أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف عن عدم وجود نيّة لدى بلاده تمديد المهلة الممنوحة للتنظيمات المسلّحة من أجل الانفصال عن «النصرة»، وأضاف إن بلاده ستقوم بضرب المجموعات التي لم تنضمّ إلى الهدنة حتى لو لم تكن مصنّفة على لائحة التنظيمات الإرهابية، التي لم ترَ النور حتى اللحظة.
ما سبق يعطي انطباعاً بنهاية الانكفاء الروسي الملحوظ في سورية بعد الانسحاب الذي ترافق مع إعلان الهدنة ليل 27 شباط الماضي، والذي أوقف عمليات الجيش السوري بشكل أثار امتعاض دمشق نخباً وساسة وقاعدة شعبية، فيما طهران لم تكن بعيدة هي الأخرى عن «الغضب» إن صحّ التعبير. لكن، هل فعلاً تمهّد تصريحات سيرغي لافروف لعودة «عاصفة السوخوي»؟
في السياسة تملك كافة السيناريوات حظوظاً متفاوتة ولا يجوز إغفال أيّ منها، لكن الواقع على الأرض والتطوّرات الأخيرة تدفع باتجاه عدم الرهان على عودة إلى الانخراط الروسي المكثّف في سورية نتيجةً للتالي:
ـ الصراع المعقّد في شمال سورية وتداخل مناطق الاشتباك بعضها ببعض في ظل اندفاع كافة اللاعبين على الأرض السورية لمحاولة تطويق إنجازات الجيش السوري والقوات الرديفة قبل الهدنة في أرياف اللاذقية وحماة وريفي حلب الشرقي والشمالي.
ـ التضارب التركي ـ الأميركي في شمال سورية، وتوجّه «قوات سورية الديمقراطية» ذات العمود الفقري الكردي إلى الشرق وتحديداً نحو الرقة، وهنا لا بدّ من القول إن العملية الكردية تستخدم كغطاء لتوسيع التدخل العسكري الأميركي في سورية وتأسيس قاعدة لهذا التدخل تبني عليها الإدارة الأميركية المقبلة بغضّ النظر عن هويتها أكانت ديمقراطية أم جمهورية، فالرئيس أوباما لم يلغِ مبدأ التدخل العسكري الأميركي ولم ينسحب من المنطقة. الرجل قام فقط بتضييق هوامش التدخّل العسكري الأميركي فقط لا غير.
ـ إن العملية العسكرية الأميركية الكردية باتجاه الرقة، وبغضّ النظر عن التكهّنات المرافقة لها من صفقة كردية ـ أميركية تقضي بوصل «الفدرالية الكردية جغرافياً» قبل الشروع في طرد «داعش» من الرقة، هذه العملية فرضت على الروس معطىً لم يكن في الحسبان أثناء المرحلة الأولى من التواجد العسكري الروسي الجوّي المكثّف في سورية، فالمدينة السورية وعاصمة المحافظة الواقعة على الضفة الغربية لنهر الفرات تؤسّس لعملية تقسيم البلاد. هو أمر لا يخفيه حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي أعلن أن الرقة تعدّ جزءاً ممّا يسمّى «إقليم شمال سورية».
غيّرت الإدارة الأميركية أولوياتها في سورية. فبينما كان البعض يظنون أن الهدف الأساس لواشنطن تحرير الموصل، توجّه البنتاغون والأكراد إلى الرقة كونها تحقق إنجازاً سياسياً وإعلامياً وعسكرياً استراتيجياً على رأسه تقسيم سورية وتوريط كافة الأطراف في مواجهة معطىً ميداني سيستخدم في عملية مقايضة تفاوضية شئنا أم أبينا، وهو ما يدركه الكرملين قبل غيره. لكن كيف سيتم التحرّك بعد كلام وزير الخارجية الروسي، وما هو الهدف من العملية العسكرية الروسية التي بدأت تستأنف طلعاتها الجوّية في ريف حلب تحديداً؟
قبل إقرار الهدنة في سورية كانت الخارطة الميدانية توحي أن الأولوية هي لتطويق مدينة حلب وفصلها عن الحدود التركية، وتوسيع المساحة الجغرافية الآمنة حول طريق إثريا ـ خناصر والانطلاق من هذا الطريق للاقتراب من مدينة الطبقة السورية، التي تشكل اليوم أحد محاور تقدّم ما يسمّى قوات سورية الديمقراطية، كما أن أحد الأهداف كان يتمثل بمحاولة الوصول من ريف اللاذقية الشمالي إلى مدينة جسر الشغور وبدء معركة إدلب، لكن كل ذلك انتهى بمجرّد إقرار الهدنة الروسية الأميركية في سورية نهاية شباط الماضي، واليوم وفي ظل المتغيّرات والإصرار الروسي الظاهر والرسمي على العملية السياسية في سورية، فإن عاصفة السوخوي باتت مقيّدة بجملة تدخلات عسكرية ومعارك جديدة على الأرض أهمها التوغّل التركي في ريف حلب الشمالي ومحاولة تحصين موقع مدينة أعزاز بقوات تابعة لأنقرة، وثانيها الحملة الأميركية لاستعادة مدينة الرقة، وثالثها التصعيد الميداني الخطير في المنطقة الجنوبية وتحديداً في المناطق المحيطة بالعاصمة دمشق، فضلاً عن التبرير الرسمي الروسي للعودة إلى العمل العسكري الأكثر فاعلية وهو «عزل النصرة».
إن الهدنة الأخيرة في سورية والتي كانت محطّ رهان موسكو وحدها، على ما يبدو، لم تفلح في التهدئة وضمان خطوط التماس بل أفسحت في المجال أمام معارك جديدة على جبهات مختلفة أخطرها الرقة، وهو ما يفرض عودة روسية لمحاولة موازنة ما أفرزته الهدنة كمرحلة أولى، وليس كسر خطوط التماس والتمهيد لتحوّل نوعي في الميدان السوري على غرار «عاصفة السوخوي».
|