أثناء تولّي المسؤولية الحزبية في البرازيل عام 1982 عملت على إصدار عدد خاص من "سورية الجديدة" تضمّن مقالات ومقابلات مع رفقاء متقدمين بالعمر كانوا عرفوا سعاده في فترتيّ اقامته في البرازيل: الاولى، يافعاً فشاباً الى ان عاد الى الوطن عام 1930، والثانية في فترة اغترابه القسري.
من المقابلات، تلك التي اجريناها مع الرفيق ادمون كركور(1) اثناء زيارة قام بها الى سان باولو مع زوج ابنته الرفيقة هالة، الرفيق ريمون الجمل(2).
هنا ابرز ما سجلناه، على ان ننشر ابرز المقالات والمقابلات المنشورة في العدد الخاص، تباعاً.
*
- رفيق ادمون، متى تعرفت إلى سعاده؟
عام 1946، وكنت قد توجهت من دمشق إلى بيروت برفقة الرفيقين جورج ربيز وصبحي فرحات، وإذ وصلنا إلى مركز الحزب في شارع المعرض التقينا بالرفيق جورج عبد المسيح ومعه أحد الرفقاء، بادرنا إلى القول: ماذا تفعلون هنا؟ أسرعوا إلى منزل.. قرب مدرسة المقاصد الإسلامية. ذهبنا إلى حيث أشار، وإذ دخلنا المنزل وجدنا الزعيم مقرفصاً على الأرض وأمامه خريطة كبيرة، وحوله رفقاء ومواطنون من أساتذة جامعيين وثانويين. كان سعاده يشرح على الخريطة حدود الوطن السوري، وحقيقة الأمة السورية، ويتحدث عن نظرتنا إلى العالم العربي، وعن العروبة الحقيقية، وعمّا يكنّه نحو العالم العربي من شعور حقيقي.
عندما انتهى الزعيم، بادره أحد الأساتذة:
أصارحك حضرة الزعيم – كان يتوجّه إليه في البدء بحضرة الأستاذ – بأنني أتيت إلى هنا لأخربط الإجتماع فهل تسمح بأن يكون لي شرف الإنتماء إلى الحزب على يدك أيها الزعيم.
وفعلاً فقد أقسم هذا المدرّس اليمين مع مجموعة ضمّت 29 مدرّساً كانوا يستمعون لمدة ثلاث ساعات ونصف الساعة إلى زعيم النهضة السورية القومية الإجتماعية يشرح فكرته وعقيدته.
- وهل شاهدته بعد ذلك؟
نعم. عام 1947 على ما أذكر، في مدينة اللاذقية، وقد كان الزعيم في جولة حزبية إلى المنطقة الشمالية الغربية من سورية. كنت أثناء ذلك طالباً في حلب، وحضرت مع رفقاء آخرين للإستماع إلى زعيم الحزب.
في ذلك اليوم وقف سعاده على شرفة يخاطب الآلاف من الرفقاء والمواطنين. كان المطر يهطل
بغزارة، فلم يتوقف سعاده ولم يتحرّك أحد من الجموع المحتشدة كأن على رأسها الطير، أو كأن ما
يهطل بغزارة ليس مطراً بل وروداً ورياحين.
ذلك الموقف الخاشع ترك في نفسي اثراً كبيراً، فقد شعرت فعلاً أننا نهضة تبني مجتمعها الجديد، وأننا أمة جديرة بالحياة.
بعد ذلك بفترة قصيرة انتقل سعاده إلى حماه في جولة حزبية أيضاً. وأذكر أنه ألقى خطاباً جامعاً في
صالون المدينة، يقال له "الصالون"، أمام جمهور ضاق به المكان والساحة المحيطة.
أما المرة الثالثة التي التقيت بها سعاده فكانت في أوائل عام 1949 في مدينة طرابلس حيث كنت قد
انتقلت إليها بأمر حزبي، بمهمة في أوساط الطلبة. في ذلك الحين جاء الزعيم إلى طرابلس في جولة
حزبية. التقيت به في منزل الأمينة نجلا معتوق حيث كانت قد أعدّت له مأدبة عشاء. طلب إلي
الأمين المرحوم أنيس فاخوري أن أستضيف الزعيم في غرفتي – وكنت أستأجِر غرفة متواضعة
ضمن منزل مع زملاء آخرين يستأجرون الغرف الباقية.
