شعر الوزير الأميركي السابق هنري كيسنجر بصعوبة ابتكار حل سحريّ حديث للصراع العربي الاسرائيلي وسبعينيّات القرن الماضي.. فالتاريخ الديني والسياسي يطغى على الطموحات السياسية للمشاريع.. ما أجبره على الصمت، حتى صرخ أخيراً بأن الحل موجود في لبنان.. لأنه خطأ تاريخي، داعياً إلى توطين الفلسطينيين فيه على قاعدة توزيع مناطقه على دول الجوار. فترضى بذلك سورية وتحقق «إسرائيل» مطامعها، «ويفرنقع» العرب إلى «ديرتهم».
لكن هذا المشروع أسقطته سورية الاسد والفلسطينيون، ولم تنفع تلك الاختراعات التي دبجها مؤرخون يقولون إن عمر لبنان السياسي يمتد إلى آلاف السنوات في إقناع كيسنجر بها، وحدها سورية التي تعرف أن لبنان جزء منها رفضت حل قضية فلسطين على حسابه.
ما يجري اليوم مشابه لمرحلة كيسنجر إنما على الطريقة الترامبية وفي عصر أوروبي ـ خليجي فيه الكثير من الانحطاط والسقوط المذهبي والأخلاقي والبراجماتي.
لقد أدت الأزمة السورية الى نزوح نحو خمسة ملايين سوري نحو البلاد المجاورة، وأعداد مماثلة الى مناطق في الداخل تحت رعاية الدولة السورية.
وعلى الرغم من سيطرة الإرهاب لسنين ثلاث كاملة على 65 من سورية فإن النازحين الى البلدان المجاورة تضاعف عديدهم هرباً من الاضطهاد الديني والسياسي، ولو كان هؤلاء النازحون مؤيّدين للارهاب في سورية لعادوا الى مناطقهم التي انتشرت فيها داعش وحلفاؤها في انحاء البلاد.
ألم يعترف رئيس وزراء قطر السابق حمد بن جاسم للإعلام بأن السياسة الأميركية طلبت من بلاده بالاشتراك مع تركيا والسعودية بدعم معارضات سورية تبين له كما زعم أنها تنظيمات إرهابية، كاشفاً ان قطر بمفردها دفعت أكثر من 160 مليار دولار، فشكل هؤلاء النازحون أزمة إنسانية وسياسية كبيرة بالنسبة لسورية، ومشروع ابتزاز كبير بالنسبة لسورية، ومشروع ابتزاز كبير لقيادة تركيا.. والدليل أن رئيسها اردوغان لا يزال حتى اليوم يبتز العالم مالياً بذريعة الإنفاق على النازحين السوريين، وسياسياً بمحاولة تهديد اوروبا بإرسال النازحين اليها.
من جهته استعمل الأردن النازحين السوريين اليه في دعم التنظيمات الارهابية العاملة في جنوب سورية، إلا انه اصيب بإجهاد كبير جزاء مستلزماتهم الاقتصادية، فأصبح يدفع باتجاه اعادتهم الى سورية مشجعاً عليها علنياً.
على مستوى لبنان، حاولت القوى المؤيدة للسعودية والغرب توظيف النازحين في لبنان في عمليات دعم المعارضات المتطرّفة في سورية من جهات عرسال في الشرق والشمال من مناطق عكار، لكن هذا الدور سقط، للتنسيق الكبير بين الأجهزة الأمنية الرسمية والتابعة للمقاومة، فسقط الارهاب في لبنان بالضربة القاضية أمنياً، من دون إلغاء موضوع الاستثمار به سياسياً على مستوى أحزاب المستقبل والاشتراكي والقوات وشخصيات مستقلة، محسوبة على السياسات الأميركية السعودية.
