يبدو أن الحزب الجمهوري لم يتعافَ بعد من تركة جورج بوش الابن الثقيلة، رغم مضيّ ثماني سنوات على حكمه. فلم يستطع هذا الحزب إنتاج شخصية مقبولة توازي الرؤساء السابقين الذين حكموا بِاسمه كأيزنهاور وريغن وبوش الأب. ففي انتخابات عام 2012، والتي أتت في خضمّ الركود الاقتصادي الذي تعاني منه أميركا، قدم الحزب الملياردير ميت رومني مرشحاً له في وجه أوباما، الذي كان قد قدّم خطة ضمان صحّي للأميركيين، وخطة إنقاذ مالية ضخمة للبنوك والشركات. وهو ما أدّى إلى فشل رومني وبالتالي الحزب الجمهوري.
إن الانقسام الذي أحدثته الأزمة المالية في المجتمع الأميركي انعكس على الحزب نفسه، فهذا الحزب الذي اشتهر بمعاداة «دولة الرخاء» والضرائب المرتفعة وتدخل الحكومة في الاقتصاد وهي أجندة كبرى الشركات والبنوك ، خرج عنه تيار عُرف بحزب الشاي «تي بارتي» والذي يعرف بتطرّفه من ناحية رفض كل أشكال الإنفاق وبرامج الدعم الحكومي. كما يعرف بقيمه المحافظة اجتماعياً التي تميل لليمين المسيحي المتطرّف. وتمكن هذا الحزب من فرض كثير من أجندته على باقي الحزب الجمهوري، وتمكن مرّات عدّة من تعطيل الميزانية الفدرالية وتجميد العمل الحكومي على المستوى الفدرالي. كما لا يمكن إغفال العامل العنصري في قواعد الحزب الجمهوري، إذ إنّ انتخاب أوباما والانتصارات التي حققتها الأجندة الليبرالية تشريع الزواج المثلي والأزمة الاقتصادية، كل ذلك أدّى إلى حدوث فرز اجتماعي حاد وإلى حالة وعي سياسي جديد عند الأميركيين البيض من الطبقتين الغنية والوسطى اللتين تريان في سياسات الحزب الجمهوري مصلحةً اقتصادية واجتماعية.
في الانتخابات الحالية يعاني الحزب الجمهوري من حالة انقسام بين ما تريده القاعدة الشعبية وما تريده قيادة الحزب. فبعد الانتخابات التمهيدية يوم الثلاثاء الكبير تشمل 12 ولاية أميركية ، والانتخابات الأخيرة في لويزيانا وكنساس وماين وكنتاكي، برزت مجموعة مرشحين أساسيين، فيما تم إقصاء مرشحين ثانويين كثيرين، وقد يتم إقصاء مجموعة أخرى طوعاً كي يتم حصر التنافس بين مرشحَين جمهورَيين: دونالد ترامب، ويعدّ رجل الأعمال المرشح الجمهوري الأقوى اليوم، رغم عدم انتسابه تاريخياً لهذا الحزب. فقد نجح ترامب عبر سياساته وتصريحاته الشعبوية التي تنبع من خبرته كشخصية تلفزيونية إعلامية مشهورة من تحفيز قواعد الحزب الساخطة. فقد شنّ هجمات كبيرة على المهاجرين والأقليات، وعلى خطة أوباما للضمان الصحي، وعلى الطبقة السياسية في واشنطن، كما دعا إلى منع المسلمين من دخول أميركا، وإلى قصف الشرق الأوسط وأخذ نفطه بالقوة. تغيب من حملة ترامب أي أجندة سياسية حقيقية، إلا أن الخطاب الشعبي الأميركي الذي يمارسه نجح في حمله إلى مقدمة المرشحين بفارق جيد، فهو حصل حتى اللحظة على 378 صوتاً من أصوات المندوبين وهو يتجاوز أقرب منافسيه بفارق 83 صوتاً، وهو اليوم يتقدم الجميع في غالبية استطلاعات الرأي على مستوى الولايات المتحدة.
يتميز ترامب بقدرته على تمويل حملته بشكل شخصي من ثروته، ما أعطاه استقلالية بمواجهة القيادة الجمهورية والداعمين الكبار. كما أن ترامب بات ممثلاً لظاهرة تدعى «الترامبية» في مواجهة ظاهرة «الأوبامية» والتي حرّكت هواجس الأميركيين البيض من الرئيس الأول من أصول أفريقية ومسلمة، وطرحت أسئلة وجودية تقليدية كانت تؤرق البيض والأنغلوسكسون حول تحكّم الأقلية بالأكثرية.
تيد كروز: السيناتور الجمهوري من تكساس هو المرشح الثاني بعد ترامب الذي حصل حتى اللحظة وبعد انتخابات كنساس وماين على أصوات 295 مندوباً. يُعتبر كروز الرئيس غير الرسمي لحزب الشاي، ويسعى إلى منافسة ترامب بآرائه العنصرية إنما بأسلوب سياسي منمّق وملتزم أكثر بقواعد الخطاب السياسي الانتخابي العامة، لذلك يعتبر وفق التعبير الذي استخدم في الإعلام الأميركي «حائط الصد الأخير» في مواجهة إعصار ترامب الخارج عن تقاليد المؤسسة الحاكمة الأميركية بجناحيها الجمهوري والديمقراطي.