استغربت الأمر وشرحت له واقع غرفتي، أنا الطالب، فأفهمني الأمين فاخوري أنّ الأمر قد صدر
بذلك، وطلب إليّ أن لا أخبر أحداً. فهمت بعد ذلك أنّ المنفذية كانت مسؤولة عن تدبير أمكنة النوم
للزعيم، ولم يكن هو نفسه يدري أين سينام هذه الليلة أو تلك.
انتقل الزعيم إلى غرفتي الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل. الغرفة كانت تضمّ سريراً واحداً،
وفراشاً إضافياً كنت أحتفظ به تحت السرير احتياطاً لمناسبة قدوم زميل لي. أعددت شرشفاً نظيفاً
على السرير، ووضعت شرشفي الذي كنت أستعمله على الفراش الذي مددته على الأرض. فعلت
ذلك ببهجة وأنا غير مصدّق أن سعاده معي في الغرفة، وهو سينام الآن على سريري. إلا أنّ سعاده
رفض وأصرّ أن ينام هو على الأرض، فأذعنتُ لقراره، ونمت على السرير، فيما نام سعاده بهدوء
كلّي على الفراش، حتى أنه لم يقبل أن أغيّر له الشرشف المستعمل. كان البرد شديداً ولم أصدّق أن
الزعيم ينام مكتفياً بحرام واحد، بينما بقيت أنا صاحياً أنظر إلى الزعيم وهو نائم كالطفل.
صباحاً، في الخامسة والنصف استفاق سعاده وسألني عما إذا كنت قد نمت جيّداً.
- طبعاً يا زعيمي.
لم أرغب أن أصارحه أني بقيت الليل ساهراً. دخل الحمام واغتسل بالماء البارد رغم الصقيع، ودون
أن يأذن لي بإشعال الوقود في الحمام. علمت أنّ من عادته أن يغتسل دائماً بالماء البارد، حتى في
أيام الشتاء.
ارتدى سعاده ثيابه، لم يتناول فطور الصباح المتواضع جداً، إنّما اكتفى بفنجان قهوة. وعند السادسة
صباحاً أتى الرفيق أنطون شاهين(3) ورافق سعاده إلى مكان آخر.
وسألنا الرفيق إدمون:
- كيف تعاطى سعاده معك ؟
طوال مكوث الزعيم في غرفتي لم أشعر سوى أني مع صديق، مع أخ، أو مع والد. إنّ الشعور بالحنوّ الذي كان يشعّ من وجه سعاده قد أحاطني بالفرح والإرتياح.
سألني الزعيم:
"إذا تزوّجت غداً يا رفيق ادمون وأصبح لديك أبناء فهل تضغط عليهم للدخول إلى الحزب؟"
رغبت أن أؤكد له أني سأفعل ذلك لأن القسم يقول: "وأن أتّخذ مبادئ الحزب إيماناً لي ولعائلتي
وشعاراً لبيتي".
أجابني سعاده:
لا، يا رفيق ادمون. هذا خطأ. كن حزبياً جيّداً ومناقبياً، وعند ذلك سيتبعك أولادك وينتمون إلى
الحزب.
– هل تذكر أشياء أخرى عن سعاده؟
نعم. في اليوم التالي دُعي الزعيم إلى منزل الأمين الدكتور عبدالله سعاده، وكانت المناسبة عيد ميلاد ابنه نقولا (الذي استشهد في الشياح عام 1976)
بعد تناول العشاء. وأثناء الرقص شاهد رفيقاً يراقص رفيقة – وكانا على علاقة حب ثم تزوجا بعد
ذلك – بصورة لم ترق له كثيراً. فطلب إلى الرفيق عفيف نجار أن يلفت نظر الرفيقين إلى " أن
الرقص نزهة على شاطئ الموسيقى، وليس هز خصر على خصر"
هكذا كان سعاده في كلّ أمر، يعطينا أمثولة، ويمارس معنا القدوة.
- وهل شاهدت سعاده بعد ذلك؟
نعم. بعد حادث الجميزة المشهور، توجهت من طرابلس إلى شتورة فدمشق. أذكر أن الفترة كانت أواخر حزيران عام 1949. التقيت بالزعيم في منزل الرفيق نجيب شويري في دمشق، وأذكر من الحضور الأمين نوّاف حردان، الأمين عجاج المهتار، الرفيق زيد الأطرش، والشهيد الصدر عساف كرم. كان هذا الإجتماع من الإجتماعات العديدة التي كان يعقدها الزعيم في دمشق تحضيراً للثورة القومية الإجتماعية.
