تراجع الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن قراره بالانسحاب العسكري الكامل من سورية، وقرّر الإبقاء على 400 عسكري موزّعين بين قاعدة التنف وقواعد متفرقة في شرق البلاد، الأمر الذي أعاد حسابات القوى المنخرطة على الأرض السورية إلى المربع الأول. تزامن الأمر مع توجّه أميركي بتشديد الحصار على المحور الداعم للدولة السورية، وخاصةً إيران مع تسريبات تتحدث عن عدم تمديد الإعفاءات على تصدير النفط الإيراني التي تنتهي في 1 أيار المقبل، وخنق الدولة السورية عبر حصارٍ بحريّ «قطع إيصال 66 ألف برميل يومياً» حسب صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية، ذلك عدا عن «سيطرة المتمرّدين الأكراد على منابع النفط السورية». وفي سياق ما سبق عاد السؤال المركزي إلى الواجهة… أيهما له الأولوية ميدانياً شرق الفرات أم إدلب في شمال غرب البلاد؟
هذا السؤال يعتبر بمثابة الشاغل الرئيس للمهتمّين بالشأن السياسي السوري، وينقسم المتابعون حول الأولوية، البعض يرى أنّ إدلب والانتهاء من مفاعيل الاحتلال التركي يساعد على التفرّغ لشرق الفرات، لكن ماذا عن العلاقة الروسية التركية، والعلاقة الثلاثية التي تجمع بين طهران وموسكو وأنقرة تحت غطاء مسار استانا بالنسبة إلى الملف السوري؟
الصراع على تركيا هو جزء من الصراع على عالم متعدّد الأقطاب بين واشنطن وموسكو ومن غير المتوقع أن تضحي روسيا بعلاقاتها مع أنقرة، والمنطق يقول إنّ واشنطن هي المايسترو الذي يقود كامل أطراف المحور المعادي لسورية، مع أنه في لحظة إعادة تشكيل العالم تتاح الفرصة لبعض القوى الإقليمية لتعزيز نفوذها وحضورها، وهنا يبرز ما يراه البعض افتراقاً تركياً أميركياً في المصالح، وهذا أمر موجود، لكن ليس إلى الحدّ الذي يدفع إلى العداء الكامل بين الدولتين العضوتين في الناتو، بل تجدر الإشارة إلى أنّ المستفيد الأول اليوم من القرار الأميركي بالإبقاء على 400 جندي في سورية هو أنقرة التي تستخدم شماعة الوجود العسكري الأميركي والخوف من «الكيان الكردي» في سورية شمّاعةً للبقاء في شمال غرب البلاد وتظهير منطقتها «الآمنة» واقعياً.
إذاً الصراع وكما يجري على المستوى الاقتصادي الاجتماعي في الداخل السوري يعطي الأولوية لمنطقة شرق الفرات حيث الوجود الأميركي الضئيل فيها يرتكز اليوم على حسابات لا علاقة لها بالواقع، فالحجج الأميركية أولها، منع التواصل البري بين طهران ودمشق عبر العراق، وهذا لم يعد قائماً منذ وصول القوات السورية إلى البوكمال وتواجد الحشد الشعبي العراقي على الجانب المقابل للحدود السورية في مدينة القائم، كما أنّ هذه المنطقة لم تشهد محاولات أميركية للاعتداء عليها، وبالتالي فإنّ الأهداف الأميركية الحقيقية في سورية من وراء الحفاظ على وجود عسكري في شرق الفرات والتنف هي:
أولاً، الضغط الميداني المباشر عبر فرض تقسيم الأمر الواقع.
ثانياً، تعزيز التوجه الكردي بعدم التفاوض مع الدولة السورية، وهو الخيار الذي كان مرجحاً بل ربما وحيداً في حال حصل الانسحاب الأميركي الكامل من سورية، وبالتالي الإبقاء على ورقة مصادر الطاقة والمحاصيل الاستراتيجية في يد الأكراد الذن يعدّون اليوم أحد أهمّ أسباب الأزمة الاقتصادية التي تعيشها البلاد.
ثالثاً، استخدام الوجود العسكري الأميركي الرمزي في تنشيط خلايا التنظيمات الإرهابية المتواجدة في المنطقة الصحراوية بين التنف والبوكمال والسخنة، وبالتالي تحقيق هدفين، الأول القول إنّ داعش لم تنتهِ وهذا يعزز خيار عدم الانسحاب الأميركي من سورية، والثاني توجيه الخلايات الإرهابية لاستنزاف والتشويش على مناطق تواجد سورية وحلفائها في غرب الفرات.
الأمر الأساس الذي يعطي الرئيس الأميركي هامشاً للمناورة هو الوجود الأميركي غير المكلف، ووجود تقدير موقف أميركي يجزم بعدم تحمّل القوات الأميركية ايّ مخاطر من جراء بقائها على الأرض السورية، وهذا يعتمد على أمرين، الأول أنّ العمليات العسكرية التي يمكن ان تجري في شرق الفرات ستستهدف بالدرجة الأولى ميليشيات عميلة للأميركيين، والثاني، احتفاظ واشنطن بخطوط إمداد مع التنظيمات الإرهابية في منطقة البادية وبالتالي إمكانية فتح جبهات إضافية لإلهاء الجيش السوري والحلفاء. ما سبق يضغط بقوة لمناقشة الخيارات الممكنة للعمل الميداني على الأرض وكسر الجمود القائم حالياً في كامل منطقة شرق الفرات، سواء بالاستهداف المباشر عبر مقاومة شعبية، أو باستكمال التحرّك العسكري لتطهير البادية السورية في محور البوكمال التنف، ومحور السخنة ومحطتي تي 2 وتي 3، ويبدو أنّ هذا الخيار لقطع الطريق على أيّ عمليات استنزاف هو الذي ترجح كفّته اليوم.
|