأمين أسد الأشقر
" أيها القوميون الإجتماعيون
الأمم العظيمة، لا يمكن أن تستمر عظمة إلا إذا كانت تقدم الشهداء وتطلب الفداء، والشهادة لمجدها وعظمتها، هكذا كانت الأمم منذ أن وعت نفسها وستستمر إلى قرون لا يمكن حصرها في عصر من العصور.
وأمتنا في هذا العصر تتغذى بالدم الذي يقدمه ويبذله القوميون الإجتماعيون تثبيتاً لقضيتها وتأدية لرسالتها في صراعهم ضد الإرادات الأجنبية التي تتوهم بأن هذه الأمة العظيمة لم تذل أشلاء ونهبا وغنائم تتوزع على الطامعين.
ذلك كان ظن الإستعمار الغربي خلال ربع قرن فحاربه القوميون الإجتماعيون وبذلوا الدم وما زالوا يبذلون لتصفية أثاره وتحرير أرض الوطن منه.
واليوم وهذا هو ظن الإستعمار الشرقي الذي يتوهم أننا بالفعل أشلاء للتوزيع. ولكن ما يتوهمه هذا الإستعمار من أنه شلو ممزق ان هو إلا أمة قد وقفت لتعلن أنها لن ترضى إلا بالمجد مطلباً وبالحرية هدفاً ترخص في سبيله التضحيات.
إن أمتنا قادرة على صد الإرهابيين وتبديدهم. قادرة بنهضتها القومية الإجتماعية التي كم سحقت في الماضي من صعاب وهي تسير اليوم لسحق ما تبقى من صعاب. نحن لا نرهب الموت ولا نخاف الرصاص، ولا بأس أن يخترق الرصاص صدورنا كما إخترق صدر زعيمنا وقلبه، وكما إخترق صدور شهدائنا الأبطال وقلوبهم، فاستقبلوه بالإيمان الذي يقهر الموت وبذل الرصاص. ولينشر الإرهابيون أشلاءنا في الفضاء وفي البساتين وعلى الطرقات وليسفحوا دماءنا في كل مكان فهذه الدماء ستكون مطهرا للارجاس والمفاسد وستغسل عن هذه الأرض أثار الفتح ومفاسده.
أيها القوميون الإجتماعيون،
لقد قلت لكم عندما صرع شهيدنا غسان جديد أننا لا نثأر، فالثأر وسيلة الأمم البدائية وطريقة بدوية غريبة عن نفسية الأمم المتحضرة،
الأمم المتحضرة تدافع عن كرامتها وقضيتها وتقضي على الإرهاب والإغتيال والنسف والتدمير الفردي بحيويتها، بتخطيطها القادر على رد أسلحة الإرهابيين إلى صدورهم وصدور من دفعوهم.
فالأمة التي يظنون أنها ماتت، والتي قال عنها المستعمر أنها قضت إلى الأبد، قد برهنت بقوتكم وتراصكم أنها أقوى من غدر الغادرين وتآمر المتآمرين وقد برهنتم أنتم أيها القوميون الإجتماعيون، برهنتم بقوتكم العظيمة هذه، وبوحدتكم الرائعة، عن مقدرة خارقة في صد كل القوى المتألبة على نهضتكم.
وأنت أيها البطل الشهيد يا أول شهيد صغير في هذه الأمة في هذا العصر، إن كل قطرة من دمائك ستكون زاداً للأبطال المصارعين وستكون مصهراً لهذه الأمة من رجس المتآمرين ومثالبهم.
إن دمائك الحبيبة، ودماء شهدائنا كلهم، سترافق هذه الأمة القومية الإجتماعية الجديدة التي لا تحيا إلا وحدة قومية قاهرة ولن تقدر قوة في العالم على إرجاعها إلى حالة الشلو الممزق.
أيها القوميون الإجتماعيون،
قد يظن الناس أنكم وحدكم المستهدفون وأن معركة الحقد والتخريب لا يقصد بها سواكم، إن عليكم أن تشعروا وتبشروا المواطنين أن الأمة جميعها هي المستهدفة وأن الإستعمار يستهدف تمزيق الأمة وتجزئتها، وأن على المواطنين ان يستعدوا معكم لإنقاذ الوطن من المتحكمين فيه الزارعين بيوته دماراً ودماء، وأن يعلموا أنكم قوة لا تتراجع وأنكم طليعة الأمة المصارعة العاملة للخير وللمجد والعز".
