زداد الصراع الأميركي التركي في شمال سورية ومناطقها الشرقية نتيجة لعجز الأميركيين عن اختراع حلّ بثلاثة رؤوس:
أولاً المحافظة على هيمنة الأكراد على طول نهر الفرات في منطقة تمتد من مشارف الحدود السورية العراقية الى جهات تقترب من الحدود السورية مع تركيا وذلك لتغطية المشروع الأميركي المتستر بالمشروع الكردي.
ثانياً: الإصرار على عدم استفزاز تركيا مما يتهددها من المشروع الكردي الذي يستهدفها حكماً اذا نجح في تأسيس كانتون له على اراضي شرقي سورية حتى اجزائها الشمالية.
ثالثاً: تجهدُ واشنطن لاستيعاب التهديد العسكري التركي ومنعه من اجتياح شرق الفرات للقضاء على المشروع الكردي بذريعة انه ارهابي يغطي المشروع الفعلي الاقليمي لحزب العمال الكردي التركي، لذلك تطلق واشنطن تهديدات متنوعة تحذر انقرة من بدء الهجوم.
هذه المحاولات الأميركية جاءت على شكل تهديد للمعارضات السورية ونصائح للاتراك.
لكنها دعت الطرفين الى عدم الاقتراب من القوات الأميركية والفرنسية اللتين تقطعان الطرق عن أي هجوم محتمل على الحليف الكردي، يكفي ان واشنطن حذرت بعنف الجيش الحر الذي زعم ان قواته المشاركة تتعدّى 15 الف عنصر.
هذا على المستوى العسكري أم في الخفاء يخوض الأميركيون مفاو ضات قاسية مع الاتراك لتجميد عملياتهم العسكرية لبضعة أشهر مقدمين اسباباً لا تقبضها انقرة الخبيرة بالمماطلة الأميركية التاريخية.
في هذا المجال يزعم الأميركيون انهم بحاجة الى عدة اشهر فقط للقضاء على آخر بؤر للإرهاب في شرق الفرات ويزعمون ان داعش التي كانت تملك 40 الف عنصر في هذه المناطق لم يعد لديها الا بؤر تنتشر في الشرق ما يفرض على الجيش الأميركي والكرد القضاء عليها قبل نموها مجدداً وعندها يصبح بالامكان مفاوضة انقرة على كل المواضيع، كما يزعم الأميركيون.
لكن انقرة تواصل حشد قواتها الضخمة في الشمال ولا تأبه للتهديدات الأميركية بدليل انها شنت غارات جوية استباقية على مواقع حزب العمال الكردستاني في مناطق سنجار العراقية البعيدة عن حدودها 106 كيلومترات مع قصف صاروخي ومدفعي اصاب نقاط كردية شمال سورية.
ماذا يريد الترك؟
يؤكدون أن الكرد في سورية والعراق هم من حزب العمال الكردستاني صاحب مشروع كردستان الكبرى ووحدات حماية الشعب الكردية السورية هي من أجنحته العسكرية.
لذلك يطالبون بسحب نقاط المراقبة التي نصبها الأميركيون عند حدودهم مع سورية قرب جرابلس ويرون انها عيون اضافية لمساعدة الكرد على تأسيس مشروعهم السياسي.
وللمزيد من الضمان يُصرون على تطبيق اتفاق لهم مع الأميركيين على سحب الكرد من مدينة منبج وتسليمها لهم، لكن الأميركيين لم يُنفذوا الاتفاق الذي كان يجب أن يتسلم الاتراك المدنية بموجبه منذ حزيران الماضي ويريدون أيضاً نقاط مراقبة لهم في جرابلس والسيطرة عليها بواسطة الجيش السوري الحر المزعوم التابع لهم، مؤكدين حقهم باسترداد مدينة «عين العرب» «كوباني» المحررة منذ 2014 بدعوى ان غالبية سكانها هم من العرب مقابل اقلية كردية هامشية.
وتقول انقرة ايضاً أن الكرد في مناطق شرق الفرات لا يشكلون ربع سكانها ما يعني انهم يسيطرون على مناطق للغالبية العربية وبالقوة المسلحة المدعومة من الأميركيين والفرنسيين.
