الدولة اللبنانية في أسوأ مرحلة منذ تأسيسها الدستوري المستقل في 1948 فتحاول التفلت والتدبر على جاري عاداتها، ولا تنجح.. فتسعى الى متنفّسات خارجية ولا تجد أطرافاً مرتاحة للاستماع الى هواجسها.
أما الداخل فيبدو كتلة واحدة، مصابة باشمئزاز من دولة سطت على كامل موارده وتركته من دون حلول.
لذلك ترى هذا «الداخل» يسعى لتطويق الدولة، فارضاً عليها عدم حل مشاكلها على حساب الإمكانات الهزيلة التي يحوز عليها الموظفون والطبقات الفقيرة.
هناك إذاً صراع عنيف، لم يبدأ بعد.. ولا تظهر حلول مقبولة له.. دولة يمسك بها نظام سياسي استغل إمساكه بالطوائف وحاجات الناس «التأثير الخارجي المتنوع» للبنان حتى يمسك بعنقِ الدولة، سالباً ما تملكه بشكل مستوٍ منتظم، ومستولياً على ديون داخلية وخارجية رهنت البلاد الى أجل غير معلوم، وأفقرت الناس دهراً طويلاً وأفرغته مسبقاً من إمكاناته من الغاز والنفط المرتقبين اللذين لم يبدأ الاستثمار فيهما حتى الآن.
الدولة إذاً هي نظام سياسي طائفي ابتدأ منذ العام 2005 بالتحاصص بين زعامات الطوائف وارثاً نظاماً طائفياً ابتدأ مع الاستقلال بهيمنة مارونية إلى أن أمسك رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري فحوّله إمارة حريرية عملت بين 1992 ـ 2005 بمبدأ مراكمة الدين بانتظار السلام مع «إسرائيل»، وعلى أساس تطويع قيادات الطوائف المسيحية والاسلامية في خدمة الإمارة الحريرية الممثلة للتحالف الاميركي ـ السعودي.
بذلك تحول النظام السياسي طبقة تدافع اطرافها عن بعضها بعضاً، فتظهر للعيان وكأنها متنافسة، لكنها في العمق متحالفة الى حدود الانصهار، لان مصالحها مترابطة لتمكن هذه الطبقة من الإمساك بالطوائف التي يتكون منها المجتمع.. وسياسات التوظيف العشوائي التي لا علاقة لها بحاجات الإدارات بقدر تلبيتها لحاجات السياسيين الى أنصار يعملون في مكاتب الأحزاب وليس في إدارات الدولة، حيث يتقاضون منها الرواتب فقط.. وهم بالآلاف..
لذلك وبعد سبعة وثلاثين عاماً من سيطرة الحريرية السياسية وحلفائها في «كامل» الطوائف الأخرى من سنة وشيعة ودروز ومسيحيين، أصبح الوضع الاقتصادي غير قابل للاستقرار مهما أحدث السياسيون من تعديلات على موازنات وزارة المالية التي تشكل جزءاً منصهراً من مصالح الطبقة السياسية الحاكمة. فإذا كان «الإقليم الخارجي» لا يزال يؤمن تغطية لهذه الطبقة السياسية الطوائفية فإنّ امكانات النظام على الدين الخارجي والداخلي أصبحت مسدودة، والمساعدات الخارجية على ندرتها اختفت لتراجع إمكانات الدول الخليجية ومحاولاتها للضغط على الدولة اللبنانية لاستعداء حزب الله.
مقابل هذا الانسداد الكبير، تقف دولة لبنانية مترنّحة عليها مئة مليار دولار من الديون وتعجز عن تأمين الكهرباء والمياه ورفع النفايات وتأمين الوظائف في وقت ترتفع البطالة بين شبانه الى أكثر من 35 وسط تراجع نسبي في توفر العمل في الخارج. ما يعني ان البطالة تتجه إلى إرتفاع عمودي مقلق جداً.
هذا بالإضافة الى التضخم المستفحل وتراجع الاعمال في القطاع الخاص وتحويلات المغتربين.
أما في الجهة المجتمعية، فيوجد لبنانيون مصابون من دولتهم بكل أنواع الاهمال الناتج من أكبر حركة فساد يمكن لدولة أن تصل مستواها مقارنة بالإمكانات.
