"الدولة الإسلامية في العراق والشام"، التي اصطلح على تسميتها بـ"داعش"، ماتت في حلب، وتلفظ أنفاسها اليائسة في الموصل، وتدخل أطوار الحشرجة الأخيرة في الرقة ودير الزور. هذه التطورات الميدانية المتسارعة تدفع المراقبين والمخططين السياسيين إلى أن يطرحوا سؤالاً ملحاً وهو: ماذا بعد هزيمة "داعش" في العراق وسوريا؟
من الطبيعي أن تتنوع الأجوبة وتختلف نظراً إلى تنوع واختلاف الخلفيات الاستراتيجية التي ينطلق منها هؤلاء في نظرتهم إلى مستقبل منطقة الهلال الخصيب بعد هذه السنوات العجاف! خصوصاً وأن الحدود "الوطنية" لدول سايكس ـ بيكو تداعت نهائياً، إما بفعل تمدد "داعش" وسيطرتها على مساحات جغرافية واسعة أو من خلال جهد مضاد اخترق الحدود ليشكل تحالفاً قادراً على التصدي لها.
وقد لاحظنا أن الغالبية العظمى من احتمالات "ما بعد داعش" تركز على الفراغ الميداني والسياسي الذي ستخلفه هزيمة "داعش"، على اعتبار أن المشاركين في "الانتصار" هم مجموعة قوى إئتلافية تلتقي فقط عند هدف القضاء على "الإرهاب" قبل أن تفترق حول مشاريع إقليمية ودولية متباينة. فاللاعبون على الساحتين العراقية والسورية كثر للغاية، ومن الطبيعي أن يسود الغموض والتربص في ما بينهم عندما يحين موعد القطاف وجني الأرباح.
لكن هل هذه هي المسألة الأكثر أهمية بالنسبة إلى مستقبل بلادنا؟
نطرح هذا السؤال لأننا لم نقرأ أو نسمع من يتناول مصير "داعش" بعد إلحاق الهزيمة بمشروع "الخلافة" الذي أعلنه أبو بكر البغدادي في الموصل قبل ثلاث سنوات بالتمام والكمال!
لقد نجح الإعلام المحلي والعالمي في ترسيخ صفة الإرهاب لهذه الجماعة. وهي صفة حقيقية تماماً، عززتها الإرتكابات الفظيعة التي أقدم عليها عناصرها في كل مكان وطأته أقدامهم. غير أن ذلك الوصف يغيّب عن أنظارنا مسائل أخرى لا تقل أهمية عن مسألة "الإرهاب". ونقصد بذلك أن "داعش" هي ظاهرة مذهبية سياسية حزبية اجتماعية إقتصادية ذات ارتباطات إقليمية ودولية... بقدر ما هي تنظيم مسلح يستخدم العنف الوحشي المنفلت من كل القيود بهدف تحقيق مكاسب سياسية وميدانية واضحة.
المسلحون الذين سيطروا على الموصل، ثم أعلنوا قيام "الخلافة"، تشكلوا من تحالف "غير مقدس" يضم جماعات أصولية وبقايا حزب البعث العراقي وعناصر عسكرية سابقة من المؤيدين لصدام حسين وبعض العشائر المتضررة من حكومة بغداد المركزية وأطراف أخرى ذات مصالح خاصة. هذه هي التشكيلة التي تمكنت من ترسيخ سلطاتها في ثاني أكبر مدن العراق اعتماداً على بيئة حاضنة محلياً وبيئة داعمة إقليمياً.
أما في سوريا (الشام)، فقد استوعبت "داعش"، ثم ابتلعت، العديد من الجماعات الأصولية السلفية المحلية. كما ساعدت سياسة غض النظر التركية عند الحدود المفتوحة في شمال سوريا على وصول ألوف "الجهاديين الدوليين" لتعزيز صفوف "داعش"، في حين كانت الأسلحة والمعدات والأموال والخبرات العسكرية تتدفق من الجوار الإقليمي بكرم حاتمي تحت شعار "إسقاط النظام السوري"، والذي تبنته أيضاً الولايات المتحدة الأميركية وبعض دول أوروبا.
