اعتراف الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بأن العالم يشهد نهاية عصر الهيمنة الغربية جدير بالتحليل.
لأن الانهيارات التاريخية لا تحدث فجأة بل تجتاز مراحل وتطورات وتبدلات في السيطرة على المناطق الضعيفة والغنية بمواقفها وثرواتها.
هذا ما شهده العالم منذ انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 والذي حاول الأميركيون بعده إعادة تشكيل الدول لتوطيد هيمنتهم الأحادية وسط تعاون أوروبي غربي لافت مع الإقرار بحدوث اعتراضات من بلدان أوروبية إنما ليس للتخفيف من نظام الهيمنة الغربي، بل لتوسيع المحاصصة بين دوله.
السيد ماكرون هنا كان واضحاً عندما اعترف بأن النظام الدولي يتغير كلياً بصورة غير مسبوقة وفي جميع المجالات، كاشفاً ان الهيمنة الفرنسية البريطانية واخيراً الأميركية في القرون 18 و19 و20 تدهورت على الرغم من التعاون التاريخي بين دولها، لكنها ارتكبت الكثير من الأخطاء منها إبعاد روسيا عن أوروبا والتدخل في الكثير من الازمات، بشكل غير محترف كاشفاً أن روسيا والصين والهند هم أجزاء اساسية من النظام العالمي الجديد، لما حققوه من انجازات اقتصادية وسياسية وعسكرية، معترفاً بأن روسيا موجودة في كل النزاعات العالمية وتزحف نحو أفريقيا داعياً الى علاقات واسعة تحرر أوروبا من تداعيات استمرار الصراع الأميركي الروسي على أراضيها.
ماكرون اذاً، ادرك مسبقاً التحولات التاريخية المرتقبة محاولاً رسم خريطة جديدة لتموضعات بلاده في محاولة لتأمين دور صاعد لها. وهذا ما يفعلهُ الانجليز والالمان ومعظم الأوروبيين و»إسرائيل» وتركيا وبلدان كثيرة.
بناء عليه يخوض الأوروبيون مجابهات هذا التموضع الجديد محاولين تسهيل نظام عالمي غير محتربٍ يستند الى تفاهمات بين روسيا والصين وأميركا والهند بالتعاون مع فرنسا والمانيا، اي ما يشبه القيادة الجماعية المتعاونة برؤوس ثلاثة هي أميركا والصين وروسيا مع مشاركة نسبية للهند الصاعدة بسرعة وأوروبا التي تسعى للعودة الى الازدهار على اكتاف هذا الحلف الجديد.
السؤال هنا هو عن الظروف التي عجلت بالاعتراف الأوروبي بانتهاء هيمنة غربية عمرها ثلاثة قرون استباحت فيها ثروات العالم وإمكاناته ولم تأت بطيب خاطر بل بتحولات مختلفة.
لا شك في البداية أن العودة الروسية التدريجية الى الميدان العالمي وتموضعها في معظم الأزمات من أوكرانيا وفنزويلا وسورية وإيران مع بداية تسلل الى معظم أزمات العالم أنهكت الهيمنة الغربية.
ورفدتها الصين بانتشار اقتصادي عالمي استفاد من العولمة من ناحية ورخص سلعها من ناحية ثانية لاكستاح أسواق العالم. الصين اليوم هي الثانية عالمياً لكنها تتهيأ في اقل من عقد واحد لاندفاعة تحتل فيها مكانة القطب الاول، بدورها الهند الثانية عالمياً بعديد السكان تتوثب اقتصادياً. ويكفي هنا انها اصبحت تنتج ما يستهلكه الهنود وتتحضّر لاحتلال جزء من السوق العالمية بسلع مقبولة وبأسعار أقل من اسعار السلع الصينية.
إنها اذاً حرب الاقتصاد تندلع على مساحة العالم للسيطرة على ثلاثة ارباع سكان الارض هم مجمل طبقاته الفقيرة والوسطى. وهذا ما يجعل السلع الصينية والهندية قابلة للتسويق.
