العدوان الأميركي على الأراضي السورية كان متوقعاً. وهو لا علاقة له بحادثة الغازات السامة في بلدة خان شيخون إلا من باب الذرائع والتبريرات التي تخفي أهدافاً بعيدة المدى في ما يتعلق بالحرب على سوريا الدولة والمؤسسات والمجتمع والبنى التحتية والموقع الجيوـ إستراتيجي.
ولكي نفهم ما يجري بعيداً عن الضجيج الإعلامي الذي يراد منه حرف الأبصار عن التطورات المستجدة، يجب علينا النظر إلى القرار الأميركي في سياقين منفصلين ومتكاملين في آن واحد: دور هذه الضربة العسكرية في المشهد الأميركي الداخلي، ووظيفة الضربة في الإستراتيجية الجديدة التي ترغب إدارة دونالد ترامب في أن تنتهجها في سوريا تحديداً والعالم العربي عموماً.
نحن نتعامل مع رئيس أميركي مفطور على الـ SHOW BUSINESS. أي على اعتبار اللقطة التلفزيونية أو السينمائية أمام الكاميرا هي لحظة القرار الحاسم. الأضواء الخاطفة والتركيز الإعلامي الآني هي القول الفصل الذي يجر إلى إجراءات متسرعة... حتى ولو كان كلام الليل يمحوه النهار! قبل 24 ساعة من حادثة خان شيخون، كانت إدارة ترامب، من الرئيس نفسه إلى وزير خارجيته إلى وزير دفاعه إلى مندوبته في الأمم المتحدة، تتحدث عن الرئيس السوري بشار الأسد كـ "شريك محتمل" في الحل السوري. فجأة إنقلبت الصورة 360 درجة من دون أن يتاح لمجلس الأمن الدولي حتى مجال تكليف لجنة دولية محايدة للتحقيق في الجريمة.
ترامب، الناجح جداً في انتهاز اللحظات المناسبة لتحقيق أفضل الصفقات، وجد في البث الإعلامي الممنهج من خان شيخون ما يؤمن له تحقيق مجموعة واسعة من "الإنجازات" لتعزيز وضعه الرئاسي الذي يعاني اهتزازات سياسية معقدة. وهكذا أطل على مواطنيه الأميركيين بوصفه رئيساً ذا حسّ إنساني تجاه المدنيين السوريين رغم أنه هو الذي وقع قراراً تنفيذياً بمنع "اللاجئين" السوريين من دخول الولايات المتحدة، وبصفته قائداً عسكرياً لا يتردد ـ على نقيض سلفه أوباما ـ في اتخاذ القرارات الصعبة حتى لو كانت ضد حلفاء روسيا التي يتهمه خصومه بالتواطؤ معها للفوز بمنصب الرئاسة. وهو اختار أهون الخيارات العسكرية المتاحة له، إطلاق صواريخ بعيدة المدى على هدف محدد من دون التورط في مواجهة جوية مع الدفاعات السورية والروسية، ومن دون إرسال قوات خاصة ربما تتعرض لخسائر بشرية كما حدث قبل أسابيع قليلة في عملية لوحدات البحرية الأميركية في اليمن!
طبعاً لا نستطيع تجاهل الحملة الإعلامية المنظمة والممنهجة والجاهزة سلفاً لاستغلال مأساة المدنيين السوريين في خان شيخون، بغض النظر عن هوية مرتكب هذه الجريمة. لكن التوقف عند أبعاد هذه الضربة الصاروخية المحدودة وغاياتها لا يكفي وحده لفهم طبيعة العدوان الأميركي على السيادة السورية. وكذلك من غير المعقول أن نتصور، ولو للحظة واحدة، أن عفوية ترامب وتصريحاته العشوائية المتناقضة، يمكن لوحدها أن تفسر التغير الجذري في ممارسات الإدارة الأميركية مقارنة بما كان يتم الترويج له خلال الحملة الانتخابية لجهة عدم التدخل عسكرياً في سوريا.
