التناقض السعودي التركي يتصاعد في كلّ مكان تقريباً عاكساً الصراع العميق بين دولتيهما على زعامة العالم السني، فأردوغان يرى في بلاده وريثة الامبراطورية العثمانية ومؤهّلة لقيادة الشرق الأوسط وربما أكثر، بينما يعتقد آل سعود أنهم أوْلى بهذه المهام لإدارتهم للحرمين الشريفين والثروات البترولية الضخمة، بالاضافة الى أن الدول المراد استتباعها هي عربية مثل مملكتهم.
لذلك يتجلى هذا الصراع بوضوح في اليمن وليبيا والعراق وتونس وسورية ومصر والسودان. أردوغان يدعم فيه الاخوان المسلمين والقاعدة والنصرة فيما يساند آل سعود بعض الأنظمة وأنواعاً مختلفة من داعش ومثيلاتها وتنظيم الإسلام الإرهابي.
لكن قتالهما الأكبر يتصاعد في قطر مشكلاً حلفاً سعودياً خليجياً مصرياً وأردنياً في مواجهة حلف تركي قطري مسنودٍ بالجغرافيا الإيرانية. فطهران لا ترغب بقوة خليجية متحالفة تُعاديها بالتمحور حول السعودية الجانحة بقوة نحو «إسرائيل»، لذلك يعكس الحصار السعودي حول قطر تفاقم التنافس السعودي التركي، ولولا الإصرار الأميركي على حظر التصعيد العسكري بين المحورين لاندلعت بينهما حروب على مسرح شبه جزيرة العرب.
أما أسباب عدم الاهتمام النسبي من الإعلام بعرض النماذج شبه اليومية للصراع العربي التركي فسببه أصحاب هذا الإعلام الأميركي الخليجي الأوروبي الذين يريدون توجيه بوصلة العداء الآن نحو إيران بشكل دائم وأنقرة عند اللزوم فقط وفي الحالات الضيقة. فما أن يتصاعد تعارض تركي مع الأميركيين أو الأوروبيين حتى ينقل هذا الإعلام بعض نماذجه مرة أو مرتين ويصمت مقابل تغطية مفبركة في كل دقيقة لأحداث عن إيران تشمل حتى تحرّك نسائها في المطابخ، ومعظمها مفبرك أو متعامل مع وقائعه بما يخدم السياسة الغربية الخليجية، إلا أن هذا العداء الخليجي المصري المشترك للأتراك لا يشمل كل العناوين. هناك مثلاً استفادة تركية من معاداة الخليج للدول العربية في العراق وسورية فيبنون عليها كل تحركاتهم العسكرية داخل هذين البلدين، مستندين الى خلافات عربية مع سورية والعراق.
كما يعتمدون على أسلوب تعميق هذه الخلافات العربية العربية بافتعال صراعات مذهبية إضافية بين السنة والشيعة، لا يتنازلون عنها مطلقاً، لأنها تشكل الاساس التبريري لاجتياحاتهم لمناطق في سورية والعراق ودعمهم لمنظمات إرهابية وتركمانية فيهما.
لذلك ومنذ اليوم الأول لبدء التراجع الأميركي في سورية المترافق مع عودة بعض السفارات العربية الى دمشق، أُصيب الاتراك بجنون وابتدأ إعلامهم بعرض تقارير مزورة ومقبركة عن مقتل مليون سني سوري ومليوني سني عراقي على إيدي «النظامين الشيعيين» في سورية والعراق.
وفعلوا الأمر نفسه بدعم الاخوان المسلمين في تونس مرسلين لهم السلاح والمال، وكذلك في اليمن مع حزب الاتحاد «واخوان» تونس والسودان، ناشرين أوسع حركة عثمانية في العالم العربي منذ رحيلهم عنه في 1917.
إنه جنون «التقليد التاريخي» الذي يتجاهل تغير المعطيات. فالعرب في مرحلة الدولة العثمانية كانوا قبائل وعشائر استكانوا للأتراك لحملهم راية الخلافة الإسلامية وتبينوا في ما بعد ان هؤلاء لا علاقة لهم بنظام خلافة كان يستند الى الشورى في اختيار الحاكم وليس الديكتاتورية من عائلة واحدة هي آل عثمان الذين ارتكبوا من المجازر في المناطق العربية أكثر مما فعله بهم الاحتلال الأوروبي المتعاقب.
هناك اذاً خلاف عربي تركي على كل شيء تقريباً على الرغم من انتماء الفريقين الى الحلف الاميركي نفسه.
لجهة تبدّل المعطيات يكفي القول إن هناك قوى عظمى في روسيا واميركا لا تقبل بالدور العثماني الى جانب سورية التي أفهمتهم باللغة العسكرية استحالة بعث العثمانية القديمة وكذلك العراق الذي يتجه إلى طردهم من أراضيه.
هذه جزء من نقاط الخلافات الخليجية التركية، فأين يتفقون إذاً؟
هناك نحو خمسة ملايين نازح سوري يتوزّعون على مليونين في تركيا ومليون ونصف في الأردن ومثلهم في لبنان إلى جانب نحو أربعة ملايين نازح في الداخل السوري تدمّرت مناطقهم، هذا دون احتساب نحو مليوني سوري انتقلوا الى اميركا وأوروبا وأستراليا وكندا ويعملون هناك.
أدّى هذا النزوح الكبير الى ولادة استراتيجية اميركية تركية تعتبر أنه من الممكن الاستفادة من هذا النزوح الكبير في المفاوضات الاخيرة للأزمة السورية. تقوم هذه الاستراتيجية على الاستمرار في التضييق الغذائي التمويلي على هذا العدد الكبير من المهاجرين ومواصلة ضخ معلومات إعلامية وتحشيدية بينهم تزعم أن الدولة لا تريدهم أن يعودوا إليها، اما اذا أصروا على العودة فيقوم مندوبو الأمم المتحدة بالكذب عليهم زاعمين ان النظام السوري قد يقتلهم أو ان منازلهم مدمرة، مؤكدين لهم ان لا اعمال في سورية ليعتاشوا منها.
تبدو هذه السياسة في إصرار القوى اللبنانية المحسوبة على الخليج والأميركيين بالتمسك بالنازحين، كذلك تركيا التي تسعى بقوة لمنع عودة أي لاجئ فتعدهم بمناطق آمنة في شمال سورية فيها بنيان جديد وطعام وعمل كما يسعى الأردن للإبقاء على أكبر عدد منهم وهو البلد الفقير الذي لا يمتلك ما يساعدهم به.
يتبين أن القوى السياسية المحسوبة على السياسة الأميركية لا تريد عودة النازحين لمنع الدولة السورية من تأمين استقرارها الاجتماعي، فيبدو التآمر الأميركي واضحاً، هناك إصرار على استخدام أصوات النازحين السوريين في الانتخابات السورية الرئاسية التالية على الاتفاق السياسي للحل النهائي.
فإذا كان العرب والأتراك مختلفون على كل المواضيع فلماذا يتفقون على منع النازحين من العودة؟
المستفيدان الوحيدان هما اصحاب المشاريع الإقليمية الأميركيون والأتراك أما العرب فكعادتهم هم مجرد أدوات لتحقيق طموحات القوى الكبرى والإقليمية.
فهل يستيقظون من سباتهم؟ الاجابة ليست صعبة، لكن الاعلان عنها قد يتأخر الى ما بعد انعقاد مؤتمر مؤتمر وارسو الشهر المقبل الذي لن يؤدي إلا الى إضافة خيبة جديدة على الخيبات العربية التاريخية.
|