لا نريد أن نثقل على القراء الأعزاء بحديث ذي شؤون وشجون حول القانون الذي جرت بموجبه الانتخابات النيابية اللبنانية قبل أيام قليلة. إذ لا فائدة ترتجى من أي كلام عن قانون وُضع أساساً على مقاييس طبقة سياسية أعماها الفساد والتسلط، بحيث ما عادت تعطي أي اهتمام للرأي العام الشعبي أو للمصالح الوطنية العامة. وهو قانون أريد له ان يعيد إنتاج الطبقة ذاتها، لكن تحت ستار وهمي أطلقوا عليه زوراً وبهتاناً لقب "النسبية".
وكذلك لا نعتقد بأن الغالبية العظمى من المواطنين اللبنانيين يعنيها من قريب أو بعيد مصطلحات مثل "الصوت التفضيلي" و"الحاصل الانتخابي"، طالما أن الناتج الحقيقي على الأرض هو إعادة تدوير القيادات السياسية والحزبية نفسها... أو تركيب الأبناء والأحفاد والأصهرة وأبناء العم والخال على المقاعد النيابية المطوّبة باسم العائلة الإقطاعية كابراً عن كابر. ولا يغيّر من هذه المصيبة حدوثُ خرق هنا أو تبدّل هناك، فهذا من مستلزمات الديموقراطية الطائفية والإقطاعية على الطراز اللبناني المميز!
يمكننا أن نضيّع أشهراً عدة من أعمارنا في تحليل طبيعة التوازنات التي أفرزتها الانتخابات في المجلس النيابي العتيد. لكن التقدم النسبي هنا والتراجع النسبي هناك لن يقدما ولن يؤخرا في بنية سياسية قائمة على التوازن الطائفي والمحاصصة المصلحية. فالحكومة الجديدة ستكون على شاكلة مكونات المجلس، والمجلس نفسه هو على شاكلة القانون الانتخابي، والقانون نفسه صاغه الذين أرادوا إغلاق الباب نهائياً في وجه أي مطلب بقانون عصري يشكل الإنتماء الوطني الخالص محوره المركزي... فكان هذا القانون الهجين الذي لا مثيل له إلا في "لبنان الكرامة والشعب العنيد".
لقد كشف القانون عن ثغرات خطيرة جداً، لكن أفظعها على الإطلاق موضوع "اللائحة". في القانون النسبي الحضاري (وهو طبعاً غير قانوننا اللبناني) تتشكل اللائحة من حزب له برنامج إنتخابي واضح، وعلى أساسه تتم دعوة الناخبين إلى التصويت له. وفي حال تأليف اللائحة من حزبين أو أكثر، فإن هذه القوى تتفق سلفاً على برنامج الحد الأدنى وتعلن على الملأ المشاريع التي تنوي تنفيذها في حال وصولها إلى السلطة. وغالباً ما تكون هذه الأحزاب متقاربة في مواقفها السياسية بحيث يسهل التوصل إلى برنامج إئتلافي مؤقت يرضي القواعد الشعبية لكل الأطراف المعنية.
ولنعد الآن إلى "لوائح" القانون اللبناني، فماذا نرى؟
المرشح الفردي لا يستطيع خوض المعركة منفرداً، لذلك يضطر للبحث عن لائحة تتيح له مقعداً فيها، حتى ولو تناقضت جذرياً مع الأفكار التي يؤمن بها (هذا إذا كان مؤمناً بأي شيء سوى الوصول إلى ساحة النجمة!). وعليه أيضاً أن يقدم فروض الطاعة والولاء للقوى الفاعلة في دائرته الانتخابية، بما في ذلك بذل المال الوفير لصاحب القرار في "اللائحة"... أي بكل صفاقة: شراء المقعد. والأرجح أن الدفع لا يتوقف عند جيوب قيدوم اللائحة، بل سيجد هذا المرشح نفسه مجبراً على البذل لمراكز القوى الأخرى من أجل نيل "الصوت التفضيلي" الذي قد يكون مدخلاً لتعويض المدفوعات عندما يحالفه الحظ ويدخل جنة المجلس النيابي ليبدأ جني أرباح إستثماراته المسبقة.
من جانب آخر، تبيّن أن اللائحة الواحدة في منطقة معينة يمكن أن تضم خليطاً متنافراً من المرشحين، لا يجمعهم الحد الأدنى من التفاهم. بل نستطيع القول إن اللائحة كانت تحتوي على كم هائل من المتناقضات السياسية التي لا يتم فهمها إلا في سياق المثل القائل "حكلي تَ حكلك". وحدث في هذه الانتخابات أن قوة مهيمنة في دائرة ما خاضت منافسة شرسة ضد قوة أخرى كانت متحالفة معها في دائرة أخرى... وهكذا على المكشوف، من دون الالتزام بالحد الأدنى من البرامج الانتخابية.
ولذلك وجد الناخبُ المتحررُ من العصبيات الطائفية والإقطاعية نفسه أمام معضلة وجدانية. إذ حتى لو أراد اختيار مرشح يحظى بثقته، لكنه غير مقتنع بالمرشح الآخر على اللائحة ذاتها، فهو مجبرٌ على الاقتراع إلى اللائحة بكامل خليطها غير المتجانس. والنتيجة في هذه الحالة مجلس نيابي قائم على توازنات طائفية تضحي بالمصالح الوطنية على مذبح الفساد الذي أصبح علامة مميزة للحياة السياسية، في هذه الحالة مجلس نيابي قائم على توازنات طائفية تضحي بالمصالح الوطنية على مذبح الفساد الذي أصبح علامة مميزة.
|