لا يمكن إنكار التاريخ أو عدم الأخذ بعبره، خصوصاً في التنافس الإمبراطوري على الجغرافيا ومناطق النفوذ، هنا تحضر الإمبراطوريات القديمة والدول المركزية إلى الواجهة، فيما تبقى الدول اللامركزية تاريخياً خارج سياق اللعبة الدولية، وتفرض بعضها وفقاً لموقعها الجيوسياسي، حرارة اللعبة ومقدار حيويتها ومصيريتها بالنسبة لهذا الطرف أو ذاك. هنا يقصد بالدولة المركزية الدولة القادرة على الحكم من المركز والمنضبطة في إطار سياسي وطني وقومي واحد، وأهم من كل ذلك الدولة المسلّمة بفرضية الوحدة الجغرافية للأراضي المكوّنة لها والواقعة تحت سيادتها، من دون أن ندخل في مصطلح من قبيل «الدولة الأمة» أو غيرها من المصطلحات التي تقودنا في غير وجهة موضوعنا.
في القرن الثامن عشر ضمّت روسيا تحت قيادة الإمبراطورة كاثرين شبه جزيرة القرم التي كانت تقع تحت سيطرة الدولة العثمانية، وكانت هذه العملية نقطة تحوّل تاريخي في مآلات النفوذ الروسي في البحر الأسود والغرب، ومستقبلاً في محاولات التوسّع الإمبراطوري الروسي إلى المياه الدافئة وتحديداً في البحر المتوسّط والذي أدى إلى تدخل روسي مباشر آخر شأنه شأن تدخل الإمبراطوريات الغربية، حينها لحماية الأقليات في الشرق الأوسط من المجازر العثمانية بحقهم، لكن لوحظ أيضاً في سياق تاريخ الصدام الروسي العثماني نزوع هذه الأخيرة إلى حماية بعض الحركات التي تعدّ استقلالية نوعاً ما قياساً بما يجري حالياً في المنطقة من صراع بين محور مضادٍ للغرب وهيمنته ولآخر موالٍ له، وهنا يجب ذكر حادثة التدخل الروسي في لبنان إلى جانب والي عكا «ظاهر العمر» في العام 1774 في تمرده ضد السلطنة العثمانية حينها والتي لا علاقة لها بأي بعد طائفي. واليوم يعيد التاريخ نفسه بشكل غريب، فالصراخ الأكثر كثافةً يخرج من أنقرة، والتصلّب الأكثر وضوحاً مصدره الحزب الحاكم في أنقرة الذي يحاول عبثاً استرداد أمجاد الإمبراطورية العثمانية في الأرض السورية، فهل يسمح أحفاد كاثرين بذلك؟
مما لا شك فيه إن الخلاف التركي الروسي حول سورية لا يمكن أن يختفي بين ليلةٍ وضحاها، حتى الخلاف بين تل أبيب وموسكو في سورية، حساسية التدخل الروسي في سماء سورية والتسليح النوعي الذي يجري على حدود فلسطين المحتلة، لا يمكن مقارنته بالتصلّب التركي في سورية، انطلاقاً أولاً من التاريخ وما ذكرناه، وثانياً من خلال هذا الإصرار التركي المصيري على خطة إنشاء مناطق عازلة في شمال سورية ومنطقة حظر طيران تمهيداً في النهاية للوصول إلى الهدف الأساسي لأنقرة المتمثل «بإسقاط الرئيس السوري بشار الأسد» وإن كانت الذريعة التركية والغربية تقوم على ملف اللاجئين السوريين وتدفقهم عبر الحدود والذي تعمل الماكينة الإعلامية الغربية على تجييرها لمصلحتها عبر الحديث عن زيادة متوقعة في أعداد اللاجئين السوريين إلى تركيا وعبرها نحو الغرب بسبب التدخل العسكري الروسي في سورية. لكن لا يمكن المقارنة بأي حالٍ من الأحوال بين تركيا وروسيا، ومن يفهم قليلاً في علم السياسة يعلم الفرق بين القوة الدولية والقوة الإقليمية على الأرض وعلى مستوى التوازنات الدولية. ويبقى التدخل العسكري الروسي في سورية مستمراً طالما اقتضى الأمن القومي الروسي ذلك، وتحليق الطيران الأكثر تطوّراً في العالم مستمراً لتأمين الحدود السورية من جهة تركيا وقطع الطريق نهائياً على أي إمكانية لتحليق الطيران الحربي التركي في سماء سورية، فيما يبقى على تركيا أن تدرك أن طموحها في سورية بدءاً من المنطقة العازلة وصولاً إلى إسقاط الدولة السورية قد انتهى.
وفي هذا السياق يقول آدريان ديسوان، الباحث الاستراتيجي والضابط السابق في الجيش الفرنسي، في مقال له في صحيفة لوموند «على تركيا أن تعلم جيداً أنه في ظل تحليق الطيران الروسي فوق سورية، فإن هدف إسقاط الأسد لا يمكن الوصول إليه… بالمختصر فإن الدخول الروسي إلى المشهد السوري جعل كامل الاستراتيجيات التركية والفرنسية تنهار، وبقاء بشار الأسد في السلطة لم يعد فرضية غير مرجّحة، بل بات حقيقةً يجب أخذها بعين الاعتبار في السنوات المقبلة».
|