هذه المرحلة التاريخية لا تسمح بالفرار نحو منفرجات اللغة وكمائنها.. فلا تصدر موقفاً يحتمل السلب والإيجاب مع الكثير من أدوات الشرط.
هناك سقوط عربي شبه كامل في أحضان «إسرائيل» بضغط أميركي وعلى حساب الإلغاء الكامل لقضية فلسطين التاريخية، فتصبح بناء عليه، مجرد أرض ميعاد يعود اليها اليهود مؤسسين عليها دولتهم.. مقابل بحث أميركي وخليجي عربي من أهل الانحطاط، عن أماكن في دول عربية وأجنبية، تقبل بتوطين فلسطينيي الداخل والخارج.. وبذلك ننتهي من الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي تحوّل بعد انتصار «إسرائيل» صراعاً فلسطينياً ـ إسرائيلياً بدعم لغوي عربي.
الى أن انتهى حتى هذا النوع من الدعم الخطابي، بتبني وضعية جديدة تصبح فيها «إسرائيل» عضواً أساسياً في جامعة الدول العربية.. لذلك بدأ بعض العرب والمسلمين يفهمون الآن أسرار العداء العربي الخليجي لإيران وحزب الله. بما هما آليتان مجاهدتان ترفضان الاعتراف بالكيان الإسرائيلي الغاصب بديلاً من فلسطين 1967 والتاريخية، وهما أيضاً آخر مَنْ يُصرّ على تحرير فلسطين. ويكتشفون ايضاً أنّ ما أسماه عرب الانحطاط مشروعاً إيرانياً مجوسياً ليس إلا محاولة لإعفاء كلّ مَن يفكر بفلسطين وأهلها.. يكفي أنّ هؤلاء المتخاذلين يستهدفون حزب الله بفبركة اتهامات له بالإرهاب منذ ثلاثة عقود متواصلة، مُسقِطين كلّ أنواع الحياء حتى القليل منه، وذلك بوضع حزب الله على لوائح الإرهاب وهو الذي يقاتل الإرهاب بشراسة الشجعان في ميادين سورية، حتى أصبح نموذجاً يُحتذى به في ميادين اليمن والعراق وأنحاء كثيرة.
إنّ ما يفعله عرب الخليج اليوم لهو أخطر من وعد بلفور 1917 الذي أدّى إلى تبرير سيطرة اليهود على ثلاثة أرباع فلسطين بالقوة المسلحة.
وإذا كان وعد بلفور يسمح لشتات اليهود في العالم بالاستيلاء على معظم فلسطين في خمسين عاماً، 1917 ـ 1967 من نكسة بلفور إلى نكسة الحرب فإن ما يجري ينقُلُ «إسرائيل» من وضعية دولة في الشرق الأوسط الى مستوى دولة تقود العالم العربي.. وكيف لا تفعل وهناك خليج متواطئ إلى درجة إنكار عروبته وسودان مستعدّ لبيع آخر ثباته حتى يبقى عمر البشير رئيساً ومقرّباً له علاقات عميقة مع «إسرائيل» منذ تأسيسها.
أما مصر فَمُطَبّعةٌ مع العدو منذ السادات الذي أساء الى الصراع العربي ـ الإسرائيلي مسدّداً له ضربة قاتلة بصلح كامب ديفيد 1979 ـ لعلّ أقدر نتائج هذا الصلح انه أخرج مصر من الصراع العربي ـ الإسرائيلي من جهة مؤدّياً الى إضعاف مصر وإلغاء دورها من جهة ثانية.
وكذلك الأردن الذي انتقل من الصلح مع «إسرائيل» إلى التحالف العميق معها عسكرياً واقتصادياً.. لكنه يخشى من توطين فلسطينيّي الضفة والداخل 48 في أراضيه.. فيصبح الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين حسب مقتضيات المشروع الإسرائيلي الفعلي.
هل يمكن هنا نسيان السلطة الفلسطينية التي تبحث عن اتفاق فلسطيني ـ إسرائيلي أوسلو . لذلك فهذه عملية تطبيع على أساس اعتراف السلطة بإسرائيلية معظم فلسطين باستثناء الضفة الغربية وغزة عند الحدود التي كانتا عليهما في 1967 والقدس الشرقية عاصمة لهم.
لقد اعترف فلسطينيو السلطة بهذا الاتفاق ونفذوه، لكن «إسرائيل» اخترقته بتوطين يهود على نحو 30 في المئة من الضفة والتهام كامل القدس والتضييق على غزة.. وأصرّت على «يهودية» دولتها بما يدفع تلقائياً إلى طرد مليون ونصف المليون فلسطيني يعيشون في أراضي 1948 ـ أراضيهم التاريخية.
