تلقيتُ تعليقات عدة على مقالي الأخير "القوميات الفئوية في زمن التشرذم"، بعضها يستحق العودة إليه بصورة أعمق في مقالات لاحقة. لكن تعليقاً محدداً من رفيق عزيز أثار مسألة مهمة ترتبط بكيفية تعامل الفكر القومي الاجتماعي مع مفردات بعينها يمكن أن تحتمل مفاهيم أو مدلولات أو مضامين مختلفة. جاء في رسالة الرفيق (ز.) العبارة التالية: "وجدتك مستخدماً لكل المفردات Terms التي يسوّق لها الـ Mainstream Media وليس ما ننهج به نحن بناءً على الأسس العقائدية التي نعتقد بها نحن".
وكما هو ملاحظ فإن العبارة عمومية في نصها، وكنتُ أتمنى لو أن الرفيق العزيز استفاض أكثر في هذه الناحية الحيوية من تفكيرنا القومي الاجتماعي، خصوصاً وأننا بأمسّ الحاجة الآن لتوسيع آفاق المنهج القومي الاجتماعي في تناول كل المفردات، قديمها وحديثها وما قد يستجد منها في مستقبل الأيام. إذ أن المعضلة، بالنسبة إليّ على الأقل، لا تكمن في المفردات من حيث هي اشتقاق لغوي بل في المفاهيم والمدلولات والمضامين التي تُعطى لتلك المفردات. ذلك أن المفردات بالمطلق ترتبط جدلياً بالزمان والمكان اللذين يحددان طبيعة فهم الناس لما تعنيه هذه المفردة أو تلك.
نادرة هي المفردات التي نحتها أنطون سعاده مؤسس الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه. لكنه كان مبدعاً إلى أبعد الحدود في إسباغ مفاهيم ومدلولات ومضامين مختلفة على المفردات التي كانت قيد التداول في التفكير السياسي والاجتماعي خلال النصف الأول من القرن العشرين. لنأخذ على سبيل المثال مفردة "النهضة" التي توسع استعمالها في سوريا ومصر (وإلى حد أقل في العالم العربي) خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر. فنحن نجدها عند المعلم بطرس البستاني واليازجيين والدكتور خليل سعاده وعبد الرحمن الكواكبي وفرح أنطون وأدباء المهجر وغيرهم... لكن مضمونها مختلف بشكل أو بآخر عند كل واحد من هؤلاء. أما سعاده فقد أعطى هذه المفردة مفهوماً لم يسبقه إليه أحد: "إن النهضة لها مدلول واضح عندنا وهو خروجنا من التخبط والبلبلة والتفسخ الروحي بين مختلف العقائد إلى عقيدة جلية صحيحة واضحة نشعر أنها تعبر عن جوهر نفسيتنا وشخصيتنا القومية الاجتماعية، إلى نظرة جلية قوية إلى الحياة والعالم".
بهذه العبارة يصبح مفهوم "النهضة" عند حاملي الفكر القومي الاجتماعي مميزاً تماماً عمّا قصده المفكرون والأدباء ما قبل سعاده بكلمة "النهضة". وبالتالي لا يجوز لنا كقوميين اجتماعيين أن نصف تلك المرحلة بأنها "عصر النهضة"، وإنما هي فقط مرحلة "ما قبل النهضة". لأن النهضة المعاصرة في الأمة السورية، من وجهة نظرنا، لم تبدأ إلا مع الحركة القومية الاجتماعية التي وضع أسسها سعاده، وأنشأ لها إطاراً تنظيمياً هو الحزب السوري القومي الاجتماعي. وهكذا فإن استخدام مفردة "النهضة" عند القوميين الاجتماعيين لا يحتمل تأويلات متضاربة.