فكيف تمكنت الطبقة الحاكمة من الامساك باللبنانيين؟
الحقيقة أنها نجحت بمنع اللبنانيين من التحوّل مواطنين، ففرزت انتماءاتهم إلى طوائفهم ومذاهبهم، وحولت الإرشاد الديني من عبادة الله إلى تبجيل القيادات السياسية للطوائف وعلى مبدأ السمع والطاعة.
ولأن هذه الطريقة قد تؤدي الى انتفاضات داخل المذاهب في مراحل التعثر الاقتصادي، فوجد الزعماء طريقة في التوظيف العشوائي في الفئات الفقيرة حصراً الذين يشكلون غالبية طوائفهم مشكلين بذلك تنظيمات شبابية موالية لهم حصراً وعلى حساب الدولة وذلك أخذاً بعين الاعتبار ان الفئات القاتلة للنزول الى الشوارع هم فقراء الطوائف.
للتوضيح فإن التوظيف العشوائي لا يسدُّ الحاجات الفعلية للناس، لكنه يضعها على تخوم حالة الجوع وليس في وسطه، فتتمسك أكثر بالولاء للزعامات الطائفية خشية طردها من هذا «الحد الأدنى» الذي يصبح جنة بالنسبة إليها.
وهذه القاعدة هي المعمول بها لدى زعامات الطوائف كافة، حتى أن البعض يتندّر عن حالة عميد في الشرطة يقبض راتبه في إدارة رسمية، ويعمل مسؤولاً لدائرة حزبه في إحدى المناطق ولا يزال يقبض راتبه الرسمي.
هذا ما يجعل الصورة على الشكل التالي: دولة عاجزة مقابل مجتمع طوائفي عاجز لا يمتلك ادوات الدفاع عن الناس وهي الأحزاب والنقابات ووسائل الاعلام، حتى ان الدين الذي كان يجب أن يقف مع حاجات الناس يواصل دوره في تأكيد الولاء للسلطان..
إن هذين العجزين يزدادان تفاقماً مع محاولات الطبقة السياسية تجميل القطاع العام جزءاً من الحلول التسكيتية في الموازنة. وذلك مع اصرارها على الابتعاد عن كل ما يمس ولو بشكل سطحي امتيازاتها ومصالح حلفائها في المصارف.
إن جميع المحللين الاقتصاديين أعربوا عن سخريتهم من الموازنة المطروحة الذاهبة نحو خفض رواتب الموظفين مؤكدين أن الحل المستدام لأزمة لبنان تتعلق بالإمساك بالجمارك والإملاك البحرية المسروقة من السياسيين وأنصارهم وكذلك الموانئ والمطارات والمعابر ورفع الضرائب على أرباح المصارف ومنع التوظيف العشوائي وقمع الفساد الإداري الداخلي على الإنفاق وفي الصفقات، وخفض امتيازات السياسيين وكبار الإداريين فوق العشرة ملايين وبذلك تستقيم الموازنة.. وينتعش لبنان، لكن من يطالبون بهذه البرامج ينسون أنها تؤدي إلى ضرب الطبقة السياسية الطائفية الحاكمة، فلا يعود بإمكانها إرضاء زبانيتها وتوسيع مصالحها وامتيازاتها وإرضاء رجال الدين والقضاء، فتذهب ريحها، فتميل إلى التصادم على الحصص بين مكوناتها وتنتهي إلى الاضمحلال.
وهذا لا يحدث عادة إلا بتراكم موازين قوى تذهب الى استسلام الطبقة قبل ضربها أو تؤسس لانفجار اجتماعي ينهيها أيضاً.
ما نحتاج إليه إذاً هو تنظيم الاعتراض الاجتماعي الكبير وإيجاد مرجعيات له في النقابات والأحزاب.
وبذلك فقط يستطيع اللبنانيون إنهاء دولة الطوائف التي تواصل ابتزازهم حتى بداية الانفجار الاجتماعي الوحيد الذي يستطيع إعادة بناء جمهورية ثانية فعلية لمصلحة مواطن في وطن وليس طائفياً في دواوين طوائف.
|