بذلك يزداد عدد المطبّعِين من مصر والأردن والسلطة وعُمان والسعودية والإمارات والبحرين والسودان والمغرب ومعظم العالم الإسلامي باستثناء إيران.
إنّ من يُمكنُ المراهنة عليه اليوم في ردع الاستسلام الكامل هي سلسلة دول معظمها مصاب بأزمات كبيرة لكنها ترفض الاستسلام للكيان الغاصب.
تمثل سورية رأس لائحة المجاهدين.. لديها حروب تاريخية مع الكيان الغاصب منذ ثلاثينيات القرن، عندما كان يذهب متطوّعون سوريون لقتال الميليشيات الصهيونية المغطاة من الاحتلال البريطاني على أراضي فلسطين.. ولا تزال سورية البلد الوحيد بين الدول المحاذية لفلسطين التي لم توقع على اتفاقية سلام مع «إسرائيل».
وتلقت 220 غارة إسرائيلية على مراكز جيشها السوري.. ولم تأبه او تستسلم للغايات الإسرائيلية الحقيقية وهي الصلح مع «إسرائيل».
وفي جذبها للاعتراف بـ »إسرائيل» على حساب فلسطين التي تشكل تاريخياً جزءاً بنيوياً من بلاد الشام.
أيّ أنه كان مطلوباً من سورية أن تتنازل عن «سوريّة» فلسطين وعروبتها وقداستها المسيحية والإسلامية في آن معاً.
العراق بدوره المنغمس وطنياً في قضية فلسطين لم يقترب من أيّ تطبيع مُصرّاً على أنّ «إسرائيل» عدوّ أساسي للعرب. لكن أرض الرافدين أنهكها الأميركيون باحتلال مباشر ودعم للإرهاب وإطلاق صراعات عرقية ودينية فيها.. ما أدّى إلى استنزاف امكانات هذا البلد القوي.. لكنه على المستوى السياسي لا يزال يعتبر فلسطين أرضاً عربية كاملة غير قابلة للمساومة.
يمكن أيضاً المراهنة على الجزائر الرافضة كلّ أنواع التطبيع والداعمة لحركات المقاومة الفلسطينية حتى الآن.. هذا بالإضافة إلى اليمن الذي لا يزال أنصار الله فيه يرون أنّ المؤامرة بدأت بفلسطين وتواصل انتشارها من خلال الأدوات «الإسرائيلية» في الخليج.
تشكل هذه الدول المذكورة أكثر من النصف الفاعل من العرب، ما يعني أنّ صفقة القرن التي انكسرت في الميدانين السوري والعراقي، يحاول الأميركيون تمريرها مجدّداً من خلال دول الخليج المتهاوية في مشاريعها الخاسرة في سورية والعراق واليمن ولبنان، وتحاول إعادة كسب الأميركيين بواسطة التحوّل أدوات للترويج لصفقة القرن بين العرب و»إسرائيل» وتبنيها على كلّ المستويات تمهيداً لإنشاء حلف عربي ـ إسرائيلي في مواجهة إيران وحزب الله.. فهم يتهمون الحزب ليس بالإرهاب فقط بل بالسيطرة «المعقولة» على لبنان.
فهل بإمكان السلطة الفلسطينية الإسهام في تدمير صفقة القرن؟ لا شك في أنّ لديها مصلحة بحماية سلطتها.. المهدّدة من قبل «إسرائيل» ووطنها في الضفة وغزة عند حدود 67 وتاريخها على تراب فلسطين المحتلة.. وأيّ خيار تتبنّاه يعني ضرورة مجابهة صفقة القرن.. إنما كيف وهي التي تمتلك إمكانات متواضعة والكثير من الألاعيب اللغوية..
يكفي أن تنظم السلطة مؤتمراً صحافياً مع كامل تنوّعات المقاومة في غزة والضفة ودول الشتات، تطالب فيه من العالم العربي حماية فلسطين العربية والمسيحية والإسلامية من خطر الاندثار نهائياً. وتصرّ على دول الخليج لوقف تراجعاتها وتستنهض العالم الإسلامي وأوروبا والصين وروسيا والفاتيكان والأزهر والكنائس الأرثوذكسية والمعابد البوذية، لمنع إلغاء فلسطين، كما تلجأ إلى خطوات عملية أهمّها قطع العلاقات مع «إسرائيل» وتجميدها مع واشنطن حتى تصحيح الخطأ وإعادة الضفة وغزة إلى حضن دولة واسعة على حدود 67 ولا تتنازل عن باقي فلسطين التاريخية.
هذا هو الحدّ الأدنى المطلوب لوقف إلغاء فلسطين. فهل تتجرأ السلطة على ذلك؟!
|