دول المشرق تستنجد مجدداً بالمستعمر الغربي لحماية أنظمتها السياسية من الانهيار بتدخلٍ عسكري مباشر ومكشوف يضاف الى سلسلة قواعده المنتشرة منذ سبعة عقود تقريباً في النقاط الاكثر استراتيجية في المنطقة.
هكذا حال كل المعادلات السياسية الضعيفة التي لا تؤمن الا بحراب المستعمر لحماية مشيخاتها وإماراتها وملكياتها وتتجاهل شعوبها بإفقار وتجهيل لا مثيل لهما في حركة التاريخ.
فمن يصدّق ان بلداناً غنية بمستوى الخليج لا تصنع شيئاً سوى احتراف السيطرة على مجتمعاتها بالدين والقمع وقليل من الذهب المنثور، لكن هذه الوسائل لم تعد تكفي، فلا بد اذاً من العودة الى الخدمات المباشرة للمستعمرين اصحاب المصلحة بالدفاع عن مستعمرات تكتنز معدلات قياسية من النفط والغاز والقدرة على استهلاك الصناعات الغربية والموقع الاستراتيجي.
إلا انّ هناك استثناءات على هذه المعادلة في سورية التي تقاتل دولتها ضدّ عودة الاستعمار المتسربل بأدوات إرهاب داخلية وعالمية وإقليمية.
وكذلك اليمن الثائر على استعمار سعودي خليجي يغطي الاستعمار الأميركي الفعلي، والعراق المجابه لاستعمارين مباشرين، الأميركي والتركي واعوانهما من تنظيمات ارهابية وعرقية.
اما إيران فلا تزال منذ اربعة عقود تتصدّى لحملات عسكرية واقتصادية تستهدف إعادة إخضاعها للمستعمرين.
لجهة تركيا فلا تنتمي الى تلك الاستثناءات لانها «تستضيف» على اراضيها قواعد نووية وعسكرية أميركية واخرى لحلف الناتو، على الرغم من تماسك دولتها وقوة جيشها، لكنها آثرت الاتكاء على خدمات المستعمرين بتبرير الانتماء الى حلف واحد في وجه العدو السوفياتي حينه.
للتوضيح فإن الاستعمار العسكري الغربي المباشر رحل عن المشرق محتفظاً بقواعد في معظم الخليج والاردن انما بأشكال مختلفة تقاطعت مع هيمنة اقتصادية كاملة، وهذه هي أهداف الاستعمار الباحث دوماً عن المصادر الاقتصادية المتنوعة.
لذلك بدت بلدان المشرق في السبعين سنة المنصرمة وكأنها مستقلة شكلاً تديرها شبكة من عائلات وقوى منتمية الى محور السياسة الغربية من دون أي نقاش ومع رجحان كبير لمحورها الأميركي.
هذا ما جعل الحماية الغربية المعنوية والمباشرة قادرة على إجهاض اي محاولات تغيير فعلية في المنطقة العربية.
لكن انهيار الاتحاد السوفياتي استولد فرصة تاريخية ليحاول الأميركيون إعادة تشكيل المشرق على نحو مستسلم غير قادر على إحداث اي تغيير لمدة طويلة.
فابتدأوا باحتلال افغانستان قافزين مباشرة من آسيا الوسطى الى المشرق باحتلال العراق في 2003 ولمزاعم تبين أنها كاذبة وادت الى مئات آلاف القتلى من دون ان تتجرأ قوة واحدة على انتقاد الأميركيين.
واستكمالاً لخطتهم حاولوا تدمير سورية بالارهاب وقواهم المباشرة والاسناد الاقليمي العربي بالتمويل والتركي بالتدريب والحدود والخدمات اللوجستية والاحتلال المباشر والاسرائيلي بالغارات الجوية.
إلا ان هذه المخططات لم تنجح في سورية والعراق فبدت الحرب على اليمن وسيلة اضافية وضرورية بموازاة خطة تقسيم العراق وإضعافه وسيلة اساسية لحماية البقرة الخليجية الحلوب من كامل الاتجاهات.
