المتفائلون بتشكيل الحكومة يراهنون على أن توازناتها المرتقبة بين ثلاثة محاور كبيرة من شأنها أن تنتج سياسات جديدة لمصلحة بلد ضعيف كلبنان، وتؤدي إلى إلغاء الاصطفافات الإقليمية المضرّة، وتعطيل الفساد السياسي.
مصدر هذا التفاؤل يبدأ من وجود ثلاثة محاور حكومية تراقب بعضها بعضاً، وتعرف أن الاستمرار في الربط بين مصالح قوى اقليمية محددة على حساب المصلحة اللبنانية وفي هذه المرحلة بالذات ينعكس فوراً على مستويين: تطيير الحكومة وضرب الاقتصاد الضعيف.
لا بدّ من الاشارة الى صدور سنوات حزينة جديدة، قد تراكم في مراحل متقدمة من كلفة الدين العام الى نحو ستة مليارات دولار سنويا!!!
ما العمل؟
أولاً لا بد من تقييد «دولة المصارف» التي يبدو أنها لا تعمل إلا من أجل البنوك الخاصة. والدليل الرفع المباغت للفائدة على سندات الخزينة الى أكثر من عشرة في المئة، وهذه الديون هي من هذه المصارف حصراً، أو المملوكة بمعظمها من رجال السياسة، الذين يملكون بدورهم محطات تلفزة وإذاعات وشركات داخلية وخارجية للاستيراد والتصدير، ويسطون أيضاً على موارد الكهرباء والنفايات والالتزامات ويفرضون خوات على القطاع الخاص المحلي والمغترب الراغب بالاستثمار في لبنان، ويسيطرون ايضاً على طوائف بأكملها يثيرونها عند الحاجة، ويردونها الى وطنيتها في اوقات قليلة.
فهل تستطيع هذه الحكومة لجم الانهيار المرتقب؟ يأملون من أموال مؤتمر «سيدر» أن تغطي الخسائر المتصاعدة وتسيطر على التراجع، ما يدفع إلى السؤال إذا كانت اموال «سيدر» هي الاولى التي يستدينها لبنان لمعالجة اقتصاده المتدهور؟ بالطبع لا، وإلا فمن أين أتت المئة مليار دولار من الديون المتراكمة على كاهل المواطنين والنافخة لجيوب السياسيين.
لذلك فمشكلة لبنان سياسية اولاً، ويبدأ حلها من اتفاق المكونات الحكومية الأساسية على بناء سياسات كبرى تهتم بعلاقات لبنان الخارجية، وسياسة الحكومة الداخلية، والربط بينهما بما يؤدي إلى إنعاش الاقتصاد اللبناني. وهذا ليس توجّهاً انتهازياً كما يعتقد البعض، بقدر ما يعكس اهتمام الدول بمصالح شعوبها، وبما أن البلدان متشابكة المصالح في الاستيراد والتصدير ولم تعد جُزُراَ نائية ومنفصلة. الأمر الذي يفرض علاقات واسعة بين السياسات والاقتصاد.
بناء على هذه المعطيات التي لم تكن مطبقة في لبنان إلا على مستوى الولاء للإقليم على اساس السمع والطاعة والاستفادة الحصرية للسياسيين بأبعاد طائفية واقتصادية خاصة جداً، يجب وفور تشكيل الحكومة، عقد خلوة سريعة للاتفاق على سياسات اقليمية جديدة تقصي كل من يتعارض مع مصالح لبنان وشعبه.
وتتعامل مع المستجدات في الاقليم بانفتاح جديد، فكيف نسمح لعمر البشير أن يسبقنا الى سورية، وهو الذي أرسل جيشه ليقاتل الى جانب القوات السعودية ـ الإماراتية في اليمن؟ فيما يتشدق سياسيونا بمهاجمة الرئيس الأسد بخفة عجيبة، معتبرين أن كل من يشارك في إعادة إعمارها انتهازي!!