يومئذ طلب إلي الزعيم أن أسلم سلاحاً للأمين نوّاف، وسألني إذا كنت أعرف مكان بلدة عرنة(4) لأوصل الامين نوّاف إلى هناك في سيارتي، حتى يتسنى له التوجه إلى لبنان عبر جبل حرمون. لم أكن أعرف طريق عرنة، إنما لا تردد أمام طلب سعاده، كما اني لم أكن على معرفة بالأمين حردان في ذلك الحين. قمت بتنفيذ أوامر الزعيم وأوصلت الأمين نواف إلى بلدة عرنة.
- هل تذكر كلمات سعاده في ذلك الإجتماع الهام؟
أذكر أنه حدّثنا عن أن مؤامرة تحاك على الحزب، وعلى الأمة. لأنه الحزب الوحيد الذي كشف وسيكشف المخطط الصهيوني ضدّ أمتنا، المتعاون مع معظم الحكام العرب: "مطلوب منكم أن تكونوا جنود الأمة لتردوا على هذه المؤامرة التي تقصد الأمّة السورية بأسرها. إذا كتب لنا النجاح فنحن لسنا طالبي حكم، بل طالبي تصحيح للأوضاع. ربّما ستستشهدون، إنما سيكون استشهادكم رمزاً للبطولة وفي سبيل وقف هذه المؤامرة العربية والدولية على أمتكم".
- ومتى شاهدت الزعيم لآخر مرة؟
وتلمع عينا الرفيق ادمون:
المرة الأخيرة كانت قبل ساعات من استشهاده. كنت موقوفاً مع 75 رفيقاً في نظارة المحكمة العسكرية في بيروت- وهي نظارة لا تتسع عادة لأكثر من عشرين شخصاً. أدخلوا بعضنا كشهود إلى المحكمة العسكرية لنشاهد محاكمة سعاده في تلك الساعات من ليل السابع من تموز.
كان الزعيم واقفا في القفص. أجلسنا على مقاعد القاعة. كنت في هذه الأثناء مشلولاً، لا أستطيع
التنقل إلا بمساعدة رفيقين وقد حصل لي ذلك في سيارة الدرك بعد اعتقالي وتعرّضي للضرب
المبرّح.
نظرت إلى الزعيم فوجدته يقف كالطود، هادئاً، كأنّه أمام جماهير يهمّ أن يخطب فيهم.
كان بعضنا في النظارة قد بدأ يشعر بالضعف وعندما شاهد زعيمه يقف هذه الوقفة، شعر بثورة
تضجّ في اعماقه، وبمعنوياته ترتفع، وباستعداده للإستشهاد ينمو في كلّ لحظة.
سألنا رئيس المحكمة، أنور كرم:
"هل تعرفون هذا الرجل الواقف في القفص؟
أجبته بصوت مسموع، إخرس وقل الزعيم. فكان نصيبي ضربة يد من دركي أنزلتني إلى اسفل
المقعد.
وسأل النائب العام يوسف شربل:
"هل أعطاكم أوامر بأن تفتكوا وتتعرضوا لحياة الدرك، وتخريب المخافر.
أجابه أحد الرفقاء:
"بالعكس من ذلك، لقد أوصانا بهم، وبالبلد، وقال لنا بأنهم أخوان لنا، وأن لبنان بلدنا.
عرضوا على سعاده أن يتوكّل عنه الملازم في الدرك الياس رزق الله، فاعتذر وقال أنّه يريد أن يدافع
عن نفسه.
- وكيف كان دفاعه عن نفسه؟
لم يدافع عن نفسه، إنما عن الحزب. كانت كلمته شرحاً عن القضية التي يعمل من أجلها. حاول النائب العام يوسف شربل أن يقاطعه أكثر من مرّة، إنما كان رئيس المحكمة أنور كرم يسمح للزعيم بأن يتابع كلامه.