بدوره تصدّى اليمن المتواضع الإمكانات والكبير بتاريخه، لأوسع عدوان خليجي عربي أميركي غربي ناقلاً المعارك الى ميادين السعودية بإصابته عشرات المرات لمصافي نفطية ومطارات ومواقع عسكرية وإدارية.
ان مثل هذا القصف وضع الأنظمة الخليجية وتغطيتها الأميركية أمام حقائق مذهلة، فلا سورية سقطت ولا تمزقت وسورية لم تتفتت وتبين بوضوح أن دول الخليج عاجزة عن الدفاع عن انظمتها حتى امام القوى المتواضعة في اليمن، فكيف يكون حالها مع العراق او سورية، وانكشف ان مصر والاردن وباكستان تؤيد الخليج خطابياً لان مشاكلها الداخلية والخارجية لا تسمح لهم ارسال قوات اليه.
هناك قلق أميركي إضافي من احتمال انفجارات شعبية داخلية في الخليج قادرة على بناء تغيير فعلي في انظمته الحاكمة.
لقد تزامنت هذه التحليلات الخليجية الأميركية مع قصف يمني لمصافي بقيق وخريص اللتين تنتجان ستة ملايين برميل اي نصف الإنتاج السعودي النفطي المرتبط بالاقتصاد الغربي بشكل كامل. فوجدها الغرب الأميركي فرصة تاريخية جديدة يلعب بها على الضعف الخليجي بمحاولة رفع مستوى استفادته منه، والزعم انه عائد للدفاع عنه، وهذا يتطلب ارسالاً سريعاً لقوى برية وجوية وبحرية انما ليس بالأعداد الكبيرة لان الحروب اليوم تقتصد في البنى العسكرية البشرية لمصلحة استعمال آليات الحرب الحديثة والمتطورة التي تعتمد بشكل شبه كامل على الوسائل المادية المتطورة. لجهة أنظمة الخليج المذعورة فهي مستعدة للتغطية المادية والسياسية واستعمال فقه ديني تزعم انه إسلامي لتسهيل حركة هذا الاستعمار الجديد ولتوسيع مشروعه، اتهم الغرب الأميركي إيران بقصف المصفاتين على الرغم من ان خبراء عسكريين غربيين أكدوا ان الحصار على اليمن بمنع اي حركة بشرية بحراً وبراً، معتبرين ان خبراء إيرانيين علموا اليمنيين فنون صناعة المسيَّرات بما فيها المتطورة القادرة على اجتياز اكثر من الف كيلومتر وهذا هو التحليل العلمي الصحيح والذي يبرر لليمنيين الدفاع عن وطنهم في وجه أي عدوان خارجي.
من جهته، يستنجد هذا الخليج بالأميركيين عن طريق اثارة خوفهم على مصالحهم الاقتصادية عنده، او بالإيحاء من خطر تغييرات داخلية لن تكون بالطبع لصالح استمرار الهيمنة الغربية على دول الخليج وثرواتها.
يتبين بالمحصلة ان الأميركيين يبتعدون عن فكرة الحرب على إيران مع ميلهم لنشر قوات غربية في مواجهتها على السواحل السعودية والاماراتية استكمالاً لقواعدهم في الكويت والبحرين وقطر والاردن، فبهذه الطريقة يعود الاستعمار المباشر الى كامل جزيرة العرب بنفقات مرتفعة تتحمّل وزرها الدول المحتلة.
فهل لهذه القوات وظائف اكبر؟ يعرف البيت الأبيض انه لا يستطيع ممارسة هذا الدور الا في الخليج، فسورية طردت الاستعمار منذ سبعين عاماً وتواصل طرد ما تبقى منه، والعراق يتحضّر لإبعاده حالياً، واليمن ينجز مهامه التحريرية.
بناء على هذه المعطيات فإن عودة الاستعمار الغربي الى الخليج هي لمهمة وحيدة وهي منع أي تغير داخلي يؤدي الى تحرير ثروات الخليج من الحكام وتغطيته الغربية، ووضعها في خدمة تطوّر دول يصرُ الأميركيون على سحبها من القرون الوسطى.
|