يزال البعض في لبنان يعلّق رهاناته على ماضوية سوداء لم يمرّ عليها الزمن بعد، ولن يمرّ، نراهُ متلبّساً بها ومتلبّسة به، حدّ التماهي، يعتبط بأنّ «ميتهُ لا يموت»، فيحضرنا قول أبي الطيب المتنبي: «مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ، ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ».
هذا البعض، يتوهّمُ القدرة على تطويع التاريخ وتحريفه، بحسب اشتهاءاته، ليس سعياً لتبييض الصفحات السوداء، بل من أجل شرعنة فعل العمالة وتنظيم مضبطة اتهام ضدّ الفعل الوطني. إلاّ أنّ التاريخ المكتوب بحبر الوقائع والحقائق، يلفظ كلّ محاولات التزييف والتحريف. فالتاريخ بحقائقه يرسّخ عميقاً ويسجل الأفعال وليس الأمنيات والأوهام، ومدى الجغرافيا لا يتقلّص بحدود غيتوات يرسمها احتلال، لأنّ ما كُتب قد كُتب.
هذا البعض في لبنان، لم يقطع مع تاريخه الأسود، لم يشفَ من عقد نقصه وضعفه، لم يتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام، لأنه آثر البقاء في مربع أسود، تنبعث منه سموم الكراهية، وروائح العفن والخيانات. مربع تمّ إغلاقه بأحكام على قيم الوطنية وصدقية الانتماء، بحيث صارت الخيانة وجهة نظر. فانطبق عليهم قول سعاده العظيم، «لا يشعر بالعار من لا يعرف العار ولا يعرف العار من لا يعرف الشرف ويا لذلّ قوم لا يعرفون ما هو الشرف وما هو العار».
هذا البعض المعروف من دون أن نسمّيَه، هو الذي وقف وراء احتلال «إسرائيلي» غاشم للبنان، ما يضع برقبته دماء آلاف اللبنانيين الذين قضوا نتيجة هذا الاحتلال، ودماء ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا، ومئات لا بل آلاف المفقودين.
رغم ذلك، لا يخجل صغار هذا البعض، ومن هم برتبة «محامين» من استحضار مرحلة دقيقة في تاريخ لبنان، كان الصراع فيها محتدماً، بين مشروع وطني هدفه سلامة لبنان ووحدته وعزته وكرامته، وبين مشروع آخر، رمى الى وضع لبنان في الضفة «الإسرائيلية».
بحكم القانون وبحكم الدستور، فإنّ من يتواصل مع العدو ويستدعيه لاحتلال بلده، إنما يرتكب فعل الخيانة. فكيف إذا كان هذا الفعل ظاهراً بوقائعه للعيان، ومثبتاً في ما بعد باتفاق 17 أيار الخياني.
وعليه، فإنّ الذين يجب أن يطالبوا بتحقيق العدالة، ليس أولئك الذين ينجزون معاملات حصر الإرث الخياني، بل إنّ العدالة المطلوبة هي التي يجب أن تنصف آلاف الأسر اللبنانية والفلسطينية التي فقدت أبناءها وآباءها وأمهاتها من جراء عمليات الخطف والتصفية، ومن جراء عمليات القتل الوحشية التي مارسها الاحتلال وعملاؤه.
العدالة تقتضي حجْراً وطنياً على آثام العمالة.
العدالة تقتضي محاكمة ورثة التاريخ الأسود.
العدالة لا تغسل العمالة، وللحديث تتمات…
|