في 18 من أيلول 2018 وقع وزيرا الدفاع الروسي والتركي اتفاق سوتشي التركي الروسي حول إدلب، وتضمّن الاتفاق عدّة نقاط منها إنشاء منطقة آمنة بعمق 15 إلى 20 كيلومتراً تحاذي أرياف حماة وحلب واللاذقية، التي تسيطر عليها الدولة السورية وهي مناطق ساخنة تؤخر الحسم العسكري الشامل على الأراضي السورية، على أن تنسحب المجموعات المسلحة من المنطقة منزوعة السلاح بحلول 15 تشرين الأول الماضي، وهو ما لم يتمّ حتى اللحظة وفتح باب التكهّنات حول جدية روسيا في تطبيق الاتفاق، وخرجت بعض الأصوات التي تغمز من قناة المصالح الروسية العليا على حساب الدولة في سورية، وهو أمر لا يعدو كونه ردّ فعل غير محسوب وعاطفي في أغلب الأحيان. يوم غدٍ، يُعقد اتفاق الدول الضامنة لأستانا في سوتشي، والمرجّح أنّ هذه القمة وفي ملفّ إدلب تحديداً ستأتي بجديد لجهة تطبيق الاتفاق الثنائي الروسي التركي والذي ما كان له ليتمّ لولا وجود موافقة إيرانية ضمنية، وقبول من الدولة السورية.
يُعقد المؤتمر الثاثي للدول الضامنة في ظلّ معطى القرار الذي اتخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بالانسحاب من سورية ومن منطقة شرق الفرات تحديداً، وهو ما يغيّب المعطى الاستباقي الأميركي عن الساحة، بمعنى أنّ الاحتلال الأميركي لشرق الفرات عزّز خيار تأخير معركة الحسم في إدلب، ودفع موسكو وطهران للاعتماد على أنقرة أكثر في هذا الملفّ في إطار الصراع على تركيا في سورية، وهو أيضاً ما يغيب عن ذهن البعض، فالصراع في سورية ليس فقط صراعاً بين القوى المتواجدة على الأرض في سورية، بل هو في جزء منه صراع على الدور التركي في المنطقة الذي تغيّرت وضعيته بالنسبة للغرب، وذلك بفضل الاستراتيجية الروسية القائمة على تطويع الدور التركي في سياق لعبة عضّ الأصابع بين واشنطن وموسكو، وعليه فإنّ الاتفاق حول إدلب في سوتشي قطع الطريق على حربٍ استباقية أميركية لتأخير عملية الحسم العسكري للدولة السورية في شرق الفرات، أو على الأقلّ التفرّغ لإدارة المواجهة في منطقة شرق الفرات مع الولايات المتّحدة.
كما أنّ المؤتمر يُعقد في ظلّ سيطرة جبهة النصرة «هيئة تحرير الشام» على غالبية المحافظة، وانسحاب المنظمات الدولية التي كانت تموّل المجموعات المسلحة الأخرى كونها «معتدلة» وفق التوصيف الغربي، وهو أمر لا بدّ أنه يخفف من عبء الحملة الدولية الإعلامية والإنسانية التي سبقت توقيع اتفاق سوتشي في 18 أيلول من العام الماضي، والتي كانت أحد الأسباب التي دفعت موسكو إلى احتواء موجة التهديد الغربي، والعمل على تعزيز دور أنقرة في إدلب على حساب الأدوار الأخرى التي تحاول استغلال ورقة المحافظة الواقعة شمال غرب سورية.
اليوم في سوتشي «2» يطرح التساؤل التالي، هل نحن أمام تحرير إدلب، والحسم العسكري الكامل فيها، أم أننا أمام تحديد مصير المحافظة، وتطبيق اتفاق سوتشي الروسي التركي؟
إنّ الانتقال من الحسم العسكري الكلي والشامل، إلى تحديد مصير المدينة عبر تطبيق اتفاق سوتشي بين الرئيسين الروسي والتركي يُعتبر الحلّ الأمثل المتوافر اليوم، ويجعل الرهان على تنفيذ اتفاق سوتشي واستنفاد كامل السبل المتاحة رهاناً لا يتقدّم عليه في المدى المنظور أيّ رهانٍ آخر. ومن نافل القول إنّ تنفيذ الاتفاق كما ورد سيسمح بتأجيل وليس إلغاء العملية العسكرية في إدلب هذا أولاً، وثانياً، انكفاء الجماعات المسلحة عن المنطقة منزوعة السلاح سيؤدّي إلى تضييق الجغرافيا وتقارب خطوط التماس في مناطق النفوذ المتبقية على امتداد محافظة إدلب وهذا عاملٌ آخر يصبّ في مصلحة الدولة السورية حيث يعزز الاقتتال الداخلي بين التنظيمات المحلية المتضاربة المصالح داخل المحافظة. أما النتيجة الأهمّ لتنفيذ الاتفاق الروسي التركي المرحلي، وتأجيل ملف الحسم الشامل في إدلب بناءً على التزام تركيا بتنفيذ الاتفاق، فهو ضمان الموقف التركي حالياً في الملفات التي يحاول الضغط فيها، ومنها ملف تعبئة الفراغ في منطقة شرق الفرات الذي سيتركه الانسحاب الأميركي، أو ملف اللجنة الدستورية التي تراهن عليها الأمم المتّحدة لإطلاق العملية السياسية في سورية، وهي التي تشكل محور تحركات المبعوث الدولي الجديد إلى سورية غير بيدرسون.
إنّ تنفيذ اتفاق سوتشي وارد في ظلّ أزمة الثقة التي تعصف بالعلاقات التركية الأميركية، تلك الأزمة التي يعدّ الملف السوري فتيل التفجير فيها، لكنه ليس الوحيد، فتنافر المصالح بين الدولتين مردّه إلى العطب الذي أصاب منظومة العلاقة القائمة بينهما بعد الحرب الباردة، والتي لم تعد قادرة على العمل كما كانت في السابق، والانفصال الاستراتيجي وعدم التوافق الجيوسياسي وأزمة الثقة المؤسساتية هي حقيقة وليست مجرّد رهان لا يملك قاعدة صلبة على أرض الواقع.
|