يتدحرج العراق بسرعة من أزمة تبدو سياسية في ظاهرها، الى قضية وطنية كبرى تهدّد بالتحوّل الى صراع مكشوف بين أقاليم عرقية ومذهبية.
هذا لا ينفي السمات الطبقية والسياسية للانتفاضة الشعبية التي تجتاح العراق منذ ثلاثة أشهر متواصلة في المناطق الجنوبية وبعض أنحاء العاصمة بغداد وجوارها.
ما يُشجّع على استيعاب أفضل لحركة جماهيرية عفوية ضاقت ذرعاً بالفساد السياسي الذي يدكّ أرض الرافدين منذ 2003 تقريباً ويحرم أهلها من المياه العذبة والبنى التحتية وفرص العمل والحياة الكريمة ويستوعب أكثر من ضرورة الفصل بين هذه الانتفاضات المحقة وبين انخراط سياسي فيها لا ينتمي اليها، إلا بالتحريض والعمل على تأجيجها لتصبح مبرراً لصراعات قد تؤدي الى تمزيق العراق الى اكثر من كانتونات.
وإلا كيف نفهم حركة رئيس الجمهورية برهم صالح الذي رفض تطبيق المادة 76 من الدستور العراقي التي تنصّ على تسليم الرئيس اسم المرشح لرئاسة مجلس الوزراء على أن يكون منبثقاً من الكتلة الأكبر في المجلس النيابي.
وبما أن الدوائر الدستورية أفتت بأن كتلة «البناء» التي يترأسها هادي العامري هي الأكبر، فكان لزاماً على الرئيس برهم صالح إعلان مرشحها اسعد العيداني رئيساً للحكومة ومكلفاً بتشكيلها.
لكنه وفي إطار مناورة لم يصدقها أحد، أعلن رفضه هذا التكليف، وهذا ليس من حقه الدستوري، مؤكداً في رسالة الى رئيس المجلس النيابي الحلبوس استعداده للاستقالة مستولداً بذلك نيراناً اضافية تزيد من حدة الاضطرابات التي أدّت حتى الآن الى نحو 500 قتيل وآلاف الجرحى، في تظاهرات مفتوحة اندس فيها مأجورون يطلقون النار على المتظاهرين والقوى الأمنية معاً، وتبين أن الفاعلين هم من بقايا حزب البعث التابع للرئيس السابق صدام حسين، ومندسّين محسوبين على الاخوان المسلمين وبعض الإماراتي، بالاضافة الى الدور الأميركي الواضح الذي يتدخل في العراق انطلاقاً من تسع قواعد عسكرية تنتشر من الحدود السورية وحتى أعالي كردستان.
ان كل الاطراف السياسية الإقليمية والدولية ذات صلة بالأزمة العراقية، وجدت فرصتها التاريخية السانحة لتتدخل ببعد وحيد وهو القضاء على بنى سياسية عراقية متحالفة مع ايران وسورية، هذا فضلاً عن قوى عراقية ككتلتي «سائرون والحكمة» التي تعتقد أن هذه التظاهرات قد تتيح لهما احتكار رئاسة مجلس الوزراء من المنافسين في حركة «البناء».
هناك ايضاً لاعب مهم وهو المرجعية الإسلامية العليا التي لا تمارس السياسة إلا من زاوية مصلحة عموم العراقيين وأمن البلاد.
لكنها لا تستطيع الولوج في لعبة اختيار الأسماء المناسبة، لما تشكله من ضرر بالإجماع العراقي حولها، لذلك نجدها مأزومة لكنها نجحت في دفع مجلس النواب الى الموافقة على قانون انتخابات جديد، وتضغط لإجراء انتخابات عاجلة لإعادة انتاج طبقة سياسية جديدة تتلاءم مع مطالب الانتفاضة الشعبية، وبذلك تكون المرجعية قد اسهمت في مشروع لحل الازمة الشعبية الداخلية ووضعت حداً لتدخلات القوى الداخلية التاريخية المهزومة وارتباطاتها الإقليمية والأميركية.
ويبدو أن القوى السياسية العراقية تفضل الدخول في معادلة تشكيل حكومة جديدة لتهرب من انتخابات تبدو نتائجها المرتقبة بأنها لمصلحة الانتفاضة الشعبية.
ضمن هذا السياق، يجب استيعاب ان ما فعله برهم صالح هو مزيد من تأزيم الأزمة لمصلحة إحداث فراغ دستوري في مجلس وزراء ينتج القرار في العراق، وممارسة لعبة التعطيل يندرج في إطار السياسات نفسها التي يلعبها الاميركيون في العراق، فكيف يمكن لبرهم أن يذهب هذا المنحى وهو الذي يعرف مدى ارتباط الإصلاح الداخلي بالصراع بين المكونات العرقية والمذهبية والاحتلال الاميركي والادوار الخليجية والتركية، كما يعرف ايضاً ان كردستان التي ينتمي اليها محكومة من آل البرزاني الذين ينهبون موازنتها ونفطها ويبيعونه لتركيا، وهو لا يجهل أن آل البرزاني يتحضّرون لاعلان استقلالية اقليمهم نسبياً وربما الى حدود الانفصال الكامل، لذلك فإن اعتكافه في كردستان يأتي مثابة تشجيع على التقسيم وتشجيع لقوى الوسط على انتهاج الأسلوب نفسه، وهنا يأتي فوراً مدى التأثير الأميركي على برهم وأمثاله.
هل هذا يعني ان الانتفاضة الشعبية ليست اصيلة؟ إنها اكثر من ذلك لأنها تأتي رداً على فساد سياسي تشكل القوى التي حكمت العراق منذ 2003، عمودها الرئيسي، وهي نفسها التي تشكل الغالبية النيابية وتتحالف مع إيران التي لا علاقة لها بهذا الفساد.
ما هو المطلوب اذاً؟ ليس معقولاً أن تتقدم كتلة البناء بترشيح أسعد العبداني محافظ مدينة البصرة المحرومة من أبسط أنواع الخدمات العامة، حتى من مياه الشرب، ويوجد فيها أعلى نسبة بطالة وفساد، فجاء هذا الترشيح ليشكل تحدياً للمتظاهرين الذين يشكل أهالي الجنوب نحو 90 بالمئة منه، وعاصمتهم البصرة التي تحوّلت في الخمس عشر عاماً الاخيرة أرضاً يباساً جافة تحتاج الى كل شيء وتحتجب ويعمها فقر غير مسبوق. العراق الى أين؟ نصيحة المرجعية بالانتخابات العاجلة ضرورة، على أن يليها تشكيل للحكومة وفق ترشيح من تختارها لكتلة الأكبر، واستعادة الممكن من الاموال المنهوبة، بذلك يجري تجديد الطبقة السياسية التي يجب أن تحكم العراق ببرنامج عمل عنوانه إنقاذ أرض الرافدين من الفقر المدقع والاحتلال الأميركي
|