متى أصبح ملف النازحين يعتبر لبنان «خطأ تاريخياً» كما زعم كيسنجر؟
بعد تحرير الدولة السورية لنحو سبعين في المئة من أراضيها واندحار الإرهاب فيها، اصبحت عودة النازحين اليها ممكنة، خصوصاً أن المناطق التي لم تصب بأضرار كبيرة أو القابلة للإصلاح بجهود ممكنة.. وابتدأت العودة على مستوى النزوح الداخلي فشكّلت مستوى مقبولاً، وكذلك من الأردن ولبنان.. إلا أن أجهزة الامم المتحدة المعنية بالنازحين دعت الى ادعاء الحرص عليهم، وشرعت ببث شائعات عن رعب أمني لا يزال يسيطر على المناطق المحرّرة واعتقالات وقتل وتعذيب.. بالاضافة إلى عدم توفر فرص للعمل وإمكانية إعادة بناء العقارات المتهدّمة، ولم تنس الأجهزة الأممية أن تقول للنازحين إن الدولة أممت مجمل العقارات التي تركها اصحابها منذ أكثر من ست سنوات.
وسرعان ما انكشف ان السياسة الأميركية لا تريد عودة النازحين الى ديارهم لمنع الدولة السورية المنتصرة من الاستقرار السياسي والاجتماعي، هذا إلى جانب إمكانية استخدامهم في مرحلة الانتخابات السورية التي يفترض ان تلي حقبة ما بعد تأسيس اللجنة الدستورية، وبجهل كامل بالأبعاد الحقيقية العميقة للسياسة الأميركية، تضغط القوى اللبنانية المحسوبة على الأميركيين والسعوديين في اتجاه الإبقاء على النازحين في لبنان.
حتى أن الوزير الاشتراكي وائل أبو فاعور زعم أن الجيش السوري يطلق حملة تصفيات لإبادة معارضيه من بين النازحين، مضيفاً أنه يمارس أيضاً سياسة تهجير مذهبية.
هذا بالاضافة الى تصريحات مماثلة لوزراء من المستقبل وشخصيات مستقلة وحزب القوات.
لقد بدا كل هذا التيار حريصاً على النازحين بخلفية أميركية، ودفع سعودي، لكن اللبنانيين والسعوديين يعتقدون أن الهدف الأميركي هو فقط استعمال هؤلاء النازحين لتصديع النظام السوري، وهذا ربما كان جزءاً بسيطاً من الحقيقة التي تستمدّ جذورها من التصريح التاريخي لكيسنجر الذي يرى أن لبنان خطأ تاريخي وبالإمكان حل مشاكل الجوار على حساب جغرافيته السياسية.
فماذا يزيد أو ينقص على المنطقة لو جرى توطين نصف مليون سوري على أراضيه ونصف مليون فلسطيني إضافي مقابل تعزيز فرص الهجرة لمن يريد من المسيحيين؟..
واستحداث كانتون كردي في شرق سورية وآخر سني وثالث علوي، وهكذا دواليك، فماذا يستفيد الأميركيون وهل تنتفع القوى اللبنانية الموالية لهم؟ هذا المشروع يدمّر سورية ركيزة المنطقة، منهياً القضية الفلسطينية ومشتتاً لبنان وأهله في كل حدب وصوب، ومعاوداً تأسيس نفوذ أميركي في الشرق لقرن جديد، ومتسبّباً بتهجير المسيحيين اللبنانيين، أهل البلاد إلى أصقاع الارض، كذلك فإن السنة اللبنانيين لا يسلمون من التهجير لاعتبارات اقتصادية، أما الدروز فلن يتأخروا بالاكتشاف ان توطين الإرهاب في لبنان معادٍ للتباينات الدينية ومجمل الاختلافات المذهبية.
هل لبنان خطأ تاريخي؟ إنه كذلك ومعه تسعون في المئة من الدول العربية الحديثة التأسيس، لكن هذا الأمر لا يجب أن يشكل قاعدة لتطبيق المشاريع الأميركية المدمّرة للمنطقة بكل حالاتها الكيانية لأن اهدافها هو مزيد من تدمير المنطقة وليس معالجة جراحاتها، فجابهوا مشروع الخطأ التاريخي قبل فوات الأوان.
|