يتعامل الأميركيون مع الانتخابات في بلادهم على أنها آلية داخلية صرفة فيستجيبون لها وفق قراءتهم للضرائب المفروضة ومستوى العمل والبطالة والتضخم، أما أحداث العالم فهي ثانوية بالنسبة إليهم وكأنها تجري على كوكب آخر.
ضمن هذا المفهوم بذل الرئيس الأميركي دونالد ترامب جهوداً استثنائية جبارة ومتواصلة بدأها مع انطلاق ولايته قبل عامين للإمساك بالناخب.
صياح وصخبٌ وجلبة واعتداءات بالجملة على كلّ دول العالم، لم يفرّق فيها بين عدوّ لبلاده أو صديق لها، موهماً شعبه أنه يعمل على تصحيح التراجع الاقتصادي عبر التخلص من كلّ النفقات الإضافية الخارجية التي تدفعها واشنطن لتعزيز إمبراطوريتها ومضاعفة ما تسرقه من العالم.
للتوضيح فإنّ النسق الاجتماعي الأميركي يقوم تاريخياً على طبقة وسطى ضخمة تزيد دائماً عن 55 إلى 60 في المئة من السكان و20 في المئة أغنياء و20 في المئة فقراء، تتغيّر هذه النسب حيناً إنما بشكل لا ينسف هذا الاستقرار الاجتماعي الذي يشكل أساس الازدهار ليس في أميركا فقط بل في مجمل الغرب واليابان.
في المقابل ليست هناك أحزاب طبقات أو مناطق وأعراق وطوائف في أميركا. هناك حزب ديمقراطي شمالي التأسيس أقرب الى الطبقة الوسطى من حزب جمهوري جنوبي الانطلاق يُعبّر عادة عن مصالح الطبقات العليا إنما من دون القطع مع الطبقات الأخرى، وإلا لما نجح أكثر من مرة في كلّ أنواع الانتخابات.
للإشارة فإنّ الشمال الأميركي هو منطلق حروب الاستقلال وتحرير العبيد مقابل الجنوب الأكثر يمينية وعنصرية للسود والأجانب.
لم يلعب ترامب هذا المدى مُفضلاً بناء استراتيجية جديدة تقوم على تحريض المواطن الأميركي «الأبيض» على المُلوّنين وذوي البشرة الداكنة والمهاجرين وأبناء الدول المجاورة من أميركا الجنوبية والوسطى، خصوصاً المكسيك وولج أبواب التحريض على الإسلام والأديان الأخرى، مُصراً على انّ العالم يجب ان يدفع من أجل الرفاه الأميركي مستعملاً كلّ إمكانات الرئاسة الأميركية في الإعلام والمحاضرات ومراكز صناعة الرأي والدراسات ووهج البيت الأبيض، استهلكها كلها للفوز في هذه الانتخابات النصفية التي كان يبني عليها ليُجدد ولايته الرئاسية بعد عامين في 2020.
هل أصيب بصدمة من نتائجها؟ لا شك في أنّ الصدمة وقعت على أمّ رأسه، فقد خسر مجلس الشعب «البرلمان» رابحاً مجلس الشيوخ بمعنى أنّ لديه الآن معوقاً يمنعه من إطلاق المواقف الجنونية وله القدرة على محاسبته على أيّ قرار رئاسي يتخذه في الداخل والخارج.
قد لا يستطيع منعه مسبقاً لكن له حق المراقبة والمحاسبة وإطلاق مواقف إعلامية مناهضة له في كلّ وقت مع الحق بالتوجّه الدائم إعلامياً الى الناخبين.
هي إذاً حربٌ داخلية أميركية بدأت بالاندلاع بقوة بين ترامب وقسم من مجلس الشيوخ مقابل الديمقراطيين الذين يهمّهم التحضير بدورهم لانتخابات 2020.
هما إذاً سنتان «ضروستان» ليستا بحاجة لتحريض داخلي أو خارجي لأنّ مبدأ الحاجة الى الفوز الانتخابي المرتقب لا بدّ ان يدفعهما الى النزال الداخلي من دون نسيان الخارج. فهل يؤدّي هذا النزال إلى إرباك سياسة ترامب الخارجية؟
هناك وجهتا نظر بهذا الخصوص واحدة ترى بأنّ ترامب ماضٍ بالتوجه الى «الأميركي» الأصلي أيّ «الأبيض» أولاً وقد يضمّ إليه «الأسود» بشكل يطمُس فيه الصراعات الطبقية والعرقية في الداخل مقابل الاستمرار في سياسة الرعونة في الخارج لجلب «الأموال المنهوبة» ووضعها في خدمة الناخب الأميركي نجم انتخابات 2020.
أما وجهة النظر الثانية فتجزمُ بأنّ «ترامب آخر» هو قيد الولادة بتأثير من نتائج هذه الانتخابات ويعتقد أنصار هذا الرأي أنّ الحزب الديمقراطي الممسك بالمجلس النيابي هو الأداة الرئيسية لسحب قسم كبير من جنون ترامب الداخلي والخارجي، وإذا كانت ميادين أميركا خلت لترامب ومن دون أيّ منافس طيلة العامين الماضيين ولم يتمكّن حزبه من المحافظة إلا على مجلس الشيوخ، فماذا هو فاعل مع عامين جديدين يحتويان على مجلس نواب مناهض له يمتلك إعلاماً وعلاقات عامة داخلية كبيرة ومتمتعاً بصداقات عالمية واسعة.
أليس بوسع الحزب الديمقراطي أن يؤسّس على الطبقة الوسطى كعادته وصديقته أوروبا والاستياء الروسي الصيني التركي الكوري والياباني من ترامب؟
لذلك قد يجد سيد البيت الأبيض نفسه ملزماً ببناء سياسات جديدة تقلص من صخبه الداخلي وجنونه العالمي، متبنّياً طريقة الديمقراطيين في السطو على العالم بأساليب دبلوماسية رشيقة ولائقة تحفظ «للمنهوبين» كرامتهم إعلامياً، فهل تتغيّر سياسات واشنطن في العالم العربي؟ حرب اليمن هي أكثر الحروب القابلة للتوقف بعد انكشاف مسألتين: مدى ديمومتها والتغطية الأميركية الكاملة لها ومع ربط هذين العاملين بالمراوحة السعودية الأميركية التي تواصل منذ سنوات ثلاث دكّ اليمن عسكرياً من دون نتيجة يُرجّح ان يضغط البيت الابيض نحو مفاوضات هدفها تقسيم اليمن أو التأسيس لهدنة طويلة الأمد على أساس الانقسامات الجغرافية والسياسية والعسكرية الحالية.
على المستوى السعودي قد يؤدّي تشدّد الديمقراطيين وبعض الشيوخ الجمهوريين الى إرغام ترامب على التخلي السريع عن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مقابل تغطية آل سعود.
أما لجهة سورية والعراق فإنّ تنوّعات الأميركيين متفقة على رفض التراجع الأميركي السريع وتعزيز الآليات الكردية وإطلاق تسمّيات أخرى للإرهاب السوري والعراقي وإعادة تعويمه مع منع انفجار الأزمة مع إيران إلى حرب لا أحد يعرف نتائجها أيّ العودة إلى تفاهمات أوباما مع طهران، فهل يُذعن ترامب لهذه السياسات الجديدة؟ الرجل مجنون وقد تتحوّل السنتان المقبلتان إلى الشاهد على مزيد من تراجع الامبراطورية الأميركية وإقرار نظام تعدّد الأقطاب.
|