***
•سار في مقدمة المشيعين رئيس الحزب آنذاك الأمين أسد الأشقر وإلى جانبه الأمين نبيه نعمة وزوجته الرفيقة ناديا وعدد كبير من الأمناء والمسؤولين المركزيين، كان من بينهم الأمناء الياس جرجي، عبد الله محسن، علاء الدين حريب، إنعام رعد، أنيس فاخوري.
•كان الأمين نبيه نعمة والرفيقة ناديا قد رزقا بابنة، نهلا(1)، وبطفل، نهاد. بعد استشهاد الطفل نهاد، أمكن لهما أن يرزقا بصبي، أسمياه نهاد، وهو من الرفقاء المميزين كفاءة ووعياً قومياً إجتماعياً.
•تولى الأمين نبيه نعمة مسؤوليات حزبية عديدة كان آخرها مسؤولية ناموس الرئاسة، وهو من أشار على رئيس الحزب آنذاك الأمين عبدالله سعاده أن يقوم بالحركة الانقلابية.
عرف الأمين نبيه بصلابته ومناقبيته وبإيمانه المطلق بالنهضة، وهو فارق الحياة أواخر العام 1961 أما الرفيقة ناديا خوري نعمة فقد وافتها المنية في العام 1986 وشيعت في مأتم حزبي حاشد إلى متواها الأخير في مشتى الحلو .
•كانت عائلة الأمين نبيه نعمة وعائلة الجاني (والدته وشقيقتيه) على علاقة جيدة وتتبادلان الزيارات. وليلة الحادث كانت الوالدة وابنتاها يسهرن في منزل الأمين نبيه وهن لا يدركن أن جورج (الأزعر والكذاب كما كن يصفنه) قد دس المتفجرة في إحدى غرف المنزل.
•أبرزت الصحف اللبنانية، والكثير من الصحف العربية والأجنبية خبر الجريمة التي أودت بالشهداء الثلاثة ومنها جريدة "نيويورك تايمس" التي نشرت الخبر عاموداً كاملاً في عددها الصادر في 5/1/1958. فيما نشرت صحيفتا "صدى لبنان" اليومية و"الزوابع" الأسبوعية، تغطية وافية عن الجريمة، وعن المأتم الحاشد الذي أقيم في اليوم التالي .
•جاء في كتاب "أيام في الذاكرة" للرفيق أنور فهد: " مع بزوغ فجر أحد أيام 1958 كنت نائماً في مركز الحزب ورنّ عندي جرس الهاتف، وعندما رفعت سماعة الهاتف سمعت صوت الأمين نبيه نعمة وهو يقول لي، "رفيق أنور، البقاء للأمة، لقد فجروا منزلي واستشهد الرفقاء زخور الخال، شهدا الخوري وطفلي نهاد، إن عليك فوراً تبليغ المسؤولين في المراكز الحزبية ".
ويضيف أنه اتصل فوراً بمنزل الأمين عبد الله قبرصي، وبحضرة عميد الداخلية، ثم توجه إلى منزل الأمين نبيه في محلة فسوح – الأشرفية " وكان المنزل محوطاً بقوى الأمن، صعدت السلم لأرى أثاث البيت المتناثر، وجثث الشهداء الثلاثة وقد غطيت بالشراشف".
•الرفيقة ناديا خوري من مدينة حمص، وهي عرفت النضال القومي الاجتماعي رفيقة، وزوجة للأمين المناضل نبيه نعمة. شقيقها الرفيق شهدا استشهد في المتفجرة، وشقيقها الآخر الرفيق أنطون كان غادر إلى التشيلي حيث عمل حزبياً وتولى فيها المسؤوليات محلية إلى جانب الرفيقين المرحومين لويس خوري وحسني قرنفلي، والرفيق الثابت على إيمانه وتفانيه ونشاطه المستمر، لويس كباش.
