الانسداد الكامل في تشكيل حكومة جديدة بما هي المؤسسة التنفيذية الأساسية في البلاد، واعتكاف سعد الحريري المكلف بالتشكيل في إطار مدة محددة.
هي أمور تكشف عن وجود فراغ سياسي خطير يضع البلاد أمام أزمات اقتصادية سياسية وأمنية متلاحقة، لا أحد يعرف معدلاتها الحقيقية، لكنها بالحد الأدنى تكشف البلاد أمام عودة محتملة للإرهاب وتفتح أزمة دستورية عميقة لا حل لها الا باجتراح تعديلات دستورية موازية تشبه ما حدث في مؤتمر الطائف الذي أعاد توزيع السلطات استناداً الى اعتراف نسبي بما استجدّ آنذاك في موازين القوى بين الطوائف إنما على قاعدة ميثاقية، فجرى إيلاء القوة الدستورية بمجلس الوزراء «مجتمعاً» وذلك بعد سحبها من صلاحيات رئاسة الجمهورية التي أصبحت كملك انجلترا يملك ولا يحكم الا على المستوى البروتوكولي.
إن ما جعل هذه القاعدة قابلة للتغيير هو الرئيس ميشال عون الذي صعد في السياسة اللبنانية بشبه إجماع مسيحي، أمّن له قوة شعبية وازنة استطاع بموجبها العودة الى المشاركة القوية في إنتاج القرار الى جانب رئيس مجلس الوزراء فوضع حداً لتراجع الدور الرسمي المسيحي الذي كان من إنتاج سلسلة من رؤساء جمهورية مسيحيين كانت تأتي بهم التسويات الإقليمية والدولية والداخلية، وميزتهم أنهم ضعفاء لا يمثلون أحداً ويجدون أنفسهم مضطرين الى التموضع خلف مجلس الوزراء ورئاسته الحريرية.
أدّى صعود الجنرال عون الى اعادة الدور المسيحي الى القرار السياسي والدستوري، لكن الحريرية السياسية المتكئة على السعودية بذلت ما في وسعها لعرقلة صعود الرئيس، ولأن هذا الأخير مدعوم من خط حزب الله وحلفائه تمكّن من المجابهة وتحصيل قدر كبير من الصلاحيات والتسويات، إنما على حساب إرجاء تشكيل حكومة جديدة، لا يزال الحريري يحاول تشكيلها منذ ستة أشهر. لقد اعتقد الرئيس المكلف ان اقتساماً للحكومة مع رئيس الجمهورية كفيل بتشكيلها وربما راودت رئيس الجمهورية ايضاً هذه القناعة الغريبة وتناسى هؤلاء أن هناك قوى لبنانية تعملقت في ميادين سورية والعراق وبنت جمهوراً واسعاً لها في لبنان مع تحالفات وطنية كبرى.
وإذا كانت هذه القوى تميل الى التخلي عن قسم مما هو لها في محاصصات النظام السياسي لضرورات التفرغ للإقليم، فإن الأمر أصبح متعذراً في الوقت الحالي. فهناك انتصار كبير أنجزته في وجه الارهاب والفنوذ الاميركي بما يؤدي لحاجتها المتزايدة الى «حماية سياسية» كبيرة في مؤسسات النظام السياسي اللبناني على مستوى مجلس النواب والحكومة. وهي حماية «ذات طابع وطني» ولا تقتصر على ما يسمح لها به النظام الميثاقي المذهبي.
فحزب الله ومعه الأحزاب الوطنية والقومية لم يقاتلوا في سورية من أجل مذاهب شيعية أو سنية أو مسيحية بل استبسلوا للدفاع عن السوريين واللبنانيين بكامل تنوّعاتهم الطائفية والعرقية، فكيف يقبلون بسجون مذهبية تُقلصُ ادوارهم الوطنية والقومية التي صنعوها بدماء مقاتليهم وتلك الانتصارات التي أنجزوها من البوكمال إلى الشمال السوري فجبال عرسال في شرق لبنان، ولا يمكن نسيان صراع المقاومة المفتوح للعدو الإسرائيلي منذ 1982 الذي تكلل بانتصار 2000 و2006 وهو صراع مفتوح تؤكد هذه المعطيات على عجز حزب الله عن الانضباط في إطار مذهبي وهو صاحب مشروع مجابهة النفوذ الأميركي الإسرائيلي في بلاد الشام والعراق واليمن، خصوصاً في عرينه اللبناني.
