الخطاب الأخير لوزير الخارجية الأميركي مارك بومبيو من مصر، يندرج في إطار البيانات التاريخية التي ترسم عادة سياسات الدول لعقود متواصلة، وتجسّد مشروعها الكوني ربطاً بعناصر قوتها وإمكانات المنافسين لها.
لذلك بدا الخطاب إعلاناً بالقطع مع مرحلتين أميركيتين: الثنائية مع الاتحاد السوفياتي التي انتهت بانهيار الأخير في 1989 وبدايات وهنه الظاهرة منذ مطلع الثمانينيات في القرن الماضي.
أما المرحلة الثانية فعكست سيطرة أميركية كاملة على العالم من دون أيّ نوع من المنافسات الدولية، واستمرّت منذ 1990 وحتى خطاب بومبيو في 2019 مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ الإمبراطورية الأميركية الثابتة بدأت بالترنّح منذ سنوات عدة وفي ميادين سورية والعراق واليمن.
للتمييز فقط بين مكوّنات المراحل الثلاث، فإنّ الأولى تضمّنت أسلوب تنظيم التنافس الأميركي ـ السوفياتي على أساس منع تحوّله حروباً نووية وعلى نظام الحرب الباردة التي يحق فيها لكلّ من الطرفين محاولات جذب حلفاء بأساليب تنافسية مدنية وعسكرية، لكنها تتغطى بقوى محلية في مواضع التنافس.
لجهة المرحلة الثانية، فجسّدت صعود هيمنة أميركية كاملة على العالم طغى عليها الأسلوب العسكري في الاحتلال المباشر للدول في أميركا الجنوبية وآسيا الوسطى والشرق الأوسط… حتى أنّ هذه الأحادية بدت مستعجلة لبناء كيانات سياسية نابعة بشكل مطلق وقبل استيقاظ الدول الكبرى المتراجعة.. أليس هذا ما حاول الأميركيون إنجازه في الشرق الأوسط وأفغانستان وأميركا الجنوبية؟
بيد أنّ صحوة روسيا والصين وإيران والحلف السوري مع حزب الله، أدّت إلى زعزعة الأحادية الأميركية، ودفعتها للتفكير في بناء استراتيجية جديدة تُعيد إنتاج أدوارها العالمية على أساس التقاسم مع القوى الصاعدة، وأبعاد الطامحين غير المتمكّنين.
ضمن هذه المعطيات المنطقية يمكن القول إنّ خطاب بومبيو في الجامعة الأميركية في القاهرة هو شبه اعتراف كامن في التفاصيل بانتهاء المرحلة الثانية من الدور العالمي الأميركي الذي كان يضغط لتحويل العالم بأسره الى مراكز لتعميم البحبوحة الدائمة للنظام الاقتصادي الأميركي بالقوة العسكرية وليس بنمط الحرب الباردة لما كان في المرحلة الثنائية مع الاتحاد السوفياتي.
ماذا عن المرحلة الحالية الجديدة؟
يتضمّن خطاب وزير الخارجية الأميركي «العنوان التحشيدي» الذي يجري عادة على أساسه، جمع الحلفاء… بشكل مشابه لعناوين الحملات الاستعمارية الأميركية منذ القرن الثامن عشر وحتى اليوم من نشر «الحضارة» و»الديمقراطية» إلى محاربة «الإرهاب» و»الفكر النازي والفاشي»…
بالنسبة إلى البيت الأبيض فإنّ إيران تجمع «الإرهاب والدكتاتورية» الدينية في بناء عقائدي واحد.. في حين أنّ الحقيقة موجودة في مكان آخر، وهي رغبة الأميركيين في جذب عشرات الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط المرعوبة من النموذج السياسي الإيراني الجامع بين ميزتين، الإسلام والتقدّم السياسي والعلمي، والمتحالف مع بلدان كثيرة في العالم الإسلامي… لذلك اعتبر الأميركيون انّ بإمكانهم تثبيت معظم البلدان الإسلامية والعربية في خندق العداء لإيران بأسلوب الترهيب نموذجاً وخلق شعارات الفتنة الشيعية ـ السنية، أو العربية ـ الفارسية…
لكن هذا الأسلوب يُخفي قبولاً أميركياً بالدور الروسي في سورية، وبالتالي في الشرق الأوسط. وقد يحتوي على إقرار بدور صيني لم يذكره الخطاب مباشرة، بل أكدته الاتفاقات الأميركية ـ الصينية الأخيرة على تنظيم المنافسات التجارية بين البلدين، في العالم بأسره.