ويعتبر كروز من أكثر السياسيين المحافظين تطرّفاً، خصوصاً في القضايا الاجتماعية، وهو بانتمائه إلى حزب الشاي، يعتبر أيضاً من خارج المنظومة الأساسية للحزب الجمهوري والمسماة «استابليشمنت». كما يُعتبر كروز من كبار المؤيدين لـ«إسرائيل» من سياسيي الولايات المتحدة. وهو كما ترامب يعتبر أن انتصاراته تُعبر عن تمرد القاعدة الجمهورية على قيادة الحزب، ويقدّم نفسه كبديل عن الطبقة السياسية في واشنطن.
لا يتفق المحللون على ما إذا كان كروز سيتمكن من إزاحة ترامب عن الصدارة، رغم أنه لا يقل عنه شعبوية وتطرفاً في المواقف، وفي حال تقدّم كروز على ترامب، فإن ذلك أيضاً سيشكل مشكلة لقيادة الحزب الجمهوري الذي دخل في صراع حاد بين تقاليده وتوجه قاعدته الانتخابية، وبحسب ديفيد افرام من المحافظين الجدد صاحب كتاب «ذي إنسايدر» حول عهدَي جورج بوش الأب وابنه، فإن الحزب الجمهوري «تحضّر لاستعادة الرئاسة الأميركية بخطة إعادة تأهيل قوية عام 2016، لكنه عوضاً عن ذلك أشعل حرب طبقات داخلية. فهل سيتمكن من ملاءمة مطالب اللوبيّات المانحة مع اهتمامات الطبقة الشعبية؟».
المرشحون الثانويون: السيناتور من فلوريدا ماركو روبيو حلّ ثالثاً بحصوله على 123 صوتاً بعد ترامب وكروز. ويُعتبر روبيو من المرشحين المميزين كونه من أصول مهاجرة كوبا ومن الفئة الشابة، إلا أن حظوظ روبيو لا تُعتبر كبيرة لإزاحة المرشحين الأساسيين، لكن كثيرين يرشحونه لتولي منصب نائب الرئيس في حال ترشح كروز أو ترامب.
في نيوهمشاير حل حاكم أوهايو جون كايسش ثالثاً بحصوله على أصوات ثلاثين مندوباً، إلا أنه هذه النتيجة تعتبر طفرة لكايسش فهو لم يستطع منافسة ترامب وكروز وروبيو على الصعيد الأميركي العام. يُعتبر جون كايسش من الشخصيات الوسطية في الحزب، وقد نال دعم صحيفة «نيويورك تايمز» في ترشيحه للرئاسة عن الحزب الجمهوري.
لكن ما هي السيناريوات المتوقعة بالنسبة إلى الجمهوريين؟
يحتاج أيّ مرشح جمهوري إلى أصوات 1237 مندوباً للفوز بترشيح الحزب وخوض الانتخابات الرئاسية على مستوى الولايات المتحدة. وتنتهي الحملة الانتخابية للانتخابات التمهيدية في حزيران ويتم ترشيح الأحزاب رسمياً مرشحَيها عن منصب الرئيس ونائب الرئيس، في تموز المقبل. وفي ضوء أزمة الحزب الجمهوري فإنه سيتم التحرك خلال الأسبوع الجاري وفق أحد السيناريوين التاليين:
الأول، دفع المرشحَين اللذين حلّا في المركزين الثالث والرابع بعد المرشح تيد كروز، من أجل الانسحاب لمصلحة الأخير في ضوء المحاولات الحثيثة للوقوف في وجه ترامب والذي إن استطاع الفوز في الانتخابات التمهيدية التي ستُجرى في 15 آذار المقبل في ولايات فلوريدا وإيلينوي وأوهايو وميسوري ونورث كارولينا، والتي يمثلها عدد كبير من المندوبين، فإن إيقافه سيكون مستحيلاً. وفي هذا السياق كشف استطلاع للرأي أجري في صفوف المحافظين الأميركيين المتشدّدين الذين عقدوا مؤتمرهم السنوي في واشنطن أن 15 في المئة فقط من المشاركين في المؤتمر يدعمون ترشيح دونالد ترامب، مقابل 40 في المئة يؤيدون ترشيح تيد كروز، و30 في لمارك روبيو، و8 في المئة لجون كايسش. هذا وقد بدأ تحرُّكٌ مضادٌ لدونالد ترامب من جانب المرشحين السابقين للرئاسة الأميركية ميت رومني وجون ماكين، هذا الأخير الذي يعتبر من صقور الحزب الجمهوري ويترأس جناح الداعين إلى عودة التدخل العسكري الأميركي المباشر على الساحة الدولية.
الثاني، وفق مصادر إعلامية وصحافية، وجود توجه لدى المؤسسة الحزبية لإطالة السباق وبقاء حلبة الترشح كما هي اليوم، من دون انسحاب روبيو وكايسش ولضمان تشتُّت الأصوات ومنع ترامب من حصد المندوبين الـ1237 قبل المؤتمر الحزبي في تموز المقبل. وسيترجَم ذلك بمؤتمر «الوسطاء»، بحيث يقرّر كبار زعماء الحزب اسم المرشح، وقد يؤدي ذلك إلى خسارة ترامب، بسبب علاقته السيئة مع النخبة الحزبية لدى الجمهوريين.
|