تبدو المعادلة غريبة لأنّ القوي هو الذي يستثمر عادة في الضعيف، ويرميه في أمكنة أخرى بعد استنفاد مهمته فما الذي استجدّ حتى تمتلك منظمة داعش الإرهابية القدرة على الاستثمار في شرق سورية وأنحاء أخرى فيها؟
بدا أمر داعش في العراق يكبر مؤدياً مهمته في اثارة الفتنة المذهبية والطائفية والعرقية كما خطط لها الأميركيون بعد غزوهم العراق في 2003 وبشكل حرفي الأميركيون قالوا بصراحة إن العراق شيعي وسني وكردي سامحين لداعش بقتل الأقليات ومهاجمة الشيعة والسنة والمسيحيين والأيزيديين برسم الحدود المتوقعة بإيقاع دموي فتاك لثلاث دول طائفية وعرقية على انقاض العراق الموحد، على أن يُحدَّدَ موعد هذا الانفجار الجيو استراتيجي الأميركيون المحتلون لكن انتصار الجيش العراقي والحشد الشعبي قلّص من هذا التوجه، من دون أن يبدد تياراته الداخلية لغياب المشروع الوطني الموحد، عند هذا الحد ظلت داعش اداة تتحرك بالحدود المسموحة لها أميركياً.
وبسحر ساحر من صناعة المخابرات الأميركية جرى فتح الحدود العراقية السورية للإرهابيين فتسللوا الى المحافظات السورية القريبة وسرعان ما فتح الأتراك حدودهم مع سورية أكثر من 900 كلم لعشرات آلاف الإرهابيين العالميين برعاية شديدة من القواعد الأميركية في تركيا ومخابرات اردوغان وكذلك فعل الأردن وبعض لبنان.
اتسمت تلك المرحلة بوجود مشروعين: أميركي خليجي يريد تفتيت سورية والعراق، وإرهابي وهابي قاعدي وأخواني يسعى لتأسيس ولاية إسلامية كبرى في بلاد الشام قابلة للتوسع في مراحل لاحقة.
وكان واضحاً انّ الأميركيين يعتقدون انّ هذا الإرهاب له دور حصري بتدمير البنى الاجتماعية في الدول الوطنية. وما ان يستكمل هذا الدور حتى يجري نقله الى أمكنة أخرى لمزيد من الاستفادة منه او القضاء عليه في حالة تمرّده.
لكن ما فاجأ الأميركيين والخليجيين والإسرائيليين هو خسارة هذا الإرهاب في كامل غرب سورية على الرغم من التمويل والتجهيز العسكري والدعم بالقصف الجوي والرصد، فانحسر الإرهاب ساحباً معه قسماً كبيراً من النفوذ الأميركي المتراجع.
ولأنّ الأمن القومي الأميركي يعتبر انّ الازمة السورية يجب ان تستمرّ لإيقاف «الصعود الاقليمي الروسي» عند حدود «إدلب التركية النفوذ» مع لجم طموحات إيران في العالم الإسلامي فعاودوا شحن ما تبقى من داعش والنصرة في إدلب وبعض البؤر في جنوب سورية وقاموا بنقل كتل كبيرة منهم من العراق والبادية السورية الى شرق الفرات ويستعدون لترحيل الآلاف من منطقة إدلب الى شرق سورية ايضاً اذا ما شعروا انّ موازنات القوى مع سورية وروسيا لم تعد لصالح أدوات الاستثمار الإرهابية.
لقد نجحت داعش بالنجاة من مرحلة الانهيار الكامل، فأوهمت الأميركيين بالاستجابة «المغناطيسية» لخط السير المرسوم لهم وربما من دون تنسيق مباشر وحشدت في البؤر التي تنتشر فيها قوى قد تكون أكثر فاعلية من قوات سورية الديمقراطية الكردية المدعومة مباشرة من الأميركيين والتمويل السعودي.
والدليل أنّ على مقربة من قاعدة التنف التي يحتلها الأميركيون عند زاوية الحدود السورية العراقية الاردنية هناك بؤرة داعشية كبيرة تتحرك في اوقات معينة وتحتجز عشرات الأطفال والسيدات خطفتهم من جبل العرب في منطقة حوران السورية ولا يتحرك الأميركيون متراً واحداً لإنقاذ هؤلاء لأنهم لا يريدون إثارة غضب هذا الإرهاب «الصديق» ويهمهم ان يواصل دوره بالتحريض المذهبي.