بالإمكان أيضاً قراءة الأساليب التي اعتبر بومبيو أنها تؤدّي الى بناء الاستراتيجية، وهذه بمفردها تكشف عن انتقال أميركي لمرحلة جديدة، ليست إحساناً ومنة من السياسة الأميركية بقدر تجسيدها لموازنات القوى الأساسية في العالم وتفرّعاتها الإقليمية.
لقد ركز بومبيو على أساليب المجابهات الدبلوماسية، متجاهلاً أسلوب القوة العسكرية إلا في بعض الحالات المتعلقة بالأمن الاسرائيلي على «حدّ زعمه»… أيّ عند حدود فلسطين المحتلة مع سورية ولبنان، مُحدِّداً حزب الله، كهدف «إرهابي» يجب القضاء عليه عسكرياً وسياسياً.
لجهة الحركة الأميركية الثالثة وهي جمع الحلفاء في بولندا، فهي جزء من إضفاء الطابع التاريخي على الاستراتيجية الجديدة، وإيهام الحلفاء بأنهم مجموعة مُقرِّرة.
يتبيّن بالاستنتاج انّ الحركة الأميركية الجديدة لديها مصلحة باستمرار إيران قوة ترهيب في الشرق الأوسط والاتجاه لتنظيم الوضع الدولي بالتفاهم مع الروس والصينيين… وهذا يستبعد فرضية الصعود الأوروبي الذي يعني أنّ القارة العجوز لا تزال داخل الجينز الأميركي ولن تكون قوة دولية مستقلة ومؤثرة، بدليل انّ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل قرّرت الانسحاب من العمل السياسي، فيما يتعرّض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحركة تظاهرات أفقدته مساعيه بالبحث عن دور عالمي لأوروبا.
بالتوازي يحاول الاميركيون إعادة الإمساك بالعراق أمنياً واقتصادياً على قاعدة الفتنة السنية ـ الشيعية وقواعدهم العسكرية المنتشرة في وسط تنافس محموم مع الحليف الإيراني الأول للعراق. وهذه محاولة لمنع تشكل وضع عراقي مستقل ومتّحد بوسعه أداء دور خليجي وسوري لا تريده واشنطن ولا السعودية.
لماذا هذه الاستراتيجية إذاً؟ لتنظيم التراجع الأميركي عبر تحشيد الحلفاء لمنع الانهيار والإبقاء على نقاط أساسية للتوتر القتالي مع حزب الله والدولة السورية لخدمة «إسرائيل» من جهة والمحافظة على عيّنات من النهج الاحترابي الأميركي من جهة ثانية.
فهل يمكن القول إنّ النظام العالمي ذاهب بسرعة نحو ثنائية أو ثلاثية قوى دولية؟
هذا ما كشف عنه التعقل الأميركي مع روسيا والاتفاقات التجارية مع الصين، ونتائج الحروب الأميركية في اليمن والعراق وسورية، وبالتالي لبنان.
ولم يكن أيّ نظام عالمي في السابق إلا نتاجاً للعلاقة بين القوتين العسكرية والاقتصادية، وهذه مرحلة تعكس تغييراً في موازين القوى… وتنتظر معاهدات دولية تلي «لقاء بولندا» للتعبير عن سريان مفاعيلها في رسم العلاقات الدولية الجديدة.
|