تتراكم الخلافات الأوروبية الأميركية على نحو غير مسبوق منذ انتصار «الحلفاء» بقيادة الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الثانية في 1945.
وهذا التاريخ الذي يؤرّخ لانتصار الحلف الأميركي الفرنسي البريطاني على المانيا واليابان وحلفائهما فإنه يؤرّخ ايضاً لبدء الهيمنة الأميركية على أوروبا الغربية والعالم وانحسار أدوار القارة العجوز من المواقع الريادية عالمياً الى دور المختبئ خلف الهيمنة الأميركية والملتقط لما يتناثر منها من فتات.
جرت محاولات تمرّد أوروبية بواسطة الرئيس الفرنسي الجنرال شارل ديغول في ستينيات القرن الماضي لكنها لم تنجح، بل زادت من منسوب التسلط الأميركي على أوروبا بشكل أصبح فيه كل رؤساء أوروبا الغربية وملوكها مجرد «منصاعين» للرغبات الأميركية من دون اي تذمر.
إلا أن انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989، دفع في اتجاه تقليص الحاجة الأميركية للقارة العجوز باعتبار انّ بلدان شرق أوروبا تهاوت الواحدة تلو الأخرى وسقطت في سلة واشنطن.
وكان ان وضع الكاوبوي الأميركي خطة لإعادة هيكلة الشرق الأوسط على نحو يجهض ايّ اعتراض مستقبلي عليه مشجعاً بريطانيا على التخلي عن الاتحاد الأوروبي في حركة تستهدف تدميره وذلك للمزيد من تحجيم قوة أوروبا وإبقائها في فلكه بأقلّ قدر ممكن من النفقات.
هناك أسباب دفعت بعض أوروبا الى الاستيقاظ وتتعلق بمرحلة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الذي أراد إعادة بناء الامبراطورية الأميركية بزعامته المطلقة، وبطريقة تطرح عنها الأعباء التي تتحمّلها للإمساك بحلفائها في العالم، خصوصاً أوروبا فلماذا تتحمّل واشنطن معظم نفقات «الحلف الأطلسي» وأكلاف الدفاع عن الخليج واليابان وجنوب شرق آسيا ولم يعد لديها منافس دولي باستثناء الصين الاقتصادية فقط التي لا تمتلك قوة عسكرية موازية.
هذا ما دفع ترامب الى الانسحاب من اتفاقيات المناخ والتجارة داعياً أوروبا الى تغطية تكاليف الحلف الأطلسي ومتبنّياً سياسات من شأنها منع أوروبا من بناء شبكات اقتصادية مع إيران وسورية والخليج والعراق وجنوب شرقي آسيا وأميركا الجنوبية.
لذلك كان يسمح لها بالفتات مقابل استئثاره بكامل الكعكة فيبدو ترامب وكأنه لا يريد شريكاً اقتصادياً بل مجرد منصاعِ لبلاده سياسياً وينفذ ما تمليه عليه.
ما أغضب أوروبا أكثر، وخصوصاً المانيا وفرنسا ومعهما الصين فهو اتجاه الإدارة الترامبية لإلغاء نظام العولمة واستبداله بحمائية تعيد إقفال الحدود السياسية وتمنع السلع الغربية من اختراقها، علماً انّ العولمة فكرة أميركية مخادعة تقوم على أساس إلغاء الحواجز السياسية أمام تدفق السلع في كلّ الاتجاهات.
وكانت الامبراطورية الاقتصادية الأميركية تعتقد انّ معادلة العولمة تؤمن لها سيطرة على الاقتصاد العالمي لأنها تنتج كلّ شيء تقريباً، فيما لا تنتج باقي دول العالم إلا سلعاً معينة، واكتشف الأميركيون انّ المانيا واليابان والصين نجحت في اختراق الأسواق الأميركية بجودة إنتاجها ورخصها قياساً بالسلع الأميركية، فأصيب الأميركيون بالجنون مباشرين بتطبيق مشروع «حمائية» تقفل الحدود في وجه السلع الأجنبية التي يوجد شبيه لها في الصناعات الأميركية.
هذه الإجراءات العقابية التي أراد ترامب الاقتصاص بها من أوروبا والصين واليابان، دفعت في اتجاه ولادة ذعر أوروبي من ميل أميركي يميل الى فرض تراجعات قاتلة عليها.
