الثابت أنّ الأميركيين أدركوا بعد عقد من صراع عسكري مباشر وإرهابي لتغيير الدولة في سورية وتفتيتها أنّ مشروعهم تلقى ضربة على أُمّ رأسه أصابته بشللٍ.
ولأنّ دورهم فيها مرتبط بنفوذهم في لبنان والعراق واليمن وفلسطين المحتلة، فبادروا مسرعين الى اختراع آليات جديدة لمنع استقرار الدولة السورية عسكرياً وبالتالي سياسياً واقتصادياً، وكان يمكن للأميركيين القبول بتطوّر الدولة السورية على هذه الوتيرة التقليدية، لكنهم يعرفون أنّ سورية المستقرة تستعيدُ فوراً ومن دون كبير جهد دوراً إقليمياً كبيراً يبتدئ من جوارها العراقي واللبناني محدثاً أثراً إضافياً في دعم المقاومة الفلسطينية وإعادة الصراع مع الكيان الإسرائيلي الى عمقه العربي.
ويدرك الأميركيون جيداً أنّ عودة السياسة السورية الى العراق بنظام التحالف تصل شظاياه الى اليمن مروراً بجزيرة العرب.
هذه الأهميات دفعت الأميركيين الى التنقيب عن كلّ ما يمكنه عرقلة استقرار الدولة السورية التي يترأسها قيادي صلب من معدن الزعامات التاريخية السورية المتعمّقة في الإمكانات الداخلية والخارجية لبلادها.
يُكثف الأميركيون من دعوة كلّ القوى التي يعتقدون أنها شديدة التأثير، فاختاروا شرق الفرات منطقة عرقلة للدولة السورية بهدف كسب وقت أطول لمنع انهيار أدوارهم في أزمات الإقليم الشرق أوسطي. وهذه محاولات أميركية لم تهدأ بعد ولم تستقرّ بالتالي على آليات نهائية للعرقلة.
فما أن انتهت معارك إطار دمشق والجنوب السوري بجانبيه الجولان المحتلّ والأردن وبعض حدود العراق حتى اخترع الأميركيون معركة الإرهاب في شرقي الفرات عبر الاستعانة بتغطية قوات قسد الكردية، ما تطلّب من الأميركيين الاستعانة بالسعوديين لجذب بعض العشائر العربية في المنطقة للتعاون مع كرد قسد وذلك بالرشى المالية والذهب الرنان.
لكن هذه المعادلة لم تكن كافية بالنسبة للأميركيين، فدعموها بقوات أوروبية وأوسترالية متنوّعة ترابط حتى الآن الى جانب قواتهم في القسم الشمالي من شرقي الفرات.
ولم يكتفوا بهذا القدر مُكلفين الإسرائيلي تنفيذ غارات جوية مصحوبة بقصف صاروخي لمرات عدة في الشهر الواحد. وهذا يتسبّب برأيهم بإرباك الاستقرار الداخلي والإبقاء على حالة الاستنفار الحائلة دون الاستقرار.
فهل هدأّت هذه التدابير العدوانية الأميركية من احتلال غربي مباشر وتحريك أكراد وعشائر و إسرائيليين من القلق الأميركي؟
نفّذ الأميركيون ثلاث خطوات إضافية تجسّدت في إصرارهم على عدم تفكيك مخيم الركبان وقاعدة التنف غربي الفرات، حيث يدرّبون قوات إرهابية لاستعمالها في إرباك الجيش السوري جنوبي بلاده.
وألحقوها بمنع الأردن من الاستمرار بالانفتاح السريع على سورية، فتقلصت عودة النازحين السوريين إليه بمعدلات وازنة الى جانب تقلص العودة الى التعاون الاقتصادي عبر الحدود المشتركة.
وهذا ما حدث مع لبنان الذي يحتاج إلى حدوده مع سورية التي تصله بالأردن والعراق والخليج. وبناء على طلب أميركي واصل الفريق اللبناني الموالي للأميركيين والسعوديين تنظيم هجمات سياسية على الدولة السورية بشكل يومي ما استتبع عرقلة متعمّدة لاستعادة الوظيفة الاقتصادية للحدود، علماً أنّ سورية لا تحتاج الى لبنان بأيّ شيء فلديها حدود بحرية تكاد تعادل حدود لبنان وبإمكانها تنشيطها لتصبح متنفس سورية البحري وتؤمّن أيضاً حاجات العراق والأردن.
