دخول الأزمة السورية، في مرحلة حاسمة من الصراع الأخير بين قواها الأساسية المتورّطة، يفرض على تركيا، اختيار فريق من محاورها المتناقضة.
وبذلك تختم فصلاً طويلاً مستمرّاً من المراوغات بين عثمانيتها البائدة وأطلسيتها المتذبذبة وروسيتها الطارئة.
راكمت تركيا قواعد دورها السوري من سنين سبع من التدخل العسكري والسياسي المكشوف في الأراضي السورية، رعت خلاله عملية الإشراف على دخول مئات آلاف الإرهابيين من حدودها الى عموم الجغرافيا السورية، فاستفاد دورها من خمسة مصادر للقوة، منحته إمكانات عدوانية واسعة، تكاد تكون الأولى بين الدول الأجنبية المتورّطة.
استفادت أولاً من جوارها الجغرافي المباشر لسورية المبنية على علاقات تاريخية واسعة، تتجلى في استعمار عثماني لها دام أربعة قرون، وتركت في بعض أنحاء سورية مئات الآلاف من ذوي الأصول التركمانية.
اما تنظيمات الإرهاب من داعش والقاعدة والنصرة والأحزاب الأخرى فتمكنت أنقرة من الإمساك بها إلى حدود التوجيه والقيادة ورسم الخطط وكلذ الأعمال اللوجستية بموافقة أطلسية ـ خليجية.
بالإضافة إلى أنّ إخوانية الدولة التركية حزب العدالة والتنمية أتاحت لها قيادة الاخوان المسلمين في العالم وإدارة فرقهم الإرهابية في الميدان السوري.
في هذا المجال، لا يمكن أيضاً تجاهل قوة الجيش التركي التي استخدمها لاحتلال منطقة سورية حدودية سرعان ما تمدّد منها إلى عفرين وإدلب، داعماً انتشاراً إرهابياً في أرياف حلب وحماة واللاذقية.
و»لتعريب» دورها العدواني، استعملت تركيا دولة قطر لإسقاط الدور العربي للدولة السورية. والدخول إلى المنطقة العربية من بوابة الفتنة السنية ـ الشيعية على خطى «إسرائيل» والأميركيين والخطاب الطائفي للإرهاب.
للتوضيح فقطر التركية ـ الأميركية والسعودية الأميركية، أصرّتا على طرد سورية من جامعة الدول العربية، وترفضان اليوم عودتها إليها بذريعة عدم تقدّم الحلّ السياسي.
لكن الحقيقة في مكان آخر، وتتعلق بضرورة استمرار الحصار على سورية لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب السياسية وفي مرحلة انتصار الدولة السورية وحلفائها، وذلك بالضغط الأميركي في شرق الفرات والشمال والدور التركي والجامعة العربية وإعادة الإعمار ومقاطعة الدولة السورية.
للتذكير فقط فإنّ إعلان الرئيس الأميركي ترامب عن بدء انسحاب قواته من سورية قبل شهرين، أدّى إلى عودة البحرين والإمارات والسودان وعمان والكويت إلى سورية، وكانت السعودية نفسها تتحضّر للعودة، لولا ولادة ضغط أميركي جديد أرغمها على التوقف.
وكادت تركيا تتضعضع في ذلك الوقت من احتمال عودة التضامن العربي، فرفعت وتيرة خطابها عن مقتل مئات آلاف «السنة» بيد «النظام العلوي»، وهو خطاب مستهلك لم يعد يصدّقه أحد، وبذلك يتساوى الدور التركي في إثارة الفتنة بين العرب مع الأميركيين و»الإسرائيليين».
ولهذا الدور مقوّمات أطلسية ويستفيد من التناقضات الروسية ـ الأميركية في الميدان السوري، فتركيا عضو أساسي في الحلف الاطلسي، أدّى دوراً في مواجهة لجم نفوذ الاتحاد السوفياتي من ناحية البحر الأسود لكنه تراجع بعد انهيار الاتحاد السوفياتي 1989 حتى انّ الاتحاد الأوروبي رفض انتسابها إليه.
لكن الأهمية التركية في الميدان السوري جعلت الأميركيين لا يقطعون معها على الرغم من اختلاف أهداف مشروعهم مع طموحاتها.
فيتناقضون معها تارة ويجهدون للعثور على قواسم مشتركة جديدة ومرة أخرى وهكذا دواليك.
اما النقطة الأخيرة الداعمة للدور التركي فهي الصراع الأميركي ـ الروسي الحادّ الذي يتصاعد مرتدياً شكل تحوّل الأحادية الأميركية المتسلطة على العالم إلى ثنائية روسية ـ أميركية أقلّ ضرراً.
هذا ما منح الترك أهمية إضافية، فارضاً إفساح الطريق لهم ليصبحوا جزءاً من حلف أستانة وسوتشي مع الروس والإيرانيين.
فموسكو اعتقدت انّ «أستانة» من جهة وعلاقاتهم الاقتصادية مع أنقرة على قاعدة تصدير الغاز الروسي إليها عبر البحر الأسود فأوروبا مع تبادلات اقتصادية وسياحية اعتقدوا أنها عناصر كافية لجذب أنقرة نهائياً. لكن رفض تركيا تطبيق اتفاقيات خفض التوتر في إدلب وأرياف حماة واللاذقية وحلب، بذرائع ضعيفة، ترفع من مستوى تناقضها مع روسيا وإيران، هذا إلى جانب دعمها لهجمات تشنّها التنظيمات الإرهابية على الجيش السوري من خلال أرياف حماة وحلب إلى اللاذقية، تكشف عن محاولات تركية لتعقيد ما تخططه الدولة السورية لتحرير إدلب في وقت قريب وهي عمليات تشبه هجوماً كبيراً يريد بناء مواقع أمامية لصدّ الهجمات الوشيكة للجيش السوري على مواقع الإرهاب.
وهذا يضع تركيا في إطار محاولات أميركية مستجدة لإعادة نصب الأزمة السورية بآليات جديدة تجمع بين دعم أميركي للكرد في الشرق والشمال ورعاية تركية لمنظمات الإرهاب من النصرة إلى جيش العزة والتوحيد والتركمان ومنظمات الاخوان مع حضور مباشر للجيش التركي.
بالاضافة إلى قوات أميركية وأوروبية لها طابع معنوي، أما الأكثر خبثاً فهي تلك المحاولات الاميركية ـ السعودية لإضفاء طابع عربي على «قسد» التركية وذلك عبر ضخ كميات من أجنحة عشائر متورّطة بقيادة الجربا.
في المقابل، هناك تصميم من الدولة السورية على إنهاء إدلب أولاً ومواصلة التقدّم نحو كلّ متر من أراضيها، بتأييد مفتوح من حزب الله وروسيا وإيران، فإنهاء ما تبقى من إرهاب يقضي على معظم الدور التركي في سورية، فيصبح احتلال جيش أنقرة لمناطق حدودية وفي جهات عفرين مكشوفاً لا يمتلك وسائط حماية محلية ومتقدّمة، وكذلك من جهات الحدود.
انّ تحرير سورية بشكل كامل أصبح يتطلب إنهاء الدور التركي فيخسر الأميركيون ما تبقى من أوراقهم دافعاً الكرد نحو دولتهم السورية، الإطار الوحيد الضامن لحقوقهم.
|