بعد أن انتهى سعاده من إلقاء دفاعه أُخرجنا من قاعة المحكمة، وأُصعدنا في سيارات شحن
عسكرية نقلتنا إلى قواويش سجن الرّمل، حيث التقينا برفقاء آخرين، فقصصنا عليهم ما حصل في
المحكمة العسكرية.
فجراً، عندما علمنا من الدرك أن الزعيم يُنقل إلى ساحة الإعدام، رحنا ننشد الأناشيد القومية ونهتف
لحياة سورية وسعاده.
سجناء آخرون تعرّضوا مثلنا للضرب، عندما راح الدرك يحاولون اسكاتنا.
ويمضي الرفيق ادمون في تذكّر تلك المرحلة فيقول: نقلوني من القاووش إلى نظارة انفراد، ثم إلى
مستوصف السجن حيث التقيت بالأمينين عبدالله سعاده وإنعام رعد. بعدها نقلت إلى مستشفى الأمراض السارية في الكرنتينا لمدة سبعة أيام، ثمّ أُعدت إلى سجن الرمل وأنا ما زلت مشلولاً. لقد حُكم عليّ بالإعدام وخُفّض الحكم لمدة ثلاث سنوات بفعل الوساطات، فتحوّل اشتراكي الفعلي في الثورة القومية الاجتماعية إلى "توزيع مناشير". وبعد سنة ونصف السّنة على وجودي في سجن الرّمل – وأنا لا أستطيع قضاء أية حاجة إلا بمساعدة رفيقين – صدر عفو خاص عني بناء لتقرير من الدكتور يوسف حتّي اذكر إلى اليوم نصه الحرفي، وقد كُتب باللون الأحمر:
"عوضاً عن أن يموت في السجن، وتكون الدّولة اللبنانية مسؤولة عن وفاته، دعوه يموت في بيته".
- وبعد ذلك، رفيق ادمون؟
خرجت من السجن بفعل الوساطات، وقوّة المال هنا وهناك. وذهبت إلى حماه حيث لقيت استقبالاً شعبياً من رفقائي وأهلي وأصدقائي وأهالي الحي. ولم يكن والدي على معرفة بشللي، إذ أخفوا عنه الخبر. وقد حملني الرفقاء والأصدقاء على الراحات من السيارة التي أقلتني إلى منزلنا، وسط الأناشيد القومية والوطنية. كان والدي والأهل والأقرباء عند مدخل المنزل، وعندما أُجلِسْتُ على الكرسي، اقترب والدي يقبّلني ويقول: الحمد لله على السلامة.. بسيطة يا ابني.
حاولت الوقوف لتقبيل يديه، فعجزت، سألني: ما بك يا ابني؟ عند ذلك، أعلمه شقيقي أني مصاب
بالشلل. تأثر والدي كثيراً وراح يبكي، ولم يتوقّف عن البكاء والتأثر والناس يخففون عنه ويواسونه.
بعد انصراف الجميع، دخل والدي إلى غرفته وهو لا يتوقف عن البكاء. بعد ساعة، فارق الحياة إثر نوبة قلبية حادة.
ويصمت الرفيق ادمون كركور. ونصمت معه، تاركين أناشيد هذا الحزب تدوّي وأغانيه تتردد
وهتافات المؤمنين به ترتفع فوق أرضنا، والقمم.
هوامش :
(1)اعددنا نبذة بعنوان " ترينيداد في الحزب السوري القومي الاجتماعي"، وفيها عن الرفيقين عفيف نجار وادمون كركور. مراجعة ارشيف تاريخ الحزب على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info.
(2)من دير ميماس. مهندس. شقيق الرفيقين توفيق (خطف اثناء الاحداث) والراحل جبور.
(3)من بتعبورة (الكورة) غادر الى المكسيك، وفيها نشط حزبياً وتولى مسؤوليات، حتى آخر زفرة من حياته.
(4) يفيد الامين نواف حردان في كتابه "على دروب النهضة" ان سعاده سلمه رسالة موجهة الى مدير مديرية "عرنة" الرفيق فريد مجاعص، وهو من بلدة ضهور الشوير . من "عرنة" رفيق عرفته جيداً، وكان من صفوة الرفقاء في سان باولو، تفانياً، واخلاصاً ومناقب، هو الرفيق الراحل نقولا صليبا، الذي كان تولى مراراً مسؤولية محصل مديرية سان باولو وناظر مالية منفذية الساحل البرازيلي.
|