لقد بدت هذه المحاولات واضحة من خلال سياسات أميركية لإبعاد فرنسا والمانيا عن محور سورية والعراق وإيران واليمن، فهذه دول تريد واشنطن المشاركة الحصرية في الحلول السياسية لأزماتها وذلك بتمثيل كامل الغرب الأوروبي والأميركي في مفاوضات مع الروس، وبذلك يشكل الأميركيون الفريق الغربي الوحيد القادر على الإمساك بإعادة إعمار كامل الشرق الاوسط المنكوب وذلك بوضع اليد الأميركية على قسم من «غاز» المنطقة، أيّ طاقة العقود المقبلة. فتبقى واشنطن سيدة العالم تجرّ وراءها قارة عجوزاً لا تمتلك موارد طاقة وأوضاعها الاقتصادية متدهورة وليس لديها مدى من الجيوبوليتيك السياسي والاقتصادي.
هذه هي الأسباب التي تملي على قادة أوروبا وخصوصاً في فرنسا والمانيا البحث عن متنفسات اقتصادية لتأمين المستقبل.
إيران كانت الموضع الأول للتمرّد وبدأت قصتها بتوقيع اتفاق نووي معها في 2015 في مرحلة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وقعته أيضاً الولايات المتحدة وروسيا وبريطانيا والصين.
لكن ترامب الذي يريد الإمساك بإيران منفرداً كما يقول الأوروبيون، وذلك لأنّ طهران على تحالف مع اليمن وسورية والعراق، وكلها من الدول التي تتطلب إعادة إعمار، فقد أعلن انسحابه من الاتفاق النووي في محاولة خبيثة لتدميرها، منظماً عقوبات هائلة بحقها ومتوقعاً ان تحذو أوروبا حذوه، بيد أنّ القارة العجوز امتنعت عن الانسحاب من الاتفاق النووي وتؤمّن للإيرانيين بديلاً اقتصادياً يحميهم من عقوبات ترامب. فبدا الأمر وكأن هناك صراعاً أوروبياً أميركياً على إمكانات إيران الاقتصادية باستعمال أدوات تمويه اسمها الاتفاق النووي.
فأوروبا تعرف أن إيران عزفت عن «إنتاج النووي» وتعرف أيضاً انّ البنتاغون الأميركي يعرف هذا الأمر، فلماذا تذهب أميركا نحو تفجير الاتفاق وحصار إيران؟
ويبدو أنّ نجاح القارة العجوز في مسألة إيران يشجعها على تحدّي الأميركيين بشكل أكبر فلم يتورّع الرئيس الفرنسي ماكرون من اقتراح فكرة جيش أوروبي صرف يدافع عن قارته وذلك في خطوة جريئة لإنهاء خدمات الحلف الأطلسي المهيمن عليه أميركياً وذهبت المستشارة الالمانية ميركل الى المطالبة بأمن أوروبي موحّد وسط هلع أميركي عبر عنه ترامب بهجوم حادّ استهدف ماكرون لأنّ اتحاداً أوروبياً يجمع بلدان القارة سياسياً واقتصادياً مع جيش موحد وأمن موحد من شأنه تشكيل قوة تستطيع احتلال موقع في حركة إنتاج القرار الدولي، فتسقط قطبية الأميركيين الأحادية لمصلحة رباعية قطبية من الأميركيين والأوروبيين والروس والصينيين.
انّ هذه المشاريع ليست سريعة لكنها بدأت تعكس تمرّد أوروبا بعد 73 عاماً من هيمنة أميركية على القرار الأوروبي فهل ينجح هذا التمرّد؟
يحتاج الى وقت إضافي من جهة ونجاح الروس والصينيين في الإمساك بجزء هام من إنتاج القرار الدولي من جهة أخرى؟
والعالم يعرف أنّ التعددية القطبية تؤمّن الكثير من التوازن في القرارات الكبرى وتقلص الحروب وواشنطن تعرف أنها في المرحلة الأخيرة من تسلطها على العالم، فتحاول التصدي لكن السيول أكبر منها وتؤسّس لعالم متعدّد القطب في وقت لم يعد بعيداً.
|