من كتاب "أنا والتنين" لفقيد الأدب الرفيق سعيد تقي الدين، هذه الرسالة الموجهة منها إلى طفلها الشهيد:
" إلى طفلي
كنت يا حبيبي غافياً تحتضن لعبتك حين أطفأت النار شعلة الحياة في عينيك الغاليتين وتأججت في قلبي... ترى أية أحلام كانت رؤاك تغزو ؟. أكنت تحلم ببيتنا الحبيب الذي تشردنا عنه ؟ أم كنت ترود الغد القريب تحلم بشبابك المقبل، يا ما كان أروع شبابك لو بلغته.
كان يشرد بي الخيال أحياناً وأتصور انك كبرت وكبرت معك بندقيتك الصغيرة وآمالك. لو بلغت شبابك واستشهدت دفاعاً عن الوطن لكنت تعزيت، أما الآن... ترى ماذا يجني الوطن من تمزيق الأطفال ؟.. من يستطيع الجواب ؟ أترى يجيبني سفاحو الأطفال،. ميتمو الأطفال،.. مشردو الأطفال عن صدور أمهاتهم.
آه يا أطفال دمشق، النار التي أطفأت شعلة الحياة في عيني صغيري تتأجج في صدري، لقد جمدت خطى ابني وصمتت تفتفته وأغاريده وانطفأ غده وغاب بلا شروق...
يا أطفال دمشق سلمت عيونكم، أيقظوا الإنسانية التي تحتضر فأنتم عزائي.
ناديا نعمة "
*
إلى الأمين نبيه نعمة
نشرت جريدة "الزوابع" في الصفحة الأولى من عددها الصادر في 11 كانون الثاني 1958 هذه القطعة الأدبية الموجهة من " فهمي"(2) إلى الأمين المفجوع بطفله الشهيد، ننقلها بنصها الحرفي:
أيها الأمين،
كل صدمة.. لك فيها نصيب.. وكل ضربة لك فيها كدمة.. وكل نازلة لك فيها بلاء.. وأنت . أنت.. من عرفناك في مدلهم الليالي، وبارقات الأمل.. تعطينا الأمثولة تلو الأمثولة، وجبينك الوضاء.. وثغرك البسام، كعهدنا دائماً.. يهزآن بالموت.. ويتغذيان بالألم.. ويتحديان الفناء...!
أيها الأمين..!
في ولدك الشهيد.. لأبنائنا قدوة.. وفي رجولتك الصامته.. لأجيالنا عبرة.. وفي هدوئك الرزين.. عزم ماض وقوة لا تلين..!
في نفس كل قومي اجتماعي لك منزلة.. وفي صفحات تاريخ صراعنا لك مقام.. وفي أعماق أعماق أولئك الذين عرفوك.. تجلة واحترام .
فإليك أيها الأمين.. عزاءنا القومي الاجتماعي.. بنهادك الشهيد وبرفيقيك الشهيدين.. عزاء كله محبة.. تفيض بالحق والخير والجمال.. ننشره من دماء شهدائنا.. على دروب أمتنا.. في سيرها الحثيث نحو النصر الذي ليس لنا منه مفر...!
إليك.. وإلى رفيقتنا أم نهاد.. وإلى رفقائنا أعمامه الأبطال.. ما تعجز دونه الكلمات تعبيراً.. نختمه بالصبر الذي لا بد منه.. إلى أن يحين الوقت.. وتأزف الساعة التي لا ريب فيها .
*
•افاد الامين فايز شهرستان (بتاريخ 18/04/2013) ان الرفيق محمود نعمة كان برتبة ملازم، عام 1954 في جبهة القنيطرة .
هوامش
(1) رفيقة نشطت جيداً في ستينات القرن الماضي إلى أن غادرت إلى الولايات المتحدة .
(2) نرجح أنه الرفيق فهمي شريح، من ترشيحا ( الجنوب السوري ) الذي توّلى مسؤوليات حزبية في منطقة حزور ( مشتى الخلو – الكفرون – بدادا – نبع كركر ) منها مسؤولية منفذ عام، وإدارة ثانوية حزور في مشتى الحلو، وهي إحدى المدارس التي أسسها الحزب في الشام في النصف الأول من خمسينات القرن الماضي.
|