هذه معادلة تُمسِكُ بتلابيب البلاد منذ اتفاق الطائف الذي حوّل لبنان منذ 1992 من إمارة طوائف بزعامة مذهب واحد الى ولايات مذاهب، يقودها مجلس الوزراء منصهرٌ في الولاءات الاقليمية والدولية والمشاريع الخاصة لأعضائه.
قبل هذه المرحلة، كان الاستتباع الاقليمي والدولي موجوداً، لكن القوى الداخلية كانت في بدايات تشكلها الداخلي، واسنادها الاقليمي والدولي لم يكن حاضراً بما فيه الكفاية.
لقد أدّت الحروب الأهلية ورحيل المنظمات الفلسطينية وسقوط النظام العربي العام الى ولادة معادلة سياسية لبنانية ترتكز على دعم أميركي سوري وسعودي بزعامة الحريرية السياسية، التي حاولت تقليد النموذج السعودي سياسياً واقتصادياً.
وسرعان ما تبين الفارق. فالفساد السعودي يطبق نظاماً اقتصادياً ريعياً لكنه يحتوي على امكانات لا تنضب مهما توغلت عائلته الحاكمة بالسطو على المقدرات العامة وتقديم قسم هام منها لتغطيتها الغربية.
كما أن الأهمية الاقتصادية الضخمة للسعودية عند الأميركيين فرضت عليهم الانتباه الشديد لمنع أي تحرك داخلي رافض لسياسة «سجن الناس في القرون الوسطى» باستعمال التأثير الديني لدعم العرش وفقط.
لذلك بدا واضحاً أن الحريرية تستعمل الأسلوب السعودي نفسه لتطبيقه على بلد لا إمكانات فيه، لتأسيس امارة بلبوس جمهوري، ما استدعى منها فتح المال العام لجذب بيئتها المذهبية اولاً وزعماء الطوائف الاخرى ثانياً، فتحوّل البلد ميداناً مفتوحاً لفساد غير مسبوق امتص دينامية مشاريع الإنماء ملتهماً معظم موازناتها وناهباً أموال الصفقات وموازنات الادارات العامة ذاهباً نحو حكم على الطريقة السعودية، بأمراء مذاهب على طريقة امراء الولايات السعودية يتمتعون بصلاحيات مطلقة على مناطقهم إنما في اطار من الولاء العام للحاكم الاكبر الملك او قائد الحريرية السياسية.
ان فشل الحريرية السياسية في خلق نموذج سعودي في لبنان سببه الفارق بين إمكانات لبنانية هزيلة اقتصادياً وثروات سعودية كونية، بالإضافة الى اسباب سياسية، تتجسد في حلف المقاومة من سورية الى اليمن فإيران والعراق الذي يجابه الحلف الأميركي السعودي الإسرائيلي. وكان طبيعياً ان يتجه للجم الدور السعودي في لبنان مهما حاول الاختباء خلف شعارات سطحية عن وحدة اللبنانيين فيما هو يطبق التحايل للتمكن.
لذلك تتجه للسقوط نظرية «الإنماء بالدين على قطاعات غير منتجة وفي بلد لا إنتاج فيه» إنما بعد دخول البلاد في صميم الانهيار الاقتصادي بدين عام يزيد عن المئة مليار، حتى أن المراهنة على الاموال الآتية من مؤتمر سيدر تشبه المراهن على قوس قزح، جميل من الخارج ومضيء، لكنه سرعان ما يتبدد، فالطبقة السياسية تجدد أنيابها للنهش لأن الغاز لن يدخل طور الاستثمار قريباً.
فتذهب أموال سيدر كأموال سابقاته، وتعود البلاد لتدخل أزمة سياسية عامة بأبعاد اقتصادية كارثية بحماية موازنة هشة لا تنتج شيئاً.