إن التعويل على رسم سياسة كبرى للحكومة المرتقبة هام جداً، وتبدأ بالتفتيش عن مصادر نمو الاقتصاد اللبناني، والمعوّقات الداخلية والخارجية التي تحول دون استثمار ثروات لبنان من موارد الطاقة؟ فيتمّ التوصل السريع الى أن البلاد تنهض بمقدار نمو قطاع الخدمات القائم على الاستيراد والتصدير والسياحة والمصارف، وأموال المغتربين.
لا بد هنا من كشف أن الحرب في سورية أدت إلى ضرب كامل لقطاعات الاستيراد والتصدير والسياحة، فبقيت المصارف التي تحكم لبنان منذ تاريخه وتنكِّل بإمكاناته الاقتصادية وذلك بلعبة تواطؤ بين أهل الحكم الذين هم في الوقت نفسه سياسيو لبنان وأصحاب المصارف أو المستفيدون منهم..
إن عودة السياحة والاستيراد والتصدير وتسهيل الاستثمار أمام اموال المغتربين والبدء باستثمار الغاز يسقط دولة المصارف ويعيدها إلى دورها الطبيعي المطلوب. فلا تعود متحكمة بالعلاقة بين الدولة والمجتمع، وهذا يتطلب وجود شجاع آخر على شاكلة عمر البشير من لبنان يذهب بسيارته إلى دمشق ليفتح معابر الاستيراد والتصدير والسياحة، بانياً الظروف المؤاتية لإعادة نمو الطبقة الوسطى اللبنانية المترنحة والتي تتموضع على مقربة بسيطة من طبقة الفقراء.. ولولا زيادات الرواتب والاجور لكانت في قلب فئات الكادحين.
الطريق إلى سورية هي إذا مسالكنا إلى الأردن والعراق ودول الخليج.. وهذا لا يتطلب ولاء للسياسة السورية بل بناء علاقات حسنة تدفع شرور ساسة بلادنا عن دمشق، ولا تخشى العقاب السعودي، وهذه حلول لها فاعلية أكبر من مؤتمرات الاستدانة المرتبطة بالاصطفاف السياسي والمشجعة على الفساد.
اما المستوى الآخر فيتعلق بإعلان حرب على الفساد السياسي يبدأ من تشكيل هيئات رقابة مختلطة تشرف على كل الالتزامات التي يجب أن تكون بالمناقصات العلنية الشفافة فقط، بالاضافة إلى ضرورة إطلاق السياسيين أنفسهم لإنذارات المعاقبة القصوى للفساد الاداري على مستوى الانفاق الداخلي وابتزاز الناس.
ولإنتاج دولة تسحق الفاسدين السياسي والاداري يجب تشكيل قيادات نزيهة لأربعة مواقع أساسية، الجامعة والجيش والقضاء والإدارة.
وهكذا بامكان لبنان بتوازن قواه الحكومية ان يُعيد رسم اقتصاد ناجح قادر على انتاج الغاز وتسويقه لخدمة اللبنانيين وليس جيوب سياسييه واكياس الشركات الاجنبية، فلا يجوز أن نقبل بإرجاء إنتاج الغاز عندنا فيما «إسرائيل» بدأت بشحن غازها الى قبرص واوروبا، فلماذا تخضع لأوامر خارجية في هذا الشأن؟
ان هذا التفاؤل مبني على أساس التعاون بين التوازنات الحكومية، أما في حال تعذره فإن البلاد ذاهبة نحو أوضاع مزرية واضطربات اجتماعية غير مسبوقة بدأت ملامحها بالتظاهرات التي حدثت في الاسبوع الماضي.
لذلك فإسقاط دولة المصارف والتبعيات الإقليمية لم تعد ببعيدة، إذا تمكنت توازنات الحكومة من بناء سياسات لمصلحة اللبنانيين.. وكل اللبنانيين من استثناء.
|