إنّ ما يجري اليوم في شرقي الفرات يكشف عن تعاون بين مشروعين جديدين بديلين: فبعد سقوط مشروع الدولة الداعشية الإرهاب والتفتيت الأميركي أصبح النفوذ الأميركي يفتش عن ذرائع للبقاء في سورية، ولأن الإرهاب الداعشي استوعب هذا المستجد الأميركي، فإنه يعمل على اعادة تأسيس نفوذ كبير له في شرق الفرات على قاعدة دحر المشروع «الكردي الأميركي النفطي» وليس على اساس «الاستعمال الواقي» للإرهاب من السياسة الأميركية ورميه بعد استكمال مهامه.
وهذا يخلق صراعاً داعشياً كردياً في شرقي الفرات لا يريده الأميركيون أبداً الذين يعملون على التنسيق بين هاتين القوتين لحاجتهم للطرفين معاً.
وتبرز العشائر العربية طرفاً ثالثاً يرفض إصرار الأميركيين على دمجها في إطار المشروع الكردي قسد وسرعان ما تستوعب الأسباب التي أملت على الأميركيين التذرّع بقصف «خاطئ» دمر مدنهم في الرقة ودير الزور وعشرات المواقع الأخرى، ولم يعمل على إعادة إعمارها لمنع العرب من العودة اليها وهم الذين يشكلون غالبية سكان شرق الفرات وسط هذه التناقضات التي تجعل وضع الأميركيين مترنّحاً في هذه المنطقة، تهاجم داعش مئات المدنيين وتحتجزهم وبينهم غربيون من جنسيات أميركية وأوروبية.
وباشرت بقتل سبعة منهم كل يوم في محاولة لحماية توسّعها في الشرق من التهديد الكردي وسط صمت أميركي وكردي مطبق، فماذا يفعل هؤلاء الغربيون المدنيون هناك؟ تزعم واشنطن أن هؤلاء سوريين يحملون جنسيات أميركية واوروبية، فلو كان الأمر كذلك فلماذا يعودون الى سورية حيث الحرب والقتل؟ ولا يبقون في اوروبا وأميركا حيث العمل والامان؟
الامر الذي يؤكد ان قسماً من هؤلاء مستشارو «قسد الكردية» ويعمل البعض منهم على تجارب جيولوجية لاستكشاف امكانات الغاز والنفط في شرق الفرات.
تدل هذه المعطيات ان داعش بدأت تتجاوز حرفية النص الأميركي وتؤسس لحماية استمرار دورها في حالة حدوث تغيير أميركي محتمل يتطلب إقصاءها.
وهذا يدفع الى التساؤل عن مصير شرق الفرات؟ لكن كان وزير الخارجية السوري وليد المعلم واضحاً ان وجهة الجيش السوري بعد تحرير ادلب هي شرق الفرات بما يعني وضع القوات السورية وحلفائها الروس وحزب الله في مواجهة مع ثلاث قوى اساسية لها ايضاً تحالفاتها الكامنة وهي القوات الأميركية وداعش والكرد بدعم أوروبي وخليجي وإسرائيلي، وقد تجد تركيا نفسها أقرب الى الخط الروسي، لأن المشروع الكردي الذي يُثير غضبها ونقمتها يشكل جزءاً بنيوياً من المشروع الأميركي في شرق الفرات وقابلاً للتمدد نحو الشمال وصولاً الى جنوب وشرق تركيا حيث يوجد خمسة عشر مليون كردي يترقبون بشغفٍ لحظة الانفصال عن تركيا وتحقيق كيانهم السياسي المستقل.
فإلى متى يبقى الأميركيون أكبر مستثمر للإرهاب؟
وهل تنجح داعش في الاستثمار بالسياسة الأميركية؟
هذا ما يحدث اليوم في الشرق ومعركته لم تعد بعيدة فالقانون الدولي يعتبر الأميركيين في التنف وشرق الفرات مستعمرين محتلين كما يتعامل مع الكرد على أنهم عصاة متمردون على الدولة الشرعية وهي الدولة الوطنية القادرة على التعبير عن المكونات السورية المذهبية والطائفية والعرقية، ولو كره الكارهون.
|