يخرقُ النظام السياسي اللبناني المفهوم الحديث للعمل السياسي الذي ينتج عادة موالاة تحكم ومعارضة تراقبها، فاخترع معادلة جديدة تستطيع فيها القوى نفسها ان توالي الدولة وتعارضها في آن معاً. وتواصل الاشتراك في الحكومة وهي تعلن رفضها لبرنامج عملها من دون ايّ اعتراض او تذمّر من أحد.
لذلك لا يندهش أحدٌ في لبنان لمرأى نواب تابعين لأحزاب ممثلة في الحكومة، وهم يهاجمونها بكلّ ما توافر لهم من معلومات وذرائع وافتراءات في معظم الأحيان ويحجبون عنها ثقة لا تعطل استمرار رفاقهم الوزراء في الحكومة.
هذا لا يحدث إلا في لبنان فقط، ولا يثير استغراب أحد، كما أنه لا يدفع لمطالبة هذه الأحزاب بالانسحاب من الحكومة، باعتبار انه طلب غير قابل للتطبيق.
أما المنظر الأكثر بشاعة والمنقول تلفزيونياً لإقناع الجمهور بالعمل الديمقراطي في المؤسسات الدستورية، فهو منظر مجلس النواب وهو شبه فارغ من نواب يملأون المعابر والردهات والزوايا الخارجية تاركين المناقشات الرسمية، فيبدو الخطيب الذي يتكلم أمام العشرات فقط من أصل 128 نائباً يصرخ في برية موحشة، هذا بالإضافة الى أنّ معظم الحاضرين ساهون وبعضهم يكبو ويغفو أو غير مبالٍ بما يجري.
هنا يسارع البعض الى استحضار الضرورات الوطنية التي ترغم أحياناً القوى بكاملها على تشكيل حكومات توافقية تحتوي على موالاة ومعارضة سوية ينفذون فيها برنامجاً إنقاذياً لمجابهة مرحلة صعبة والمفترض أنّ احتواء المخاطر يعيد الوضع الى سابق عهده من موالاة ومعارضة، الأولى تحكم والثانية تراقبها.
فهل هذا ما يجري في لبنان؟
المعروف أنّ الحكومة هي الأداة الدستورية التنفيذية ويشكلها عادة فريق سياسي ربح الانتخابات وفق برنامج عمل.
في المقابل تنتصب معارضة لم تربح غالبية الأصوات فتؤدّي دور رقيب يتابع أعمال الحكومة ويتربّص بها اذا خالفت وتعثرت. فتحاسبها تشريعياً وتنقل الخلاف الى وسائل الإعلام.
انّ دور الرقابة لا يقلُ أهمية عن دور الممسكين بالسلطة، لأنه اما ان يؤدي الى استقامتها ونزاهتها او الى إسقاطها.
هذا هو المعمول به على النمط الغربي لمفهوم العمل السياسي، أما في لبنان فتضمّ الحكومة معظم القوى الأساسية بمعادلتين حاضنتين: تمثيل الطوائف غير القابل للانتقاص. وهذا لا نقاش فيه لأنه دستوري وميثاقي، لكن المعادلة الثانية العرفية فقط، ترغم الجميع على تحقيق ائتلاف بين الأحزاب الأقوى في مذاهبهم من بين التي ربحت الانتخابات مع التركيز على ضمّ جميع القوى الممكنة الى الحكومة.
للتوضيح فإنّ انتخابات لبنان تجري على أساس مذهبي طائفي من جهة أيّ لا علاقة له بالتنافس بين مواطنين لبنانيين وتدور بشكل ديمقراطي في الصراع الانتخابي إنما داخل كل مذهب على حدة.
بهذه الطريقة يتمّ إنتاج الموالاة والمعارضة، ويتحالف المنتصرون من المذاهب والطوائف في ما بينهم تاركين كتلاً محدودة خارج الحكومة، وهنا تكمن اللعبة، فعندما يشعر مشاركون في الحكومة انّ ائتلافات داخلية فيها استبعدتهم عن التحاصص والمنافع يلجأون إلى المعارضة مخترعين أسبابهم الوطنية التي لا تظهر إلا عند إبعادهم عن الانتفاع الداخلي.
والأغرب هو بقاؤهم في الحكومة، فكيف يصدقهم مواطن يراهم داخل الحكومة بالموالاة وخارجها بالمعارضة في انفصام سياسي غريب لا يحدث إلا في بلد العجائب لبنان.
أليس هذا ما يفعله حزب القوات اللبنانية والتيار الجنبلاطي وآخرون في المناقشات في مجلس النواب التي تصيب متابعيها التلفزيونيين بنوبات ضحك وقهقهة.
كيف يبرّر هؤلاء تناقض سياساتهم؟
يقولون بكلّ بساطة إنّ تمثيلهم في الحكومة له علاقة بالتوازنات داخل مذاهبهم وهذه ثابتة لا يتخلون عنها، لأنها تؤدّي بذلك الى احتكار منافسيهم في مذاهبهم للتمثيل الحكومي حصرياً.
أما أداؤهم السياسي في الحكومة فيرتبط بمصالحهم السياسية وبناء عليه فهم يوالون ويعارضون على «القطعة» او بهجمات دائمة ومفتوحة على منافسهم المذهبي. أليس هذا ما يفعله حزب القوات المعترض دائماً على أداء التيار الوطني الحر والدليل انّ هناك تسوية بين هذا التيار ورئيس الحكومة سعد الحريري تقضي بمشاركتهما في كلّ عمليات الانتفاع الحكومي. هنا تنكشف المسألة فحزب القوات يهاجم التيار الوطني الحر ولا يقترب من رئيس الحكومة لأنّ العونيين طرف مسيحي قوي يجسد الاستمرار في صعوده السياسي خطراً على حزب القوات المسيحي أيضاً.
ألسنا في بلد العجائب الذي تكشف السياسة فيه انّ المواطن يحتلّ آخر اهتمامات الدولة وأحزابها، فما يجري ليس أكثر من صراع بين قوى حكومية تريد الاستئثار أولاً بمركز القوة داخل مذاهبها وثانياً بتحالف القوة مع المراكز المذهبية والطائفية الأخرى.
وفيما يتابع المواطن المناقشات التلفزيونية بيأس كبير من حكومة مماثلة تواصل قوى هذه الأخيرة الصراع للاستحواذ على حركة الإنفاق في محاولات متواصلة لوضعه في خدمة هيمنتها وسط ضجيج حرب إقليمية وصلت الى لبنان وهدير طائرات حربية إسرائيلية تخترق أجواء الجنوب وتهاجم سورية على وقع صراخ وزراء ونواب مصابين بعمى الاحتكارات والجري وراء النفوذ والفساد.
|