إذا تفحصنا بتمعن ملامح السياسة الخارجية لإدارة ترامب كما تبدّت لنا خلال الأشهر الثلاثة الأولى من ولايته، فماذا نجد؟
هناك ثابتان إستراتيجيان واضحان حتى الآن لكل من يريد أن يرى الأمور على علاتها وليس كما ترسمها وسائل الدعاية المبرمجة عربياً وعالمياً. الثابت الأول هو السعي إلى إنشاء تحالف أو تفاهم بين إسرائيل وعدد من الدول العربية التي قطعت أشواطاً بعيدة في التنسيق العلني والسري مع الدولة الصهيونية. والثابت الثاني هو العمل على تطويق إيران والحد من نفوذها في المنطقة. وهما هدفان يكمل أحدهما الآخر، وإن كان الأول منهما يتضمن مسألة إضافية تتمثل في "بذل الجهد لحل أزمة المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية"! وكل مَنْ يقرأ ما بين سطور البيان الختامي للقمة العربية الأخيرة التي عُقدت في الأردن يضع يده على آليات المسار المقرر للمضي قدماً نحو هذين الثابتين.
قد يكون العدوان الأميركي على السيادة السورية "ضربة تحذيرية" حسبما وصفها عدد من المسؤولين الأميركيين وحلفائهم الغربيين. غير أن السكوت عنها بحجة "عدم التصعيد"، كما سمعنا من مسؤولين سوريين، هو الخطأ السياسي الجسيم الذي سيشجع الولايات المتحدة ودولاً إقليمية أخرى على رفع سقف المطالب والمزيد من التدخل في الشؤون السورية الداخلية... ثم توظيف كل ذلك في مشروع إنجاز الثابتين الإستراتيجيين اللذين أشرنا إليهما أعلاه. ولذلك نحن نرى ضرورة القيام بالخطوات التالية في أسرع وقت ممكن:
أولاً، لقد أخطأت روسيا وإيران في مساعيهما إلى إعادة تأهيل تركيا الأردوغانية من خلال مفاوضات الأستانة. إذ أظهرت أنقرة أنها جزء لا يتجزأ من المخطط التدميري المُعد لمنطقة الهلال الخصيب، وأن خلافها مع "حلفائها" الأطلسيين والأوروبيين لا يمس سوى القشور الخارجية، وأنها ستبقى أداة إقليمية مفيدة أطلسياً وذات مطامع معروفة في الجمهورية السورية والعراق. وهذا الواقع يستدعي إعادة نظر من قبل موسكو وطهران، ليس فقط لجهة عدم فعالية مفاوضات الأستانة وإنما لوضع حد لتورط تركيا مباشرة وعلى أعلى المستويات في دعم كل الجماعات المسلحة في سوريا، الإرهابي منها و"المعتدل"!
ثانياً، الإنتقال من مجرد ترداد الحديث عن أهمية التنسيق بين دول الهلال الخصيب، خصوصاً بين دمشق وبغداد، إلى وضع الخطط الإستراتيجية العامة بالتنسيق مع موسكو. فقد أصبح واضحاً للجميع أن الميدان واحد والمعركة واحدة والنتائج التي قد تترتب عليها ستكون واحدة. ولبنان ليس في منأى عن أية تداعيات مستقبلية في هذا الشأن.
ثالثاً، العدوان الأميركي على سوريا حتى لو كان محدوداً يجب أن لا يغلق باب ما حدث في خان شيخون. فمن الضروري أن تبادر دمشق إلى المطالبة بتشكيل لجنة تقصي حقائق دولية محايدة ونزيهة برعاية الأمم المتحدة أو من دونها. ذلك أن استخدام الغازات السامة والكيماوية يمكن أن يتكرر طالما أنه "نجح" في تحقيق الغاية منه هذه المرة. فلا أحد يريد ان يبقى هذا السيف مسلطاً على رقاب السوريين أينما كانوا وإلى أية جهة انتموا.
|