تتكشّف الخطة الأميركية في سورية تدريجياً وبشكل تواكب فيه تراجعات القوى التي تستثمر فيها منذ نصف عقد تقريباً ولا تزال تأمل حتى الآن أن تلعب ما تبقى من قوى إرهابية أدواراً معرقلة لعملية تحرير كامل الاراضي السورية.
إن الدليل الأول على مواصلة الأميركيين الاستثمار في الإرهاب موجود في ادلب، فهناك يُصرّ مستشار وزير الخارجية الأميركي الى سورية جيمس جيفري على تحقيق وقف إطلاق نار دائم بين الجيش السوري وحلفائه وبين جبهة النصرة التي أصبحت هيئة تحرير الشام كما يلقّبونها حالياً، فهل يمكن للشرطة الأميركية في شيكاغو مثلاً تنظيم وقف لإطلاق النار مع العصابات فيها؟ وهل يقبل الجيش الأميركي توقيع هدنة مع إرهابيين يهاجمون الكونغرس أو البيت الأبيض؟ بالطبع لا وكانوا عند حدوث هذه الاحتمالات أبادوا الإرهابيين والأمكنة التي يختبئون فيها على السواء.
هؤلاء هم الأميركيون الذين لا يطبّقون القانون إلا في أميركا فقط، فلماذا لا يطبّقونه في سورية؟ الإجابة بديهية، إذ لديهم مشروع فيها يجهدون منذ عقد من أجل تحقيقه مستخدمين كلّ الاساليب: أولاً الإرهاب ومجموعة الدول الخليجية والأردن وتركيا مع دعم غربي أميركي متنوع.
اما الأهداف فهي السيطرة على الدولة السورية بكاملها، لكن فشل هذا المشروع وسيطرة الدولة على من أراضيها فرض على الأميركيين تغيير الخطة الى مستوى تفتيت سورية، فالمهمّ بالنسبة إليهم إضعافها وشرذمتها والتهام ثرواتها من النفط والغاز في شرقي البلاد.
ما يؤكد هذه الوجهة الجديدة هما حركتان أميركيتان متلاصقتان: الحماية الأميركية لجبهة النصرة في إدلب عبر الإصرار على وقف إطلاق النار معها. أما الثانية فتهديد واشنطن بالعودة الى مقررات جنيف إذا لم تشكل روسيا وإيران وتركيا الدول الضامنة «اللجنة الدستورية» قبل الرابع عشر من هذا الشهر.
وهذا بالطبع غير ممكن تقنياً وسياسياً.
لأنّ المشاريع واللجان تعكسون عادة نتائج الصراعات العسكرية إلا أنّ الأميركيين والاتراك والإرهاب يريدون تشكيل لجنة لصياغة الدستور تتضمّن أعداداً كبيرة مرجحة من أنصار التنظيمات الإرهابية في السعودية وتركيا والغرب، وبعض الأسماء المقترحة في اللجنة على علاقة بـ«إسرائيل». والترجمة الفعلية لهذا الامر انها الحالة الاولى في التاريخ السياسي المعاصر ينتصر مهزوم في النتائج السياسية لحرب خسرها، أليست هذه البدع الأميركية الخالصة؟
لذلك يستعمل الأميركيون إدلب لتأخير انتقال الجيش السوري الى شرق الفرات حيث يوجد جيش أميركي وقوات كردية قسد وإرهاب داعش والنصرة وبعض المتعاملين من أجنحة العشائر السعودية والإماراتية التمويل.
وهذا ما كشفه الناطق الروسي باسم الكرملين ديمتري بيسكوف بقوله إن الأميركيين يقسمون سورية ويحتلون أراضي فيها، ألا يأتي هذا الكلام متأخراً ولأسباب لا يعرفها إلا قمة هلسنكي التي جمعت الرئيسين الأميركي ترامب والروسي بوتين؟
بأيّ حال يُطبّقُ الأميركيون منطقاً خاصاً بهم فأنصار الله في اليمن غير شرعيين ويهاجمون الدولة اليمنية الشرعية حسب تحليلاتهم في حين أنهم ينتشرون في سورية في الجنوب والشرق من دون موافقة الدولة السورية فترى العقلية الأميركية الاستعمارية ان الحوثيين متمردون على دولتهم في اليمن اما الأميركيون في سورية فهم محرّرون للسوريين من دولتهم!
ماذا يفعل الأميركيون في سورية؟
يعرقلون التنسيق السوري العراقي المأمول بالسيطرة على قاعدة التنف العسكرية الأميركية في الجنوب ويدعمون منها ما بقي من إرهاب في مخيم الركبان وجواره، وينشرون عشرات القواعد في الشرق والشمال لدعم المشروع الكردي فيهما بهدف إنشاء دولة كردية تستولي على آبار النفط المؤكدة والغاز المرجحة.
ولإبقاء القوات الأميركية في شرق الفرات سمح الأميركيون لإرهاب داعش بالتوسع على مقربة من دير الزور وإنشاء كانتون صغير لهم، يسمح للسياسة الأميركية بالتذرع بالبيئة الإرهابية للبقاء في سورية، مُضيفين سببين آخرين خبيثين وهما: انسحاب «الميليشيات الإيرانية» منها وتشكيل اللجنة الدستورية المنظمة لمعاودة العمل السياسي في سورية وقد لا يتورّع الأميركيون عن الربط بين انتخاب رئيس للجمهورية من المعارضة السورية قبل انسحابهم منها.
يتبيّن أنّ الأميركيين يريدون دولة كردية متكاملة وكانتوناً صغيراً قرب دير الزور قد تتحجج بأنه للمعارضة السورية المعتدلة كما تشجع الاتراك على تأسيس دولة لتركمان سورية في الشمال والغرب قرب إدلب فتتشكل أربع دول تتبادل العداء والكراهية وتستنزف بعضها بعضاً مقابل منح عقود استثمار الغاز والنفط للشركات الأميركية التي قد تتعاون مع شركات عقارية لإعمار مناطق الكرد والإرهاب في سورية.
إنّ الأهداف الحقيقية للمشروع الأميركي لا علاقة لها بتلبية طموحات الكرد أو المعارضة والتركمان بقدر ما تريد عرقلة إعادة تأسيس الدولة السورية وفرض شروطها على الأطراف السورية والروسية والإيرانية بمواضيع تتعلّق بأمن «إسرائيل» والغاز والنفط السوريين وإعادة الإعمار في منطقة تمتدّ من سورية والعراق إلى إيران نفسها وقد تصل الى اليمن لأنها تعرف مدى العلاقة الحيوية بين سياسات هذه الدول.
فكيف لا يعرف البنتاغون مسبقاً أن دولة كردية لا بحر عندها ولا طرقات برية مفتوحة مع دول متعادية معها عراق سورية وتركيا وأجواؤها أيضاً مقفلة مع هذه الدول؟ كيف لا يعرف أنها دولة غير قابلة للعيش والاستمرار الا للمدة اللازمة لتطبيق المشروع الأميركي.
وهذا يكشف مدى استغلال الأميركيين للطموحات القومية للمكوّنات الصغيرة، بقي على هذه الأخيرة ان لا تتحوّل أداة لتدمير دولها ومواقعها في التاريخ.
|