يواصل الأميركيون تدمير الضوابط القانونية التي نتجت من الصراعات السياسية والحروب الكبرى المتعاقبة في القرن الأخير، ولا تزال ترعى حتى الآن العلاقات بين الدول المعنية، بتحويلها معاهدات تؤدي دور الرقيب على الخلل بمعدلات مقبولة.
هذا ما يدفع الى البحث عن اسباب ولادة هذا النهج الأميركي الذي يسحب الولايات المتحدة الأميركية من معظم المعاهدات التي كانت تلتزم بها، وذلك بذرائع لا ترتقي الى مرتبة الحجة القانونية الواضحة.
فكيف يمكن تفسير هذا النسفُ الأميركي المتصاعد لمعاهدات المناخ والعولمة مع العودة الى الحمائية وفرض ضرائب عالية على التجارة الخارجية والانسحاب الأميركي من الاونروا والاعتراف بالقدس عاصمة لـ»إسرائيل» وإلحاق الجولان بها. وهناك عشرات المعاهدات الاخرى التي تكشف عن جبار مسلح بسيف أصيب بعمى مفاجئ فابتدأ بالضرب يميناً ويساراً حتى أدرك معاهدة حظر الاسلحة النووية القصيرة المدى والمتوسطة مع روسيا فأرداها بضربة قد تؤجج الصراعات الدولية بشكل عنيف وغير مسبوق.
هل نحن عشية التحضير لحروب عالمية جديدة؟
تحدث الحروب العالمية عادة عند محاولات قوى امتلكت قدرات استثنائية جديدة، التعبير عنها بمحاولة السيطرة العسكرية على مناطق تعود مباشرة الى قوى كبرى إما بالانتماء التاريخي او بنظام المدى الحيوي.
هكذا كان حال اليابان والمانيا في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وعندما أرادتا اقتسام المستعمرات مع فرنسا وبريطانيا، وهذه وضعية الأميركيين الذي اعتبروا انتصارهم في الحرب العالمية بداية لمشروع هيمنتهم على العالم.
ما يحدث اليوم على صلة بهذه المعادلة، فهناك صعود صيني اقتصادي، وعودة عسكرية سياسية لروسيا وتمرد إيراني نجح في انتزاع قسم من الشرق الأوسط، بالمقابل هناك تراجع أميركي في سورية والعراق واليمن وافغانستان وبعض أنحاء أميركا الجنوبية وجنوب شرق آسيا، بما ينعكس على التفرد الأميركي بالقرار العالمي لجهة اضطراره الى مشاركة قوى أخرى.
لكن الأميركيين لا يريدون نظاماً متعدّد القطب لإدارة النزاعات العالمية، ما أدى الى استمرار التوتر في أكثر من نقطة دولية.
ولأن الدولة الأميركية العميقة تعرف استحالة شنّ حروب على دول نووية توازيها في هذا النمط من السلاح وقد تسبقها في بعض أنواعه فضلت الاتجاه نحو اشكال جديدة من الحروب ليس فيها ضجيج السلاح واحتمالات التدمير النووي، إنها حروب العقوبات والحصار والضرائب والسياسة والانسحاب من المعاهدات الدولية والاقليمية التي تتطلب من المنافسين الدخول في صراعات اقتصادية شديدة الكلفة. ويمتلك الأميركيون هنا سابقة دفعِ الاتحاد السوفياتي الى حلبة المنافسة في التسلح، ما أدى الى سقوطه وتفككه اقتصادياً.
هذا يكشف ان ادارة الرئيس الأميركي الحالي ترامب تضرب في الاتجاه نفسه إنما على قواعد أكبر وأكثر خطورة، يكفي أنها تتجه الى تدمير كل المعاهدات الناتجة من علاقات دولية عمرها مئة عام على الأقل بمواكبة عقوبات اقتصادية بعضها من النوع القاتل يستعمل فيها الأميركيون كل عضلاتهم الاقتصادية التي لا تزال قوية، لقتل الآخر أو تأديبه لإعادة إلحاقه منصاعاً للنفوذ الأميركي.
