إتصل بنا مختارات صحفية  |  تقارير  |  اعرف عدوك  |  ابحاث ودراسات   اصدارات  
 

ثلاثة إستفتاءات وكثير من الأسئلة!

أحمد أصفهاني

نسخة للطباعة 2016-11-10

إقرأ ايضاً


خلال الأشهر القليلة الماضية، وبالتحديد منذ حزيران المنصرم، شهد العالم ثلاثة إستفتاءات شعبية مثيرة للجدل. أسفر كل واحد منها عن هزات سياسية واجتماعية تتجاوز حدود الدول المعنية بالإستفتاء، وأعادت جميعها طرح تساؤلات جذرية تتناول جوهر العملية الديموقراطية التمثيلية بتجلياتها المختلفة سواء في دول عريقة بنظامها الديموقراطي مثل بريطانيا أو دول بالكاد خرجت من الحكم الديكتاتوري مثل كولومبيا.

لا بد من الإشارة أولاً إلى أننا سنتجاهل الإستفتاءات التي تجري في سويسرا بين الحين والآخر لأنها تدخل في سياق مختلف عن بحثنا هذا. وسنركز على إستفتاء كل من المملكة المتحدة (23 حزيران) وهنغاريا وكولومبيا (2 تشرين الأول). فكل واحد من هذه الإستفتاءات الثلاثة كان إشكالياً من حيث المسألة المطروحة للإستفتاء أو من حيث النتائج التي أسفر عنها. بل أن الإشكالية كانت موجودة أيضاً في نسب المشاركة، وفي تقارب النتائج.

كنتُ ذكرتُ في إحدى المقابلات التلفزيونية في لندن قبل يوم من فتح صناديق الاقتراع في الإستفتاء البريطاني حول عضوية الاتحاد الأوروبي أنه ستحدث هزة أرضية في أوروبا إذا ما صوّت البريطانيون للبقاء... أما إذا كان الاقتراع بالخروج، فإن زلزالاً قوياً سيهز الأسس التي قام عليها السلم الأوروبي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما سيمتحن صلابة قواعد الأنظمة "الديموقراطية" التي نشأت في أوروبا الشرقية بعد انهيار المنظومة الاشتراكية!

ووقع الزلزال، إذ صوّت البريطانيون للخروج وإن بنسبة ضئيلة (52% مقابل 48%، والإقبال على صناديق الاقتراع 72%). وهي نتيجة لم تكن متوقعة، فأصابت المؤسسة السياسية البريطانية والأوروبية حالات من البلبلة والارتباك والفوضى لم تقم منها حتى اللحظة، خصوصاً الحكومة البريطانية التي استقال رئيسها ديفيد كاميرون تاركاً لخلفه تيريزا ماي أن تتحمل عبء الضغط على زر الخروج لتفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة المنظِمة لعضوية الاتحاد الأوروبي.

وقد كشف التحليل الدقيق لنتائج الاستفتاء أن المجتمع البريطاني منقسم بحدة، ليس فقط حول عضوية الاتحاد لكن أيضاً حول مكانة المملكة المتحدة وموقعها من العالم. فإلى جانب تقارب الأصوات في الاستفتاء، برزت انقسامات جغرافية واضحة إذ أن إسكتلندا وأيرلندا الشمالية والعاصمة لندن صوّتت للبقاء في حين صوّتت للخروج مقاطعة ويلز وكبريات المدن الإنكليزية الشمالية. وظهرت أيضاً انقسامات بين الأجيال، إذ أيدت الخروج نسبة 80% من الذين تجاوزوا سن الخامسة والستين بينما أيد البقاء جيل الشباب بنسبة 65%.

أما إستفتاء هنغاريا فكان حول قبول أو رفض الحصة التي فرضها الاتحاد الأوروبي على دوله، ومن بينها هنغاريا، لقبول أعداد معينة من اللاجئين. ومع أن العرف يقتضي بأن تكون السلطات الحاكمة حيادية في دعوتها إلى الإستفتاء، إلا أن الحكومة الهنغارية اليمينية دعت إلى التصويت بالرفض. لكن لم يذهب سوى 43% من الناخبين إلى صناديق الاقتراع، علماً بأن 98% من الذين شاركوا صوّتوا برفض قبول المهاجرين اللاجئين في تلك العملية "الديموقراطية" التي وصفتها أوساط الاتحاد الأوروبي بأنها ذات توجهات عنصرية. وفي وقت لاحق تلقى فيكتور أوربان رئيس الحكومة اليمينية ضربة أخرى عندما فشل في الحصول على أصوات ثلثي أعضاء مجلس النواب الهنغاري لإقرار تعديلات دستورية تمنع لاحقاً من قبول أية حصص من المهاجرين قد يفرضها الاتحاد الأوروبي.

وأخيراً جاء استفتاء كولومبيا للمصادقة على إتفاقية السلام التي وقعتها الحكومة مع منظمة "فارك" اليسارية التي خاضت حرب عصابات مريرة على مدى العقود الماضية. وفي هذا الإستفتاء أيضاً لم تكن الحكومة حيادية لأنها الطرف الثاني في توقيع الإتفاقية، ومع ذلك صوت المشاركون ضد الإتفاقية بنسبة 50،2% مقابل 49،8% وذلك وسط إقبال ضئيل جداً لم يتجاوز 38%. ويلاحظ أن الفارق بين الرافضين والمؤيدين لم يتجاوز الواحد في المئة!

