لم يكتفِ الحجاج بن يوسف الثقفي بقتل عبدالله بن الزبير بعد الانتصار عليه في مكة سنة 692 ميلادية، بل أمر بصلبه ومنع إنزال جثمانه من مكان الصلب كي يُصار إلى دفنه. وكانت أسماء بنت أبي بكر، أم عبدالله، تشاهد جثة ولدها المصلوب وهي عاجزة عن فعل شيء. وأخيراً توجهت إلى الحجاج وقالت له عبارتها المشهورة: "أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟" فخجل الحجاج وسمح بدفنه!!
تخطر على ذهني هذه الحادثة، والمعاني المرتبطة بها، كلما قرأت ما يكتبه بعض القوميين الاجتماعيين عن "الأزمة" الحزبية. فلا يكاد يمر يومٌ إلا وتحمل لنا وسائل التواصل الاجتماعي مقالاً أو أكثر يحاول كاتبوها توصيف أو تحليل طبيعة "الأزمة" ومسبباتها. ولا اعتراض لنا على تلك المحاولات، بل هي مطلوبة بإلحاح في ظل الظروف غير الطبيعية التي تعيشها التنظيمات الحزبية حالياً. لكن الأمور زادت عن حدها، وبتنا نشعر بالتكرار الممل في عملية جلد للذات لا تُنتج سوى الآلام المجانية.
وقد لاحظنا أن الذين يكتبون في "أزمة" الحزب يندرجون في ثلاثة أصناف:
أولاً، الذين يصفون "الأزمة" ويحددون أسبابها، ومن ثم يقدمون بعض الأفكار لمعالجتها. وهم قلة بين جموع المتنطحين للكتابة عن الحزب، ولذلك فإنهم مثل "صوت صارخ في البرية"، تتحطم أفكارهم على جدران التعنت التنظيمي والمواقف الفئوية.
ثانياً، الذين يصيبون في توصيف "الأزمة" فقط من دون أن يمتلكوا أية فكرة للخروج منها. ولذلك نراهم يسقطون في التكرار كونهم يصرون على الاستمرار في تناول "الأزمة"، فينطبق عليهم قول الشاعر "لكل شيء إذا ما تم نقصان".
ثالثاً، وهم الصنف الأخطر. ونقصد بهم المتطفلين على الفكر القومي الاجتماعي، والمغرضين الذين يتسللون من باب "الأزمة" ليصوبوا سهامهم نحو العقيدة القومية الاجتماعية وزعامة سعاده والمفهوم التاريخي للحزب السوري القومي الاجتماعي. وهؤلاء يعمدون إلى إزكاء نار الخلافات كلما خمدت شعلة النقاش، تحقيقاً لأهداف مشبوهة!
لكن عناصر هذه الأصناف الثلاثة يلتقون عند نقطة مشتركة، ألا وهي مواصلة المماحكات والسقوط في المهاترات حتى بعدما قِيل كل ما يمكن قوله في "الأزمة". لذلك تخفق في جوانح الغالبية العظمى من الرفقاء الأصفياء الأنقياء أسئلة موجعة: "أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟" أوليس في وجودنا القومي ما يستحق أن نضيء عليه في وجه من لا يرون سوى الجانب المظلم من تاريخنا؟ هل باتت مهنة بعض القوميين الاجتماعيين أن ينصبوا الكمائن ليتصيدوا الهنّات والأخطاء الصغيرة ويجعلوا منها "قضايا" مصيرية خلافية؟
يصدر إعلان عن جائزة باسم سعاده للأعمال الأدبية، فلا يجد بعضهم سوى النقد الشديد للمبالغ المالية التي قد تُخصص لهذا المشروع الثقافي... أما الفكرة الرائعة بحد ذاتها فليست تعني شيئاً لهم. يتوفى أنيس النقاش بسبب الكورنا، فتنشب معركة حامية بين أبناء الصف الواحد. تقرر "مؤسسة سعاده للثقافة" إستعادة ذكرى العدوان الأميركي ـ البريطاني على العراق، فنسمع من يعترض على أننا لم نستعمل كلمة "سورية الشرقية"، أو أننا لم نتخذ موقفاً من صدام حسين! يحتفل القوميون بميلاد سعاده، فيطلع علينا مَنْ يتفذلك في معنى سلطات الزعامة ماضياً وحاضراً. وقس على ذلك عشرات المسائل التي يحوّلها بعض رفقائنا من "حبة إلى قبة".
لا أحد منا يمكنه نكران وجود أزمة حزبية عميقة تحتاج منا تفكيراً عملياً هادئاً ورصيناً. لكن الخطورة الكبرى تكمن في أن نجعلها مناحة يومية تطغى على أصالة العقيدة القومية الاجتماعية التي تثبت راهنيتها وأصالتها ومصداقيتها وسموها في كل لحظة وعند كل منعطف قومي. تمعنوا في مصير العقائد الأخرى خلال تاريخنا الفكري المعاصر، وخذوا العبرة الصادمة: أين أصبحت الإيديولجيات الماركسية والاشتراكية؟ ترى من الذي ما زال يتعامل بجدية مع "القومية العربية" بكل مدارسها وتنوعاتها؟ أما العراق والشام فهما مؤشران دامغان على "النجاح الباهر" الذي حققه البعث العربي الاشتراكي؟ ناهيك طبعاً عن إشكاليات الفكر الديني السياسي كعامل أساسي في تفتيت وحدة المجتمع القومي. ولا نريد التطرق هنا إلى النزعات العنصرية الشعبوية المتفشية في بعض الدوائر، فهي أدنى من أن نضعها بموازاة الفكر القومي الاجتماعي.
إسمعوا ما يقول لكم سعاده:
"لا تـجعلوا قضيتكم صغيرة لئلا تدلّوا على أنّ نفوسكم صغيرة. لا تنزلوا قيمة نهضتكم ومؤسساتها إلى درك القضايا الصغيرة الـحقيرة (...) إنّ لـحزبكم تاريخه. وهو تاريخ جهاد وبطولة وعظمة وارتفاع نحو الـمثل العليا الـجميلة. وإنّ لزعيمكم سيرة تعليمه وجهاده وبطولته. فلا تـجعلوا للشكوك والظنون سبيلاً إلى تـحقير هذه القيم الأساسية الـجوهرية في نهضتكم القومية الاجتماعية الـمباركة (...) إرفعوا نفوسكم عن الدنايا من كل نوع، وعن جميع الـمسائل الـحقيرة الشائنة، لتكونوا جديرين بنعمة النهضة السورية القومية الاجتماعية وبالـحياة الـمثالية الـجميلة العزيزة التي تؤهلكم لها تعاليمها ومناقبها ونظرتها السامية إلى الـحياة والاجتماع والكون". (رسالة إلى أنطون ضاحي بتاريخ 2 آذار 1946. الأعمال الكاملة ـ الجزء 11، صفحة 41).
|