قلنا إن المفردات تتأثر بعوامل الزمان والمكان. وليس أدل عل ذلك من مفردة "الأمة" التي أعطاها سعاده أوضح مفهوم في كتابه المرجعي "نشوء الأمم". نجد كلمة "الأمة" في أقدم النصوص باللغة العربية، خصوصاً في الوثيقة التي كتبها النبي محمد بن عبدالله لأنصاره بعد أن هاجر من مكة إلى يثرب (المدينة المنورة لاحقاً). وجاء فيها التالي: "المهاجرون والأنصار أمة واحدة من دون الناس..." و"إن اليهود أمة مع المؤمنين...". ونفهم من هذا النص أن "الأمة" تتحدد بالدين، فالأنصار والمهاجرون المسلمون "أمة" تختلف عن اليهود الذين هم بدورهم "أمة مع المؤمنين"!
"أمة" سعاده هي على طرفي نقيض مع "أمة" وثيقة المدينة (يثرب). في "نشوء الأمم" نحن أمام مفهوم للأمة يقوم على التفاعل الأفقي والعامودي في المتحد الاجتماعي، وليس على الانتماء الديني. ولذلك يرتكب بعض الباحثين، وبينهم قوميون اجتماعيون للأسف الشديد، أخطاء منهجية عندما يستخدمون المفاهيم والمدلولات والمضامين المعاصرة لمفردات "الأمة" و"القومية" و"المجتمع" و"المتحد" و"الشعب" و"الدولة" في كتاباتهم عن المراحل الأولى لنشوء الإسلام وقيام سلطة النبوة، انتقالاً إلى سلطة الخلفاء الراشدين الأربعة.
حتى الآن كنا نركز على المفردات المتداولة في حياة سعاده. لكن ماذا عن المفردات المستجدة منذ رحيله الجسدي قبل سبعين سنة، ومنها "العولمة" و"الشعبوية" (بشقيها اليميني واليساري) و"القومية العرقية" و"صراع الحضارات" و"التعددية" و"التنوع الثقافي" وما شابه ذلك؟ وهذا بالظبط ما قصده الرفيق (ز.) في تعليقه الذي أشرنا إليه أعلاه.
قبل محاولة الإجابة على السؤال السابق، لا بد من الإشارة إلى أن سعاده نفسه كان يعيد صياغة أو توضيح المفاهيم والمدلولات والمضامين لعدد من المفردات بالتوازي مع تغير الظروف السياسية والاجتماعية في الأمة. "العروبة" التي واجهها سعاده بعد عودته إلى الوطن كانت قد تغيرت عمّا كانت تعنيه في فترة تأسيس الحزب مطلع الثلاثينات... ولذلك استعمل عبارة "العروبة الواقعية" كمفهوم قومي اجتماعي جديد في مواجهة "العروبة الوهمية". كما أنه لاحظ بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أن "الديموقراطية" التي تطبق في الأنظمة الغربية فشلت في معالجة الأزمات الاجتماعية والاقتصادية، فكان الرد القومي الاجتماعي الدعوة إلى "الديموقراطية التعبيرية" بوصفها الطريق العملي لخلاص المجتمع الإنساني.
واليوم نجد أنفسنا، نحن الذين نحمل الفكر القومي الاجتماعي ونعمل وفق منهجه الواضح ونسير بهديه الصحيح، أمام مفردات جديدة أو متجددة لم تكن على أيام سعاده. ومن الطبيعي أن نتصدى لها مستخدمين المبادئ التي هي قواعد لانطلاق الفكر، وعلى أساس أن العقل هو الشرع الأعلى. ولا خوف علينا من الاجتهاد طالما أن البوصلة تشير دائماً إلى مصلحة الأمة التي هي فوق كل مصلحة. يجب أن لا نخشى من المبادرة، ولا نقلق من التصدي للمعضلات الفكرية العويصة. قلقنا يجب أن يكون في مكان آخر وصفه سعاده في رسالة إلى معروف صعب بتاريخ 21 أيلول 1946: "إن قلقي على مصير الأمة من التيارات السياسية الجديدة وجزعي على الحركة القومية الاجتماعية وهي تواجه هذه التيارات بعدما أصابها من إرهاق وتضعضع قوى، شديدان جداً ويصعب وصف مبلغهما بالكلام...".
|