تتفاقم أزمة النظام السياسي في لبنان بشكل يفترض منطقياً واحداً من حلين: الانفجار الكبير أو التحديث السياسي لفتح كوة في جدار الانسداد الطائفي.
رئيس المجلس النيابي نبيه بري الخبير بأزمات لبنان وقسوة نظامه الطائفي الذي أصبح عاجزاً عن تلبية طموحات الطبقة السياسية والناس في آن معاً، طرح خياراً جاذباً طبّقتهُ دول الغرب وهي بلدان عبرت مراحل شبيهة بما نتعرّض له من استبداد وطائفية ودكتاتوريات وحروب أهلية.
فرنسا كانت السباقة لأنها شهدت أعنف حروب دموية بين الكاثوليك والبروتستانت أنهتها بطرح مفهوم العدالات الثلاث السياسية والاجتماعية والاقتصادية بما يعني حق كلّ فرنسي بالمساواة في التطوّر السياسي وتوزيع المال العام بما يخدم المجتمع.
وله حرية العبادة بواسطة أيّ دين يختاره إنما على قاعدة أن لا علاقة له بالسياسة ولا يؤثر عليها، وكانت هذه بداية الدولة المدنية المؤمنة بوجود سياسة ودين لا يتأثران ببعضهما البعض، لكنهما يعترفان ببعضهما.
هذا هو السائد في أوروبا اليوم التي تعتبر الدين وسيلة لعبادة الله وليست طريقة للسيطرة السياسية.
ولم تنجح محاولات الفكر الشيوعي والاشتراكي بإلغاء الدين حتى على مستوى العبادة ونجحت الدولة المدنية المعاصرة الى درجة الانتصار.
العالمان العربي والإسلامي ومنهما لبنان يعتبران أنّ الدين أساس السياسة، فماذا كانت النتيجة؟
احتكار طبقات سياسية للاقتصاد باسم الدين مع ممارسة ألعاب تحشيد طائفية يتبيّن أنها لا تفضي في النهاية إلا الى إلغاء المصالح الشعبية مع مزيد من هيمنة الطبقات الحاكمة.
لا شك في أنّ «الأستاذ» «النبيه» الذي اقترح تطور النظام نحو المدنية لاحظ انّ الدولة المدنية موجودة في البلدان المتطوّرة فقط مقابل التخلف السائد في الدول التي تستعمل الدين لإلغاء حقوق شعوبها وهي على حال بائس في التخلف.
لقد كان طبيعياً أن يرى الرئيس بري الحلّ في لبنان في إطار الدولة الوطنية لأنّ مراحل الدولة الطائفية جرى استهلاكها بالكامل، فبداية تأسيس لبنان بدعم غربي فرنسي مرتكزاً على هيمنة كاملة من طائفة واحدة على كامل الدولة بقطاعيها العام والخاص.
وتمكنت أحزاب الطوائف الأخرى الإسلامية بعد سلسلة نزاعات وحروب أهلية من تحويل الحكم تحاصصاً بين قيادات الطوائف من مختلف الأحجام والألوان والميول، ما فتح الحكم على أزمة صراعات خانقة وعنيفة بين قيادات طوائف تريد الاستئثار بكل شيء أو تحصيل مغانم أكثر من غيرها.
ونتيجة للميثاقية التي تمنع نصر طائفة على أخرى بالضربة القاضية اخترع الزعماء فكرة «التحاصص بالتسوية». وهذه أدت الى إفلاس اقتصادي لبناني قائم على فساد سياسي لا مثيل له في العالم، فأصبح الفساد أساساً مركزياً يتم بناء مؤسسات الدولة وإنفاقاتها على أساسه وليس العكس.
أما لجهة الأسباب التي خلخلت مبدأ التحاصص الطوائفي فتتعلق بمسائل عدة: إصرار التيار الوطني الحر على التعبير عن إمساكه برئاسة الجمهورية بضخ أكبر كمية ممكنة من الموظفين في ادارات الدولة، وهذا ليس اختصاصاً عونياً حصرياً لأن الأحزاب السنية والشيعية والدرزية فعلت الأمر نفسه في مراحل قوتها السياسية.
والسبب الثاني عدم وجود أموال كافية يمكن لأركان الطبقة السياسية إجراء محاصصات عليها. وهذا ما أدّى الى نشوب صراعات على ما تبقى من المغانم.
هناك سبب كامن يكشف عن وجود صفقة بين رئيس الحكومة سعد الحريري ووزير الخارجية جبران باسيل تقضي بأن يحكم الرجلان البلد في الأربع سنوات الباقية من ولاية الرئيس عون على أن يجري انتخاب باسيل رئيساً لولاية جديدة بعد عمه العماد ويبقى السعد رئيساً للحكومة.
تأتي هذه التطورات مع بدء حزب الله بالإمساك بدور سياسي لبناني أكبر تحت وطأة الانتقادات التي يتعرّض لها من جمهور المقاومة المحروم من الحدّ الأدنى من الاهتمام الرسمي، فالمقاومة ليست في النهاية مشروعاً لإفقار الناس، بقدر ما تعكس الإصرار على حمايتهم وتوفير أفضل فرص العيش لهم لتحصين مقاوماتهم.
في المقابل هناك عناد غربي سعودي يريد النيل من حزب الله بسبب أدواره المقاومة في سورية وتأثيره الثقافي في المنطقة.
ضمن هذه الأجواء أدرك النظام الطائفي حدّه الأقصى لأنّ الخلافات بين فئاته لم تعد على مغنم أو حصة، وتحوّلت الى صراع محاور دولية تتسربل بلبوس قوى لبنانية لا تمتلك حتى حرية حكّ رؤوسها من دون اذن سعودي او أميركي وربما أكثر، ما أنتج انسداداً كاملاً ليس بالإمكان معالجته داخلياً، محوّلاً التساهل من جهة حزب الله أمل وتحالفاتهما إصراراً على تحصيل حجم وزاري يعادل قوتهم الانتخابية.
هذا الانسحاق أمام الدور الخارجي المتواكب مع محاولات للسيطرة على أكبر كمية ممكنة من المقاعد الوزارية، لم تعد ممكنة معالجته بطرح حلول على مستوى التشكيل الحكومي والحقائب فقط، فحتى لو نجح المتحاورون من أركان نظام التحاصص بالتوصل الى حكومة جديدة فإنها قابلة للانفجار في كلّ لحظة لغياب البعد السياسي المتهادن بين قواها الأساسية، وتغليب مصلحة الخارج على الداخل.
هذه هي الأسباب التي أملت على الرئيس بري طرح فكرة الدولة المدنية التي يمكن لها ان تؤسّس بمؤسساتها غير الطائفية مجلس شيوخ يعكس التعدّدية الطائفية في لبنان وتاريخيتها مع مارونية الرئاسة لفرض الاطمئنان.
فبهذه الطريقة يجري انتقالٌ هادئ من مرحلة التحاصص الطائفي التي تلت هيمنة الموارنة وصولاً إلى الدولة المدنية صاحبة مشروع الدمج الهادئ بين فئات اللبنانيين لإنتاج مواطن متكامل على غرار ما حدث في الغرب.
فبذلك فقط يُصانُ لبنان بالتمهيد لتشكيل بنية اجتماعية متلاحمة تنتج طبقة سياسية مدنية تدير البلاد نحو التقدّم والازدهار والأمان.
|