هناك مثلاً ضربات أشبه بالوخزات الصغيرة لألمانيا واليابان وفرنسا وكندا ودول أخرى تتمظهر على شكل رفع ضرائب قليلة ومعوقات على حريات اختراق الحدود.
إلى جانب كبس لا يخنق للمستعمرات في شبه جزيرة العرب بعمليات «سطو حبية» على إيراداتها النفطية.
إلا ان ما يفاجئ المتخصصين هو العودة الأميركية الى نظام الحمائية المركنتيلية التي تُلغي ربع قرن واكثر من نظام اقتصادي اخترعة الأميركيون انفسهم على اساس فتح الحدود السياسية امام حركة السلع من دون ضوابط في معادلة عولمة اعتبرت ان توحيد الارض ضرورية لسيطرة الأميركيين على العالم.
لكن هؤلاء ينقلبون اليوم على «عولمتهم» لانها اتاحت للسلع الصينية واليابانية والالمانية غزو اسواقهم بالاسعار المنخفضة لبعضها والجودة للقسم الآخر.
لذلك اكتشف الأميركيون مسألتين: تراجع أحاديتهم وعدم قدرتهم على شنّ حرب قد تصل الى المرحلة النووية فلا تُبقي على شيء، ففضلوا استعمال قوتهم الاقتصادية الكونية لإجهاض هذا الانقلاب عليهم، مركزين على تأديب «الأصدقاء» الأوروبيين وغيرهم الباحثين عن تغيرات دولية تتيح لهم الفرار من الهيمنة الأميركية، وخنق ثلاث دول هي الصين وروسيا وإيران بالحروب الاقتصادية.
هناك إذاً تلازم بين العقوبات الاقتصادية والانسحاب من المعاهدات الراعية لانتظام العلاقات الدولية التي يبدو انها متصاعدة لبروز قناعة أميركية بوجوب تدمير كل آليات الانتظام العالمي، وإعادة صياغتها على نحو أميركي جديد فيه أحادية مطلقة «للكاوبوي»، في ميادين السطو على «قطارات» الدول ويدفعه لإلغاء معاهدة حظر الصواريخ النووية القصيرة المدى والمتوسطة.
وهذه ضربة لأوروبا والصين لأن مدى هذا النوع من السلاح لن يكون إلا بين قوى نووية أميركية منتشرة في شرق أوروبا مقابل قوى روسية بمواجهتها.
الى جانب صواريخ نووية أميركية في جنوب شرق آسيا قبالة الصين. فالولايات المتحدة بعيدة عن مدى هذه الصواريخ، بما يدخل الصين واوروبا في المعادلة من جديد بإثارة الذعر الاوروبي من روسيا والصين، وهذا يعني إعادة استيطان القارة العجوز في قلب المحور الأميركي هذا بالإضافة إلى الاكلاف الاقتصادية العالية جداً والناجمة عن الدخول في حروب التسلح.
يتبين بالاستنتاج ان الأميركيين ماضون نحو حروب اقتصادية ضخمة، لإعادة انتاج نواظم جديدة للعلاقات بين الدول، وبالطبع على أساس إعادة إنتاج هيمنتهم لنصف قرن جديد. لكن هذا ليس قدراً فسورية تجابهه وايران تكافحه وروسيا والصين تتعاملان معه بعقلية المتمكن.
وقد لا يتفاجئ المعنيون بخروج الأميركيين حتى من الامم المتحدة لأنهم عازمون بحروبهم الجديدة على تقوية الجيوبوليتيك العالمي الخاص بهم.. ألم يبدل الرابحون في الحرب الثانية عصبة الأمم منتجين الأمم المتحدة؟ هناك من يؤكد بأن المحاولات الأميركية الحالية ليست إلا إثارة غبار كثيف سرعان ما يتجلى على حقيقة مرة مفادها بأن العصر الأميركي الاحادي ولى إلى غير رجعة لمصلحة نظام متعدد القطب قادر على ركل العقوبات الاقتصادية الأميركية ومعها تلك المعاهدات التي تصبح بحاجة الى تعديل لمصلحة المراكز الجديدة للقوة في العالم بما فيها محور ايران وسورية على أساس روسي ـ صيني.
|