من حيث المبدأ العام، تتم الدعوة إلى الإستفتاء حينما ترغب السلطات الحكومية في أن تنأى بنفسها عن اتخاذ قرار حاسم في مسألة إشكالية تثير انقسامات حادة في صفوف الشعب، تاركة لصناديق الاقتراع أن تبعد عنها كأس الحسم المرّة. لكن الإستفتاءات الثلاثة التي نتناولها هنا لم تسفر عن نتائج حاسمة تضع حداً نهائياً للجدل الدائر حول مواضيعها. إستفتاء هنغاريا ظل عاصفة في فنجان إعلامي لأن نسبة الإقبال لم تصل إلى 50%، وهي النسبة الملزمة لتأكيد قانونية أية نتيجة. بينما شددت الحكومة الكولومبية على التزامها المفاوضات مع "فارك" لتعديل اتفاقية السلام بحيث تصبح مقبولة لدى غالبية الشعب. أما بريطانيا فقد دخلت نفقاً معتماً من الكباش الدستوري بين الحكومة ومجلس العموم والسلطات القضائية لن تتضح معالمه ونتائجه لأشهر عدة قادمة.

لكن ما يهمنا من كل هذه التفاصيل هو تناول مسألة الديموقراطية التمثيلية التي على أساسها جرت الإستفتاءات، والتي في ضوئها ستتقرر طبيعة العلاقة بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، ويتضح مصير عملية السلام في كولومبيا، وتتكشف المسارات العنصرية في السياسات الحكومية في هنغاريا. إن النتائج المتوقعة في هذه البلدان ستكون لها تداعيات مصيرية لعقود عدة وأجيال متعاقبة. فالأغلبية العددية كسبت جولة الاستفتاء وإن بفارق ضئيل، وحسب مفهوم الديموقراطية التمثيلية يتوجب على الحكومات أن تلتزم بما اختارته الأكثرية. لكن ماذا عن "الأقلية الخاسرة أو المعتكفة"؟ وهل من المنطقي أن يرسم الجيل الحالي، بالأرقام العددية المجردة فقط، مصائر الأجيال الجديدة إلى مدى غير منظور؟ وما العمل في حال أنه تبيّن للحكومة أن الالتزام بنتائج الإستفتاء سيرتب أضراراً جسيمة على مستقبل البلاد ووحدتها ومصالحها العليا؟

مفهوم الديموقراطية التمثيلية بالشكل الراهن المعمول به في الغرب لا يستطيع تقديم أجوبة مقنعة إلا إذا لجأت القيادات السياسية إلى ألاعيب تكتيكية هدفها الالتفاف على "التصويت الشعبي". ولذلك نجد في لندن الآن من يتحدث عن ضرورة تصويت مجلس العموم على قرار الانسحاب من الاتحاد قبل تفعيل المادة 50 من معاهدة لشبونة. في حين أعلنت الحكومة الكولومبية العودة مجدداً إلى طاولة المفاوضات لـ"تحسين" اتفاق السلام. أما الحكومة الهنغارية فاكتفت بإيصال رسالتها إلى الاتحاد الأوروبي تمهيداً لقبض ثمن سياسي أو مالي لاحقاً.

لكن يوجد نوع آخر من الديموقراطية أطلق عليه أنطون سعاده، مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه، إسم "الديموقراطية التعبيرية". فهو يقول في مقال "بحث الديموقراطيين عن عقيدة" بتاريخ 10 جزيران سنة 1942: "إن الديموقراطية إسم تنطوي تحته أشكال عديدة، وكل شكل منها له خصائص سياسية وإدارية تعطي نتائج تختلف عن التي يعطيها شكل آخر. والديموقراطية التي خبرتها الشعوب المتمدنة حتى اليوم لم تتمكن من حل الأضاليل الاجتماعية – الاقتصادية التي نشأت مع تقدم عهد الآلة، وارتقاء التخصص في الأعمال وتحديدها".

ولسنا الآن في صدد التوسع النظري بتناول هذا المفهوم، فذلك يتطلب دراسة معمقة سنتركها لمقال لاحق. غير أن المأزق البريطاني الحالي، وعلى غراره المأزق الكولومبي، يطرحان أمامنا نموذجاً جلياً عن الفارق في التطبيق العملي بين "التمثيلي" و"التعبيري". إن قبول الحكومتين البريطانية والكولومبية بنتائج الاستفتاء، على الرغم من قناعتهما بالأبعاد المستقبلية المحتملة، هو "الديمقراطية التمثيلية" بعينها. أما إذا اقتنعتا بأن مصلحة بلادهما حاضراً ومستقبلاً، ومصالح الأجيال المقبلة، تستلزم منهما إمّا موقفاً مغايراً أو تطويراً ذكياً لموضوع الإستفتاء، فهذه تكون "الديموقراطية التعبيرية" التي تعبّر عن مصالح الأمة بكل فئاتها وعلى مدى أجيالها المتعاقبة.

لقد اعتبر سعاده أن فكرنا قادر على "إنقاذ الديموقراطية من الهلاك، وذلك بأن يزيل ما دخل إليها من المفاسد ويدخل إليها تفكيراً ينطبق على ما وصل إليه الناس من العلم والمعرفة، فتصير صالحة لنفع الإنسان وتكفل حقوق الإنسان من كل مهاجمة وتعدٍ". (خطاب في سانتياغو، تاريخ 20 أيار سنة 1940). وهذا هو التحدي الكبير الذي يواجهه العالم خلال الألفية الثالثة، في الدول المتقدمة كما في الدول النامية أو المتخلفة... بغض النظر عن طبيعة أنظمتها السياسية الراهنة.

 
شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية غير مسؤولة عن النص ومضمونه، وهو لا يعبّر إلا عن وجهة نظر كاتبه
جميع الحقوق محفوظة © 2024