لذلك وفي أضعف الإيمان كان على المقاومة أن تؤيد كامل أجنحتها ومن كل الطوائف في مسألة الانخراط في الحكومة الجديدة استناداً إلى ما أفرزته الانتخابات النيابية الأخيرة.
وبما أن حزب الله لا يستطيع نسف كامل البنية الطائفية للنظام السياسي، حرصاً على الاستقرار الداخلي فقبِل بما أفرزته الانتخابات الى ان ذهب الحريري نحو تمثيل المسيحيين بالقوى الأساسية التي نجحت وهي التيار الوطني وحزب القوات وتيار المردة والأرمن وممثل عن الأقليات، حسب أحجامهم النيابية وانتماءاتهم المتناقضة ذاهباً نحو تمثيل كتلتي الدروز الجنبلاطية والارسلانية المتناقضين بدوريهما.
وعندما أراد تمثيل الشيعة في حكومته وجد أن فريقي حركة امل وحزب الله يمسكان بكامل المقاعد الشيعية الـ 27 فحصر التمثيل الشيعي الحكومي بهما، كما فعل مع القوى الأخرى.
وعندما ادرك ملف التمثيل السني الحكومي أراد حصره بحزبه المستقبل، علماً ان النتائج اعطت ما يلي: حزب المستقبل 16 نائباً مقابل 11 نائباً سنياً نجحوا على لوائح منافسة له، ومعظمهم من حلفاء حزب الله وحركة أمل فارتأى عدم اشراك كل النواب السنة الذين لا ينتمون الى حزبه مقدّماً أسباباً واهية ومحاولاً اعادة حشد عصبيته المتهالكة بإعادة تأجيج الفتنة السنية الشيعية، وذلك باتهام هؤلاء النواب السنة بأنهم من أنصار حزب الله.
هذا ما أنتج اعتكافاً حريرياً وفراغاً سياسياً وبالتالي أزمة نظام خطيرة تدقّ بعنف لتفتح الباب أمام ازمة دستور خانقة واحتمالات تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية.
ما العمل اذاً؟
هناك تباين كبير في أحجام القوى اللبنانية الحزبية وتوجهاتها السياسية ما يتطلب إصلاحاً دستورياً موازياً يخففُ من غلواء الطائفية ويرفع من التفاعلات المدنية.
فمشروع المقاومة وطني بامتياز والنواب السنة المستقلون وطنيون أيضاً الى جانب الأحزاب: السوري القومي الاجتماعي والبعث والشيوعي. وهذه بحاجة لوضعية دستورية تستند إليها في توجّهها الى الناس.
لذلك فإن الحل في «طائفٍ جديد» يستند الى اقليمية حزب الله ووطنية حلفائه وأدوارهما في الدفاع عن كامل لبنان، فكيف يمكن لأحزاب ولي العهد السعودي محمد بن سلمان الإسلامية والمسيحية ان تحكم البلد وترك سنة وطنيين في الزاوية وتتم محاصرة أحزاب وطنية مشكلتها انها لا تؤمن بالطائفية!
نعم لبنان نحو طائف جديد، استناداً الى موازين القوى التي لم تعد لمصلحة القوى الطائفية، مهما تنازلت الحريرية أو رئاسة الجمهورية عن مقاعد وزارية. فالمطلوب إصلاح مؤسسات النظام تدريجياً على القاعدة الوطنية وليس على مزيد من تعميق الانقسامات العمودية بين ابنائه.
|