بات الحراك الشعبي في وضعية صعبة تمنعه من تطوير مشروعه الذي كان يريد منه إلغاء الطائفية السياسية، وبناء نظام مدني على أساس قانون انتخابات على اساس لبنان دائرة انتخابية واحدة خارج القيد الطائفي.
هذا الحراك محشور اليوم بين طبقة سياسية لا تكترث اليه اعتقاداً منها أنه شديد الضعف، حتى أنها تعلن ولاءها له، لشدة ابتهاجها بمحدوديته.
هو أيضاً محاصر من قوى تزعم أنها منه، لكنها مدفوعة من أحزاب الطوائف لتحوير استهدافه من مستوى النظام الطائفي بكامله الى مرحلة دعم قوى طائفية ضد قوى طائفية أخرى وينتميان معاً الى النظام السياسي نفسه، إلا انهما على اختلاف حالياً بسبب الصراع المندلع بين مراكزها الإقليمية.
هناك الصراع الأميركي الإيراني المحتدم والسوري – الأميركي، والإيراني السوري الخليجي الاسرائيلي وهي صراعات اجتازت خطوط ربط النزاع فيما بينها، لتندرج في إطار صراع بمختلف انواع الوسائل القتالية السياسية والحربية ايضاً.
ما انعكس على الساحة اللبنانية الهشة والكثيرة الارتباط بالخارج، قتالاً سياسياً ضروساً لم يدرك بعد مرحلة الحروب الداخلية، لكنه ليس بعيداً عنها متجاوزاً مشارفها ومعلناً تأهبه للتعامل معها.
لذلك يُصاب هذا الحراك بإحراج خطير، فيسكت عن الاختراقات التي يتعرّض لها مكتفياً بالمراقبة انما من دون ردود فعل.
وهذه سياسة حراكية انتهجها منذ انطلاقته قبل أكثر من ثلاثة أشهر حين ترك أحزاب القوات اللبنانية والتقدمي الاشتراكي والمستقبل تقطع الطرقات من دون أي توضيح من قبله، بين بيروت والشمال والجنوب والبقاع.
لكنه اقترف هذه المرة صمتاً يرقى إلى حدود الجريمة حين ترك أحزاباً «إسلاموية» يذهب بعضها الى أصول داعشية وقاعدية وقسماً آخر يرتبط بالمعارضات الإرهابية السورية، تغزو ساحاته في رياض الصلح والشهداء وتهاجم بشكل عنيف قوى الأمن الداخلي والجيش بالترافق مع حركة تدمير للممتلكات الخاصة والعامة.
إن ما يثير الاستياء هنا يتعلّق بوجود مؤيدي الحراك على مسافة قريبة جداً من بضع مئات من شبان جرى تحشيدهم مذهبياً عبر سفارات تركية وإماراتية مع أحزاب إرهابية، ونقلهم الى بيروت يومياً لتعميم حركة فوضى وهجوم على الأجهزة الأمنية في مشاهد عنف تنقلها محطات تلفزة بشكل مشابه لما كان يحدث في ميادين سورية منذ 2011، وتبين آنفاً أن معظم تلك المشاهد كانت تفبرك في بعض الأحياء التي يسيطر عليها الإرهابيون في سورية، او في بلدان خليجية على صلة بالمشروع التدميري الغربي للمنطقة العربية، وعلى رأسها قطر وبعض المراكز السينمائية التركية والخليجية.
الأمر الذي يدفع الى التساؤل عن اسباب اعتكاف هذا الحراك الفعلي عن فضح تلك الاختراقات الإرهابية التي أصابته حتى العظم فيه.
كان بإمكان الحراك المكوّن من جمهرة من الأحزاب اليسارية والوطنية ومواطنين مصابين من الانهيار الاقتصادي المتفاقم أن ينأوا بأنفسهم عن القسم المدسوس في حراكهم، ويستفيدوا من انكماش ردود فعل الطبقة السياسية أمام تحرّكهم بتطوير برامج أعمالهم لتتكامل مع مسعى تأسيس لبنان الوطني المدني، لكنه لاذ بصمت، الأمر الذي زاد النظام الطائفي إيماناً بقدراته وتيقناً من ضعف الحراك الذي يقدّم نفسه على أنه ثورة، لكنه لا لم يصل بعد الى حدود حراك فعلي او انتفاضة تراكم اعمالاً تضعها في مرتبة القوى القادرة على التغيير البنيوي.
تكفي الإشارة الى ان الوضع أكثر طائفية مع هذا الحراك وباتت الطبقة السياسية أكثر ثقة بإمكاناتها، والدليل أن قادة النظام مستمرون في خلافاتهم حول تأسيس حكومة جديدة لأنهم متأكدون من عدم قدرة «الثوريين» المزعومين من الاستفادة من صراعاتهم ولو شعروا حتى بالحد الأدنى من وجود خطر من الحراك على نظامهم الطائفي، لكانوا اتجهوا الى استعمال مخزونهم الطائفي الشعبي وقواهم الأمنية والعسكرية الرسمية في قمع المعترضين على أدوارهم.
يتبين أن هؤلاء الثوار المعترضين لم ينتفعوا من انكماش النظام الطائفي بسبب الصراع المندلع بين «معلّميهم» الإقليميّين والدوليين، ولم يوظفوا هذه الصراعات ليسجّلوا انتشاراً بين لبنانيين تواقين للخروج من الأسر المذهبي والطائفي، كما أن الفئات اللبنانية المصابة بالتراجع الاقتصادي في البلاد لم تعتبر هؤلاء الثوار المزعومين بديلاً يمكن المراهنة عليه للبنان جديد، بل تفضّل الهجرة وترك البلاد الى مناطق جديدة.
فهل هذا يعني انتهاء الحراك؟ إنه على تخوم هذه المرحلة، إلا إذا غيّر أسلوبه لافظاً المندسّين في صفوفه ومعلناً برنامج عمل واضح بوطن لاطائفي مع إعلان قيادة مدنية على مستوى المرحلة، مع نبذ الصمت القاتل الذي لا يفعل إلا خدمة المندسّين والسماح لهم بتقديم أنفسهم على انهم ثوار يعملون من اجل داعش والنصرة وحراس المدينة العثمانية.
|