الخلل اذاً هو في صلب المعادلة التقليدية المطبقة في لبنان، فكيف يمكن لبلد ان يستمر بالإنفاق على بنى غير إنتاجية وبنظام دين لا يرحم ويرفض مناقشة توفير أموال تأتي من خارج رحم هذه المعادلة الشيطانية، التي لم تفعل إلا المزيد من إثراء الحاكمين حسب مكاناتهم السياسية والمذهبية.
السؤال هو كيف ننتج لتمويل الإنماء والإدارات؟
الموازنة الحالية لم تضمّد جراح اللبنانيين وأكدت اقتصادياً نظرية الإمارات المذهبية إنما مع شيء من «الريجيم» لتمرير المرحلة، فيما المطلوب إسقاط نهائي للإنماء بالدين على قطاعات غير منتجة وفي بلد لا إنتاج فيه، وهذا يقود الى البحث عن مصادر إنتاج، وذلك بضرب الفساد المعشعش في الجمارك والأملاك البحرية والمناقصات والمعابر والمطارات والمرافئ والتوظيف العشوائي. وهذا ما لم تقاربه هذه الطبقة السياسية لا من قريب ولا من بعيد.
أما الجزء الثاني فمرتبط بدراسة إمكانات لبنان التي تتطابق مع قدراته الإنتاجية، فهناك الغاز والنفط المرتقبين، وهذه وسائل تحتاج لهيئة وطنية عليا تدير هذه المرافق استثماراً وبيعاً في إطار الشفافية والعلنية.
وتضع العوائد المالية في إطار مشاريع وطنية كبيرة فيها اختصاصيون نزيهون يستثمرونها في إطار إنشاء بنى إنتاجية دائمة وسط مراقبة إدارية وشعبية.
هناك جانب آخر لتنشيط الإنتاج اللبناني، فلبنان بلد سياحي صيفاً وشتاءً بوسعه جذب العالم العربي بأسره الى ربوعه، لكن هذه الطبقة السياسية لوثت مياهه العزبة ودمرت كهرباءه ونشرت نفاياته في كل مكان وتركت طرقاته ومجمل بناه التحتية من دون صيانة او تجديد كما أنها لا توفرُ أمناً دائماً، فهرب السياح والمصطافون.
أما الجانب الفضائحي الذي لا يمكن لخبير اقتصادي تصديقه فيتعلق بمعاداة سورية وهي المنفذ البري الوحيد للبنان على الشرق العربي بأقسامه الأردنية والخليجية والعراقية.
لقد شاركت الحريرية السياسية مع تحالفاتها في القوات اللبنانية والحزب الاشتراكي، السياسة السعودية عداءها لسورية بطلب أميركي فأصبح لبنان الحريري الرسمي مع الأميركيين والخليجيين والإسرائيليين في خط معادٍ للدولة السورية.
ما انعكس ضرباً للوظيفة الاقتصادية بدءاً من الحدود المشتركة بين البلدين، وهذا دور يمنح لبنان فرصة التصدير الى الشرق العربي من خلال سورية وإعادة تنشيط مشاريع مشتركة معها والدخول في مشاريع إعادة إعمارها، بما يؤمن كما يقول الخبراء دخلاً دائماً لقطاع خدمات لبناني يشمل نصف السكان تقريباً منمياً أيضاً السياحة والاصطياف.
وهكذا فإن الحريرية السياسية لم تفلس لبنان فقط في مرحلة 1992 2018 لكنها تدفع نحو الاستمرار في تدجينه عبر قطع الحدود مع سورية.
هذا ما يشجع على اعتبار الموازنة الحالية استمراراً لسياسة اعتقال لبنان في السياسات السعودية بواسطة التضييق على اقتصاده والسماح لأمراء المذاهب بالمزيد من الفساد.
ويبقى الرهان كبيراً على القوى الوطنية لتأسيس نظام اقتصادي إنتاجي يُحررُ السياسة اللبنانية من التقليد السعودي والضغط الأميركي.
|