تدفع هذه الخلافات السياسية العميقة المتواكبة مع استعدادات عسكرية ضخمة الى الجنوح نحو ترجيح احتمال حرب محددة بين الطرفين الكردي والتركي قد يتمكن الأميركيون من استيعابها في حال تطورها نحو الأسوأ.
ماذا الآن عن موازنات القوى السياسية؟
الأكراد مشروع أميركي يختبئ بشكل واضح خلف الادعاء بمحاربة الارهاب، لكنه يؤسس فعلياً لتفتيت سورية حسب الرغبات الأميركية، وتقسيمها على اساس وجود نفوذ أميركي كبير في الشرق وبعض الشمال مقابل نفوذ روسي مؤيد للدولة السورية في الغرب حتى حدود النفوذ التركي، وهذا واضح في دعوة الأميركيين للروس لتأييد مشروع انسحاب الإيرانيين والقوى المؤيدة لهم في سورية وهذا ما لم تقبل به موسكو ولا إيران ولا الدولة السورية.
من الممكن هنا اضافة الاتحاد الاوروبي الى جانب الجهة التي تؤيد الأكراد الى جانب قطر المؤيدة لأنقرة والسعودية والامارات المواليتين للمشروع الأميركي في سورية وبالتالي للكرد وبعض العشائر العربية الممولة منهما.
في الجهة التركية فلديها الائتلاف الوطني السوري الذي اعلن مباركته لغزوها العسكري المرتقب لما يُفترض انه وطنه والجيش الحر «المفبرك» الذي يدّعي ان مشاركته مع الجيش التركي في الهجوم قد تصل الى 15 الف جندي في وقت تقول صحيفة اللوموند الفرنسية إن قسماً قليلاً من عناصر الجيش الحر يتكلمون اللغة العربية وذلك في اشارة الى وجود قسم معتبر منهم من عناصر الجيش التركي ولدى انقرة ايضاً جبهة النصرة وحراس الدين من الاخوان المسلمين وبعض التنظيمات من تركمان سورية وأحزاب التوحيد.
اما لجهة الدول تحظى تركيا بتأييد ايراني في هجومها المرتقب يتقاطع مع تأييد روسي قال علناً ان الاكراد يؤمنون تغطية للاحتلال الأميركي لبلادهم، وطهران هاجمت ايضاً الدور الأميركي في شرق سورية وشمالها.
لماذا هذا التأييد الصريح من قبل طهران وموسكو مقابل رفض سوري رسمي لأي دور تركي او كردي على السواء، فدمشق تعتبر تركيا قوات احتلال والكرد في قسد «منشقين» عن الدولة ومتعاونين مع المحتل الأميركي.
يتبين بالتحليل أن أردوغان استشعر بحاجة الأميركيين الى التقدم في تشكيل مشروعهم الكردي وذلك بعد نجاح روسيا وطهران في تسهيل تشكيل اللجنة الدستورية السورية، وهذا يؤدي الى امساك مؤتمري استانة وسوتشي بمركزية الحل السياسي السوري عبريهما.
وهذا يشجع على الاعتقاد أن إيران وروسيا تريدان تحسين وضع تركيا قبالة المشروعين الأميركي والكردي ويحولان دون تأمين ظروف مؤاتية لتفتيت تركيا والعراق وإيران ايضاً، بتشجيع أميركا والسعودية للأكراد فيها.
ويبدو ان تركيا تعهدت بالمقابل لهاتين الحليفتين بإيجاد حل كامل لمشكلة ادلب تعيد السيادة السورية الكاملة اليها.
وبذلك يدخل الكرد مجدداً في «طاحونة الأمم» ومعهم معارضات سورية متوهمة أن لا يزال لديها الوقت للعودة الى وطنها وإعلان ولائها للدولة السورية المستعدة دوماً لاحتضان ابنائها الذين اخطأوا في حق وطنهم في ساعات غفلة وقلة تدبر ويأس.
|