فشل مؤتمر «أستانة 5» الذي عُقد الأسبوع الماضي في التوصّل إلى اتفاق بشأن رسم حدود ما يسمّى «مناطق وقف التصعيد» في سورية، وذلك نتيجة الإصرار التركي على إدخال قوات عسكرية جديدة إلى سورية بذريعة مراقبة تنفيذ التفاهمات الثلاثية التركية الروسية الإيرانية، فضلاً عن التحرّك التقليدي للمجموعات المسلّحة المشاركة في المؤتمر والمستند على رفض أيّ دور لإيران في عملية الرقابة والتي تُعَدّ فتيل ثبات أو تفجير الاتفاقات الميدانية للتهدئة المستمرة في سورية حتى اللحظة.
الفشل في أستانة تزامن مع دخول منطقة جديدة إلى ما يسمّى «مناطق خفض التصعيد» نتيجةً لاتفاق ثنائي روسي أميركي على هامش قمة العشرين، كان قد حضّر له في العاصمة الأردنية عمّان. ورغم ذلك كان الاتفاق مفاجئاً ومربكاً لأطراف عدة، وبدأت التحليلات التي تتحدّث عن خلاف إيراني روسي موازٍ للتقارب الروسي الأميركي، الذي يبدو هو الآخر تقارباً وتفاهماً أقرب إلى التحوّل في الموقف الأميركي من مقاربة الأزمة السورية نقلته دورية «ديلي بيست» الأميركية، ومجلة «فورين بوليسي» في تصريحات على لسان وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون. والأهمّ في الاتفاق الثنائي هو مراقبة الهدنة عبر الشرطة العسكرية الروسية بالتعاون مع الخبراء الأميركيين والأردنيين عبر مركز اتصال ومراقبة موجود في الأراضي الأردنية. فهل الهدن الثلاثية والثنائية هي هدن نهائية، وهل يصحّ القول إنّ مناطق وقف التصعيد الخاصة بأستانة أو تلك الخاصة بقمة العشرين، هي مناطق تأتي في سياق منفصل تماماً عن بعضها؟
الاستراتيجية الروسية في سورية سياسياً تقوم على محاولة استغلال أيّ ثغرة في علاقات المعسكر المضادّ لموسكو في سورية، والعمل مع هذه الأطراف، التي تورّطت في سورية وبإدارتها لهذه الحرب بفعل صمود دمشق، قدر الإمكان لتحقيق مصالح باتت مترابطة وخاصةً مع ضيق الجغرافيا السورية في ضوء انطلاق معركة البادية، وخروج حلب من المعادلة في كانون الأول من العام 2016. إنّ هذه الاستراتيجية هي التي أدّت إلى انتصار دقيق وغير مكلف في حلب المدينة نتيجة التفاهم مع أنقرة، ومن ثم هي التي شكّلت أساس الاتفاق الثلاثي الخاص بمناطق وقف التصعيد الأربع، حيث يحضر الخلاف التركي الأميركي في سورية باعتباره عاملاً أساسياً وواقعياً لإدارة التفاوض السياسي في مناطق وقف إطلاق النار على قاعدة تعزيز المكاسب والتقاسم المؤقت للنفوذ، لكن من دون أن يعني ذلك تباعداً أميركياً تركياً إلى درجة القطيعة، فوزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في اسطنبول وهدفه تنشيط العلاقات مع أنقرة في ضوء الوضع الأخير الناشئ في سورية، بعد الاتفاق الثنائي الروسي الأميركي.
أما بالنسبة إلى تركيا والولايات المتّحدة، من الواضح أنّ استراتيجية التهدئة حاضرة هي الأخرى سواء كأداة ضغط على الحلفاء ضمن المعسكر الواحد، كما في اتفاق مناطق خفض التصعيد الثلاثي، أو سواء في الاتفاق الثنائي الأميركي الروسي الذي جاء في وقت حاولت فيه أنقرة عرقلة «أستانة 5»، كما أنّ اتفاق الجبهة الجنوبية الغربية في سورية أتى أميركياً مراعاةً لبواعث قلق «إسرائيلية» أوصلت رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى حدّ المطالبة «بمنطقة عازلة بعمق ثلاثين ميلاً في الجولان»، وفق صحيفة التايمز البريطانية، ورغم كلّ ما سبق فإنّ الرابط الأهمّ بين الاتفاقات الثنائية والثلاثية لمناطق وقف التصعيد في سورية، بالنسبة لمعسكر واشنطن، هو محاولة وقف التقدّم الميداني للجيش السوري قدر الإمكان وعلى الجبهات كافة. وهذا أمر يُستشفّ من خلال التناقض ذاته الذي أدّى إلى الاتفاق الثنائي الروسي الأميركي بمعنى أنّ عرقلة أستانة وترسيم مناطق وقف التصعيد في شمال سورية وغربها ووسطها، ستؤدّي إلى عدم قدرة الجيش السوري على تفريغ ونقل جزء من قواته إلى معركة البادية وبالتالي إراحة الجيش الأميركي سواء في السباق نحو الرقة بين الأكراد المدعومين أميركياً والجيش السوري، أو سواء في التحضيرات لمعركة دير الزور التي تُعتبر الأهمّ في المنطقة الشرقية، وحتى في ما يخصّ مسألة الحدود السورية العراقية وسيطرة الجيش السوري على مقاطع أطول للحدود المشتركة مع العراق.
أما بالنسبة إلى أنقرة، فإنّ ترسيم مناطق وقف التصعيد وتثبيت الهدنة في سورية ضمن أساس عملي ومدروس يضمن نشر قوات مراقبة، من شأنه أن يعطي الجيش السوري فرصةً للتوجّه بقوة نحو الشرق، ومن ثم التفرّغ لمواجهة مناطق النفوذ والوجود التركي في محافظتي حلب وإدلب، وهو أمر لا تريده أنقرة اليوم في ظلّ التدخل العسكري الروسي الذي جعل من مسألة فتح مواجهة مباشرة مع الجيش السوري والحلفاء أمراً مكلفاً للغاية للأطراف كافة بما فيها الولايات المتّحدة التي تحركت في اتفاقها مع الروس في جنوب غرب سورية على قاعدة منع تدخل مباشر كانت ستقوم به إلى جانب تل أبيب لوقف تقدّم الجيش السوري، وهو ما يحمل في طياته تداعيات مواجهة مباشرة مع القوات العسكرية الروسية.
إنّ الاتفاقات الحالية للهدنة هي امتداد للحرب على أرض سورية بوسائل أخرى. وهذا أمر تدركه موسكو التي تدير هذه العملية المعقدة بنجاح حتى هذه اللحظة، وحصيلة الميدان بعد أكثر من عامين على اتفاقات التهدئة الممتدّة من حلب إلى درعا تعكس واقعية هذا الاستنتاج وفوز موسكو الواضح على المعسكر المقابل في إدارة هذه اللعبة المزدوجة.
|