لقد أدّت هذه المعطيات الى عودة الأميركيين الى الآلية الأساسية وهي الإمساك بالحدود مع العراق والحيلولة دون فتحها، فانتشر الجيش الأميركي في بعض نقاطها الحيوية على شكل قواعد متواجهة على الحدود السورية العراقية دافعين الكرد الى السيطرة ايضاً على بعض أنحائها.
بالنتائج لم يتمكن الأميركيون من إقفال حدود سورية مع العراق، لكنهم أصبحوا جزءاً من القوى التي تسيطر عليها ولم يقبل الأردن بالعودة الى الاستعداء الكامل لسورية كما فعل في العقد المنصرم.
وكذلك لبنان فإنّ القوى الداخلية الحليفة لسورية أصبحت أكثر فاعلية وبوسعها بعد انقضاء الأزمة الحالية فرض سياسة التعاون الاقتصادي المفتوح الذي يعني عملياً إنعاش الاقتصاد اللبناني بالعودة الى سياسات الاستيراد والتصدير والسياحة بالإضافة إلى دور كبير في إعادة إعمار سورية.
لذلك تدفع هذه المعوقات بالأميركيين للعودة إلى الخيار التركي فتحاول جذبه بأكثر من العروض الروسية، إنما من دون التسبّب بانهيار المشروع الكردي، لأنّ الأميركيين يعرفون أنّ الكرد في شرقي الفرات هم سوريون يضفون شرعية الانتماء الى هذه الارض فيما لا يمكن لأيّ جهة في العالم اعتبار الاتراك قوة شرعية في أيّ مكان من سورية.
هذا ما جعل الأميركيين يعرضون على الترك منطقة آمنة، لكنهم يختلفون معهم على عمقها ووظيفتها فهي بالنسبة للأميركيين مشروع لإطالة عمر الأزمة السورية وحامية في الوقت نفسه للدويلة الكردية العشائرية شرقي الفرات وشماله، أما بالنسبة للأتراك فالمنطقة الآمنة، تعبير عن نفوذهم في سورية ومشاركتهم في أيّ حلّ سياسي لأزمتها، كما أنها ضرورة لتفكيك المشروع الكردي فيها.
فهل يتنازل الأميركيون عن مشروعهم القسدي الكردي مقابل تعاون تركي معهم يطيل عمر الأزمة السورية؟
هنا يكمن الصراع الأميركي التركي فمن يرضخ للآخر؟ الأميركيون أم الأتراك؟
يبدو أنّ الأتراك يستسيغون لعبة الاستفادة من الصراع الأميركي الروسي التي يستفيدون منها على مستوى تعزيز دورهم في سورية، لكنهم لا يعرفون أنّ السماح لهم بالمماطلة انتهى بتفاهم روسي سوري يعتبر أنّ هناك فصلاً بين العلاقات التركية الروسية على مستوى الغاز والعلاقات الاقتصادية بينهما وبين الاحتلال التركي لقسم من سورية. وهذا ما أبلغه مؤخراً الروس للأتراك.
لكن الطموح العثماني للرئيس التركي أردوغان لا يتوقف عند منطق ويجعله في موقع المنتظر الذي يتربّص تكليفاً أميركياً له بإدارة المنطقة الأمنية.
هناك ثابت أساسي في هذه المعادلة وهو الدولة السورية صاحبة الأرض والسيادة والقرار بإعلان الحرب وتنظيم السلم، وهناك طرفان مقبلان تباعاً على خسارة نوعية: الكرد في مشروعهم التفتيتي والأتراك في مشروعهم العثماني، وهذان يخفيان الخسارة الكبيرة المرتقبة للمشروع الأميركي الذي لا يزال يحلمُ بأحادية لم يعد لها مكان إلا على صفحات تاريخ يتجهّز للاعتراف بأنّ سورية أسهمت في التصدّي لأعظم قوة استعمار عالمية تشكّلت على قاعدة التراكم منذ ثلاثة أرباع القرن.
|