لكن هل كانت "داعش" هي التنظيم الوحيد المصنف إرهابياً في سوريا والعراق؟ ماذا عن "جبهة النصرة" التي تضعها الأمم المتحدة والمجتمع الدولي في نفس الخانة الإرهابية، وهي التي تسيطر فعلياً على محافظة إدلب وتتواجد على نطاق واسع قرب الحدود مع الأردن؟ هل لاحظتم أن الحديث عن "النصرة" غائب تماماً عن الإعلام في خضم الحرب على "داعش"؟ بل ماذا عن عشرات الجماعات الأصولية التكفيرية المسلحة التي تحمل فكر "داعش" و"القاعدة" ولا تقل دموية عنها، والتي تسيطر على جيوب ومناطق في أنحاء عدة من سوريا؟
مما لا شك فيه أن "داعش" ستُهزم ميدانياً، وستخسر بالتالي المساحات الجغرافية المتبقية لها في العراق وسوريا خلال الأسابيع أو الأشهر المقبلة. لكن المهم بالنسبة إلينا ليس فقط من الذي سيملأ الفراغ الناجم عن إندحارها (على أهميته الكبيرة)، وإنما إلى أين سيتوجه عناصرها المنهزمون، وفي أي تنظيم سينخرطون، ولصالح أية جهة إقليمية أو دولية سيقاتلون! فالإنتصار العسكري يستطيع القضاء على الآلات الحربية، غير أنه يقف عاجزاً أمام الاعتبارات المذهبية أو السياسية أو الاجتماعية التي تؤمن "البيئة الحاضنة والداعمة" لهذه المجموعات الجاهزة في كل لحظة لتغيير لونها وجلدها حسب الطلب.
فلنتذكر أن القوات الأميركية والأطلسية تمكنت من هزيمة حكومة طالبان الأفغانية في أسابيع قليلة سنة 2001، وقضت على القسم الأكبر من تنظيم "القاعدة" هناك. لكن سرعان ما أنتج ذلك التنظيم عشرات الجماعات التي تحمل فكر "القاعدة" في أنحاء العالم. واستطاعت القوات الأميركية أن تنشئ "الصحوات السنية" لكي تجهض تجربة الزرقاوي في العراق، غير أن الفكر الأصولي التكفيري عاد ليتمظهر على شكل فتنة مذهبية مزقت النسيج الأهلي العراقي سنة 2008... وربما كان ذلك من الأسباب التي مهدت لما حدث في الموصل سنة 2014.
لا يكفي فقط أن يتحقق الانتصار العسكري على "داعش" وعلى غيرها من الجماعات التكفيرية المماثلة. وليس مهماً بالدرجة الأولى من سيملأ الفراغ الأمني بعد التطهير الكامل للموصل والرقة وحلب ودير الزور وغيرها. بل يتوجب علينا أن نتطلع إلى أبعد من إعطاء الأولوية لإعمار الدمار المادي، فالخلل الذي أصاب البنية الإنسانية أخطر بكثير مما لحق بالبنية التحتية. ولكي نضمن المستقبل الآمن لأجيالنا المقبلة، علينا أن نعمل في سياقين حيويين متكاملين:
أولاً، محاربة الفكر التكفيري الإقصائي بعقيدة توحّد المجتمع إنطلاقاً من هوية تسمو فوق الولاءات الدينية والطائفية والعرقية.
ثانياً، تنمية هذا المتحد الاجتماعي اقتصادياً وأمنياً وسياسياً بحيث يتولى هو التصدي لتلك الجماعات الإقصائية بدلاً من أن يتحوّل، عندما تتبدل الظروف، إلى بيئة حاضنة أو داعمة أو منتجة لها.
|