من جهتهم فهم الأميركيون هذا السياق محاولين تعطيله باجتياح الشرق الاوسط منذ احتلالهم لافغانستان في 2001 وحروبهم في العراق منذ التسعينيات وحصار إيران منذ 1980 محاولين تدمير دولتها بدعم حروب شنّها عليها الرئيس العراقي السابق صدام حسين لمدة تسع سنوات متواصلة وبتمويل سعودي خليجي انتهت باحتلال أميركي متواصل للعراق منذ 2003.
يتبين ان المحاولات الأميركية الأوروبية لحماية نظام الهيمنة الغربي الكوني أدرك ان ضبط الشرق الاوسط في «السجن الغربي» تحمي سيطرتهم المطلقة، لأنه مصدر معظم ثروات الطاقة من نفط وغاز ومركز أساسي للاستهلاك فبلدانه متخلفة وغير منتجة وقرون اوسطية تستخدم الرشى الاقتصادية والدين والقمع لحجز الناس في أنظمة ملكية توتاليتارية تشكل جزءاً من نظام غربي يحميها مقابل الاقتصاد.
انها اذاً إيران التي تجابه حتى الآن محاولات الغرب لتدمير دولتها وإعادتها الى السجن الغربي، ان نجاحها في الصمود عرقل خطط انعاش الهيمنة الغربية لأنها لم تكتفِ بالدفاع عن إيران، بل أحدثت خرقاً كبيراً في نظام السيطرة الغربي على الشرق الأوسط ببناء تحالفات مع جزء من افغانستان الذي يحتله الأميركيون وقسم من باكستان والهند الى اليمن حليفها القوي، والعراق الوازن وسورية ولبنان وغزة في فلسطين.
هذا ما أدّى الى عرقلة واضحة لجهود الغرب في ترميم هيمنته، خصوصاً أن الدور الإيراني أتاح لكل من روسيا والصين فرصة التطور فيما الغرب وكل الغرب منهمك في محاربة الجمهورية الإسلامية في إيران متسبباً بتقدم الهند وارتياب تركيا وذعر «إسرائيل» والسعودية من التغييرات الكبيرة في النظام العالمي الجديد.
فتحولت العرقلة اهتزازاً وبداية تصدع في المواقف بين الأميركيين والأوروبيين.
لقد اعتقد الأميركيون ان السيطرة على سورية بعد احتلالهم للعراق يحمي هيمنتهم في الشرق العربي من خلال إلغاء التأثير العراقي على الخليج. وضبط هذا البلد في السياسات الأميركية وتفتيت سورية على نحو يحمي «إسرائيل» والى الأبد فصالوا في سورية فاتحين ابواب الحدود التركية الأردنية والعراقية وحدود لبنان لمرحلة محدودة، لكل انواع الارهاب الدولي والتدخلات العسكرية الغربية بقيادة الجيش الأميركي والغارات الاسرائيلية والمخابرات الأردنية وبدعم مالي على مستوى التسليح والاستشارات والتحريض الإعلامي من السعودية والخليج.
لقد سقط ملايين الشهداء والقتلى في سورية في حروب كر وفر نجحت فيها الدولة السورية باكتساح مناطق الإرهاب حتى أصبحت تسيطر على ثلاثة أرباع البلاد.
فجاء هذا الدور السوري إجهاضاً مباشراً لمحاولات إنقاذ الهيمنة الغربية لأن تدمير سورية كان من شأنه الغاء القضية الفلسطينية والإمساك بلبنان والعراق واليمن وإضعاف إيران وفتح ابواب الشرق بكامله للسياسة الأميركية من خلال الخليج وتركيا.
هل سورية هي آخر المعارك لترميم الهيمنة الأميركية؟ إنها المعركة الأخيرة التي تؤرخ لسقوط الاستعمار الغربي. وهذا يمنح سورية والعراق ادواراً إقليمية متيحاً لإيران التموضع على مقربة من النظام العالمي وفي قلب الدور الإقليمي الأساسي.
وذلك، فالمعتقد أنه كان على ماكرون الفرنسي الاشارة بوضوح الى دوري سورية وإيران في زعزعة الجيوبوليتيك الأميركي، ويبدو أن الصين وروسيا هما اللتان تقدران هذين الدورين وذلك باستمرارهما بدعم إيران وسورية وعلى كل المستويات.
|